استعرض المشاركون التحديات الأهم بنظرهم والتي تواجه مجتمعات منطقة بحر الأبيض المتوسط التي تتميّز بتعددية دينية ومذهبية وعرقية وثقافية تُدار غالبًا بالحزم وبالقمع وبالترهيب وبالترغيب في دول الجنوب عمومًا. أما في دول الشمال صاحبة "القيم والمبادئ الديمقراطية"، فقد استسهلنا، ولحقبٍ طويلةٍ أن نشير إلى اعتمادها ثقافة المواطنة، كما القيم السامية لحقوق الانسان، وهي التي تُمنع عن شعوب الجنوب المؤلفة من رعايا. ويتم هذا المنع عبر سياسات حكامها أولاً، كما وعبر سياسات حكام الشمال الذين يجدون أنفسهم أقرب الى ديكتاتوريات الجنوب ما دامت تحمي حدودهم من الإرهاب ومن الهجرة وتؤمّن الاستقرار الإقليمي واستمرار تدفق المواد الأولية لمصانعهم ومصافيهم. وبالتالي، فهم يقدمون الدعم الاقتصادي والسياسي والأمني لها مبررين انتهاكاتها المستدامة ومشيطنين معارضيها.
وفي العقود الأخيرة، صار من الضروري والمفيد أيضًا التطرق إلى مسألة إدارة التنوّع في دول الشمال الديمقراطية وذلك لأسباب عدة. فلقد شهد الشمال، ومنذ بداية القرن الماضي، وبنسب متفاوتة، قدوم موجات من المهاجرين اليه من الجنوب المختلف دينياً وثقافيًا. كما أن النزعات الانفصالية دينيًا وعرقيًا وسياسيًا بدأت بالانتشار في باطنه بسبب بروز عوامل ضعف المشروع الأوروبي الذي كان يُعوّل عليه. إضافة إلى تأثير العامل الخارجي الذي بدأ، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1989، في تأجيج كل ما بمقدوره إضعاف الموقع الأوروبي دوليًا عبر التدخل المباشر او غير المباشر في كل مواضع الخلل. تحت هذا البند، يُخال حصر المسؤولية في روسيا البوتينية الطامحة إلى إضعاف القارة القديمة، أوروبا، إلا أن بعض السياسات الأميركية أيضًا تُعزّز من انحياز الموقف نحو المواجهة والتوتر بين المكونات في الدول الديمقراطية ذاتها.
وابتعادًا عن التشعّب في الموضوع، وتركك مسألة التنوّع في دول الشمال لمقال آخر، لم يؤسس في دول الجنوب، عن قصد سلطوي ووعي عقائدي مسبقين، لإدارة واعية وناجحة لمسألة التنوّع. ويخال للبعض بأن السبب قد يكون بسيطًا. لكنه في الواقع معقّد التركيب رغم حصره في انعدام الديمقراطية وفقدان ثقافة المواطنة. ففي الدول التي يكون مواطنوها مجرد رعايا ـ عن سابق إصرار وتصميم من الحاكم بأمرهم ـ لا يملكون أي خيار في حاضرهم ولا في مستقبلهم، لا يمكن لإدارة عليا لظاهرة التنوع، مهما ادّعت، إلا أن تكون كاذبة ومنافقة وبعيدة عن التحقق.
في لقاء بروكسل، قدّم سفيرٌ أوروبي متقاعد، تم تعريفه بالخبير في شؤون الشرق الأوسط والعالم العربي، شهادة شديدة الانحراف عن الواقع وكثيرة الاقتراب من الوهم. وحسب تعبيره شديد الدبلوماسية، فقد أمضى أربع سنوات في دمشق وكان لا يتمكن من التمييز، في احتفالات الاستقبال التي يحضرها، بين المسلم والمسيحي، بين السني والشيعي، وإلى آخره من هذه المصفوفة المرتبة بعناية استشراقية حتى الثمالة. ولقد استخلص بالتالي بأن إدارة التنوع "الناجحة" قد توصّلت إلى تغييبٍ إيجابيٍ للاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية المتوقعة في مجتمع متعدد كالمجتمع السوري. وبعيدًا عن السخرية من المقياس الذي اعتمده السفير الأشم، أي حفلات الاستقبال التي يهيمن فيها الكذب التعبيري والتصويري والسياسي والاجتماعي وحتى ربما الجنسي، فإن اعتقاده القائم على تبسيطٍ يقترب حد السذاجة من الظواهر الموجودة في البلاد التي خدم فيها دبلوماسية بلاده، يكاد يدفع على استنتاج نوعية منابع "الفكر الواعي" في إدارة السياسات الأوروبية تجاه دول الجنوب. وهنا يمكن طرح السؤال التالي: هل السذاجة أعمتهم أم أنها الإرادة في تجميل / تشويه الصورة الحقيقية أمام صانعي القرار في بلدانهم؟
يكاد يكون التلازم حتميًا بين نجاعة إدارة التنوع ورسوخ المبادئ الديمقراطية في أي مجتمع كان. ويمكن القول بأنه وحتى في المجتمعات الراسخة في الديمقراطية، فعندما تتعرض الديمقراطية إلى ضعف بنيوي، فسينعكس ذلك حتمًا على إدارة التنوع فيها. وهذا ما يثبت من خلال مراقبة علمية هادئة للتطورات الجارية في دول الشمال اليوم. صعود للتطرف على أنواعه، تمييز متفاقم ضد الآخر المختلف، وربما قريبًا، بروز صراعات دينية ومذهبية.
-------
المدن