تلك شيم العسكر دوماً! فما لم يجبروا على التخلي، يمضون في تدمير البلاد إلى النهاية. ورغم كل ما في السودان من ثروات طبيعية وبشرية طائلة، تبقى التنمية والنجاح الاقتصادي مجرد احتمال في غياب شرعية جامعة، وفي غياب التفاف المجتمع لبناء الدولة.
بحجة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، استأثر العسكر بما تبقى من السلطة، لكنهم بانقلابهم هذا كانوا يمهدون لكارثة اليوم التي تهدد وجود الدولة السودانية.
لكن، رغم وحشية القمع العسكري، استمرت القوى الحية في المجتمع، من نقابات وشخصيات ونخب، وبيروقراطية حكومية، وأحزاب تقليدية وقوى قبلية، بالسعي لمنع الكارثة، والتفاوض لأجل انتقال متدرج نحو الدولة المدنية، على أمل أن يصبح الجيش منصة لإدارة المرحلة الانتقالية تعبر من خلالها البلاد نحو السلم الأهلي والمدني.
لكن التركيبة المتناقضة للكتل العسكرية التي أطاحت بالبشير، هي في الأصل ملغومة! وكانت تنذر في وضوح بمقدمات الكارثة الراهنة. فحين تخلّت ميليشيات "الدعم السريع" عن البشير، ومن ثم دعمت انقلاب 2012، الذي قطع طريق التحول المدني، تمكنت من فرض نفسها شريكاً في السلطة الجديدة، لتصبح لغماً كامناً في قلبها.
نشأت الجنجويد أي "قوات الدعم السريع" تحت زعامة "الجنرال دقلو - الملقب بحميدتي"، كميليشيا قبلية. ثم استخدمتها حكومة البشير لقمع تمرد دارفور بشكل وحشي. نجم عن ذلك في حينه نزوح حوالى 2.5 مليوني شخص، ومصرع 300 ألف آخرين. بل أصدرت المحكمة الجنائية الدولية وقتها اتهاماً ضد مسؤولين حكوميين في حكومة البشير وقادة (قوات الدعم السريع - الجنجاويد) بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لكن ذلك لم يمنع حكومة البشير من تنمية موارد "حميدتي"، لتمنحه مناجم الذهب في جبل عامر، والثروات الحيوانية وموارد البنية التحتية. بل أصدر البشير عام 2017 قراراً يضفي الشرعية عليها كقوة أمنية مستقلة. ثم ما لبثت هذه الميليشيا أن شاركت في علمية الإطاحة بالبشير لتصبح شريكاً في السلطة العسكرية الجديدة.
يصل تعداد "الدعم السريع" إلى 100 ألف جندي، بينهم كثير من المرتزقة الأجانب. ولتعويض افتقادها لأي بنية هيكلية مؤسساتية عسكرية تلجأ هذه الميليشيات للعنف الأقصى، لإرهاب خصومها، وفرض أتاوات باهظة، الأمر الذي أكده مجلس الأمن في اجتماعه المخصص للسودان.
تملك قوات الدعم السريع مقارَّ رئيسية في دارفور، لكنها استولت لاحقاً على العديد من المواقع الاستراتيجية في الخرطوم، وكردفان. وتدل المؤشرات الحالية على أن الصراع لم ينشب بين الجيش وحميدتي بسبب حصص تقاسم السلطة فحسب، بل يرتبط بقوة برفض حميدتي السير قدماً في الاتفاق الإطاري الهادف لفتح الطرق أمام مشاركة متدرجة للقوى المدنية في الحكم.
إذاً، تغمس ميليشيات "الدعم السريع" أظافيرها في هذا الجسد السوداني المنهك والغني بالثروات والنخب. وكما تقع الطيور على أشكالها، لم يجد "حميدتي" حليفاً دولياً لطموحه السلطوي أفضل من روسيا. وفي لقائه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً سارع إلى التعهد بمنح روسيا قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، ليقحم هذا البلد المنهك في لب الصراع الدولي. بل تنشر منصات إعلامية غربية مرموقة معلومات عن تواجد قوات "فاغنر" في السودان لـ"تدريب" ميليشيات الدعم السريع واستخدامه كمنصة للتوسع نحو القرن الأفريقي. كما تشير المصادر الغربية للمسارات التفصيلية التي تسلكها موارد الذهب السوداني في مغاسل الأموال الروسية.
