بامتناعه عن فتح الجبهة في إطار “وحدة الساحات”، لنصرة غزة، تزايدت التسريبات حول تباينات النظام مع طهران. لكنّ أوساطاً مراقبة أو معارضة ترى أنّ نفوذ طهران بسوريا متجذّر أكثر بكثير ممّا يعتقده البعض، وبإمكانه استيعاب الخلافات. حتى لو شملت الشكوك الإيرانية تواطؤ بعض أجهزة النظام بتمرير معلومات عن قيادات “حرس الثورة” الذين قتلتهم إسرائيل في سوريا. الفريق الحاكم يعتقد أنّ بإمكانه تحصيل مكاسب مقابل مطلب عربي قديم بضرورة ابتعاده عن إيران، على الرغم من اليأس العربي من ذلك. وهو يأمل على الأقلّ مساعدة القادة العرب، لدى أميركا ودول أوروبا، على رفع العقوبات عنه.
الخيبة العربيّة من وعود النّظام :
بعض الدول العربية المعنيّة بسوريا خاب ظنّها بتحقيق تقدّم في العلاقة مع النظام. فالأخير أتقن العام الماضي التملّص من تنفيذ ما اتُّفق عليه قبل قمّة الرياض وأثناءها. فالتفاهمات معه تناولت ضبط تهريب الكبتاغون، ومباشرة إعادة النازحين وخطوات الحلّ السياسي وفقاً للقرار الدولي الرقم 2254. وصاغ وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي خطّة مبرمجة لهذا الغرض. وصدرت في “بيان عمّان” الشهير بعد اجتماع وزراء خارجية السعودية، مصر، الأردن والعراق مع نظيرهم السوري فيصل المقداد قبل سنة. وهي مهّدت لعودة سوريا للجامعة العربية، ثمّ اعتمدتها القمّة وفق منهجية الخطوة مقابل خطوة.
تأجيل لجنة الاتّصال… واستمرار تهريب الكبتاغون :
أولى مؤشّرات الخيبة الدولية والعربية كانت:
1- تأجيل اجتماع لجنة الاتصال العربية السداسية حول سوريا التي تشكّلت في قمّة الرياض. وهي تضمّ السعودية، الأردن، مصر، العراق، لبنان والأمانة العامّة للجامعة العربية. كانت مهمّتها متابعة تنفيذ ما قرّرته قمّة الرياض، ولم تجتمع سوى مرّة واحدة في آب الماضي. وكانت ستلتئم الأربعاء الماضي في بغداد، لكنّ الجانب الأردني طلب التأجيل بسبب إخلال النظام بوعوده بوقف تهريب المخدّرات. وأيّدت الرياض التأجيل، على أن تثار مواضيع الخلاف في اجتماعات وزراء الخارجية العرب في المنامة. وكان العام الماضي حفل بوقائع إحباط عمليات التهريب على حدود البلدين، وشملت إدخال السلاح أيضاً إلى الأردن. واستخدم الجيش الأردني الطائرات لقصف معامل الكبتاغون داخل الأراضي السورية، وعُقدت اجتماعات أمنيّة مشتركة لم تصل إلى نتيجة. كما أنّ الدول الخليجية ضبطت شحنات مخدّرات آتية من سوريا.
2- قدّم النظام في الاجتماعات الأمنيّة المشتركة مع الأردن والسعودية معطيات ومبرّرات لاستمرار التهريب، منها:
– ضعف الدولة وأجهزتها في مواجهة عصابات التهريب بسبب الحرب.
– الأزمة الاقتصادية الخانقة بفعل العقوبات الأميركية والدولية، التي دفعت مواطنين إلى التعامل مع المهرّبين.
– تسيطر في بعض المناطق الحدودية ميليشيات خارج نفوذ الدولة وأجهزتها. وكان ذلك تلميحاً إلى المجموعات المدعومة من إيران، أو من المعارضة المدعومة من تركيا.
– أطلع الأمن السوري أجهزة الأمن الشقيقة على أسماء مهرّبين من باب التعاون، فتبيّن أنّ بعضهم موقوف في السعودية. وقدّم الأمن الأردني أدلّة على مشاركة ضبّاط أمنيين سوريين في التهريب على حدوده مع محافظة درعا.
بيدرسون يحذّر من تمزيق سوريا :
3- إنّ اللجنة الدستورية المؤلّفة منذ 2019 واجتمعت 8 جولات في جنيف دون نتيجة، مجمّدة، ويقترح النظام التئامها في السعودية. الأخيرة مع ترحيبها تدرس مدى فرص نجاحها في التوصّل إلى مسوّدة دستور جديد بعد سنوات من النقاشات. لكنّ المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا “غير بيدرسون” استبعد في تقريره لمجلس الأمن في 25 نيسان الماضي إمكان اجتماعها. والسبب كما قال “قضايا لا علاقة لها بسوريا”. اعتبر بيدرسون أنّ “المبادرات التي اتّخذتها أطراف أخرى (يقصد روسيا والدول العربية..) لا تتناسب مع خطورة الوضع”… وحذّر من أنّ “جميع المؤشّرات تسير في الاتجاه الخاطئ”. وتحدّث عن “مزيج من غياب الإرادة السياسية، وتضافر قوى الطرد المركزي للعمل على تمزيق سوريا، أراضيها ومجتمعها وهياكلها”.
ارتياح للنأي عن وحدة السّاحات :
أقصى ما توصّلت إليه دول خليجية هو استجابة الجانب الأميركي لطلبها تجميد المضيّ في قانون مناهضة التطبيع مع النظام. تأجّل إقراره في مجلس الشيوخ بعدما أقرّه مجلس النواب. يردّ بعض المطّلعين من السوريين الجهد العربي في هذا المجال إلى الآتي:
– الارتياح إلى نأي النظام بنفسه عن الانخراط في مخطّط طهران حول “وحدة الساحات”، فحال دون فتح الجبهة السورية بموازاة حرب غزة. وهذا يساهم في الحؤول دون توسيع الحرب.
– إنّ بعض الدول العربية يولي أهمية لوقوف الأسد، سواء خلال الحرب السورية أو حرب غزة، ضدّ “الإخوان المسلمين”. وبعضها يتقاطع معه على السلبية حيال حركة “حماس”، التي ساهمت في إبعاد الجبهة السورية عن حرب غزة.
التباين السّوريّ الإيرانيّ ولكن…
مع استحسان التباين بين دمشق وطهران خلال الحرب الدائرة، فإنّ لدى نخب في سورية وفي بعض الدول العربية مقاربة مركّبة لذلك هي الآتية:
– صحيح أنّ طهران تمارس ضغوطاً على النظام، تارة بالمطالبة بدفع الديون وأخرى باستهداف الجيش الإسرائيلي في الجولان من الجبهة الجنوبية، لكنّ التبرّم من الانتشار الإيراني على الأرض السورية يتّسع حتى بين مناصري النظام جرّاء القصف الإسرائيلي لدمشق وغيرها الذي يطال السوريين.
– طهران تتعاطى بصبر واطمئنان إلى قدرتها على إدارة هذا الخلاف من موقع الطرف الأقوى القادر على احتوائه. ويذهب البعض إلى القول إنّها ليست متضرّرة من استخدام النظام حديث التباين في العلاقة بينهما مع الدول العربية لتخفيف الحصار عليه.
الوجود العسكريّ والاستثمارات الواسعة :
– على الرغم من انكفاء قادة “حرس الثورة” بعد توالي الضربات الإسرائيلية، يبقى لدى طهران أعداد مقاتلين في بلاد الشام تناهز مئة ألف. وهؤلاء من جنسيات إيرانية، عراقية، لبنانية، باكستانية وأفغانية وغيرها من الميليشيات الموالية لطهران. وحصول بعضهم على الجنسية السورية شكّل قاعدة متينة لوجودهم.
– الاستثمارات الاقتصادية الإيرانية في سوريا توسّعت من خلال حيازة شركات ومؤسّسات ومساحات عقارية تصعب العودة عنها. وهذه أنشأت مصالح متداخلة مع جهات سوريّة على الأرض، ومع لبنانيين موالين لـ”الحزب” على الحدود وفي محيط دمشق.
– أصحاب الرساميل، أغنياء الحرب السوريون، مقرّبون للنظام أو متموّلون عاديّون، يرون أنّ تبادل المصالح بالاتفاقات التجارية يخفّف الخلافات.
– عناصر الميليشيات الموالية لطهران التفّت على الاستهداف الإسرائيلي في بعض الحالات بإلباسها ثياب الجيش السوري. والأمر ازداد أخيراً في محافظة القنيطرة على الجبهة الجنوبية بمواجهة الجولان.
– النظام نفسه يتدثّر بعقيدة سياسية لا تثق بالدول العربية قياساً إلى ثقته بطهران التي ساعدت على حمايته بوجه المعارضة. ويمكن القول إنّ هذا الأمر متبادل، حيث يتعاطى بعض العرب مع النظام بريبة وشكّ في نواياه.
------- -----
اساس ميديا