تبرز مخاطر هائلة أمام السودان. وتتضافر العوامل الخارجية والداخلية لتضعه أمام كارثة منقطعة النظير، فما بين التدخلات الأجنبية والحروب الأهلية في الإقليم وانتشار التنظيمات الإرهابية، وبين العوامل الداخلية المتمثلة بانهيار مقومات الشرعية، وسيادة منطق القوة والنهب وتسلط أمراء الحرب، وتراجع سلطة الدولة المركزية في المحافظات النائية، وتداعي الأمن الجماعي واستمرار النزاعات الإثنية والقبلية، والفشل التنموي، أمام كل ذلك، قد تتحول البلاد إلى ثقب اسود آخر، يجر اليه القرن الأفريقي ودول البحر الأحمر.
يخشى محللون غربيون من توسع بصمة ميليشيا "فاغنر" الروسية في السودان. فبعد أن دعمت أنظمة انقلابية في مالي وبوركينا فاسو، ونفذت عمليات لمكافحة التمرد في جمهورية أفريقيا الوسطى، يحذر المسؤولون الفرنسيون من الميليشيات الروسية في سعيها لتكريس دور الكرملين في منطقة الساحل المضطربة.
تحمل المعارك التي اندلعت منذ أيام في السودان كل علامات الحرب الأهلية. ولا يقتصر الأمر على الصراع ضد الميليشيات الانقلابية، بل تتصاعد المخاوف من انهيار الأمن والسلم الأهلي في الولايات السودانية الطرفية البعيدة، بما ينذر باندلاع صراعات لا قدرة لأحد على احتوائها. وإذ تدمر هذه الحرب آمال الاستعادة السريعة للحكم المدني، يمكن أن يتحول القتال إلى صراع طويل الأمد يهدد دول الإقليم.
وباستثناء قوات "فاغنر" الروسية، تحجم الأطراف الإقليمية والدولية عن التورط مباشرة على الأرض، بل تعوّل على القوى المدنية لإطفاء نار الفتنة وتلافي الأسوأ. ويشكل الجيش في هذا السياق، الصخرة التي يستند اليها مجمل بنيان الدولة، لتصبح الحلقة الرئيسية لمستقبل البلاد وهي المحافظة على تماسكه ومنع انجرافه نحو الفوضى. بل من المحتمل جداً أن يؤدي الصراع داخل الجيش إلى نسف مقومات الجيش والدولة معاً. لذلك يبدي بعض ضباط الجيش ميلاً متزايداً لتسريع فتح الطريق أمام الاتفاق الإطاري والمشاركة مع القوى المدنية.
يشكل وقف إطلاق النار وتعزيز سلطة الشرعية، المخرج الوحيد على المدى القريب. وتلعب مصر دوراً مركزياً في فتح الطريق نحو عودة الاستقرار للسودان، ولا يعود ذلك للعلاقات التاريخية والتواصل الإثني والجغرافي ولا للعلاقات الإنسانية والاقتصادية فحسب، بل بسبب تمسك مصر بدعم الشرعية وعلاقاتها الوثيقة بالجيش السوداني.
إنها الساعات وليست الأيام القليلة المقبلة، تلك التي ستحسم مصير السودان، إما نحو الفوضى والمجهول أو طريق السلامة.
لا مصلحة لأحد في السودان في تدمير الدولة. الجميع خاسرون وأولهم المواطن والشعب السوداني. وفي حين يمكن استبعاد التدخل المباشر للقوى الدولية في هذا الصراع، لا تبقى في يدنا من حيلة إلا الارتكاز على اليقظة الوطنية السودانية.
--------
النهار العربي
--------
النهار العربي