كان سفك الدماء هدية روسيا للشعب السوري وبالتحديد للمسلمين في عيدهم، وكانت الحشود العسكرية الروسية والإيرانية فضلاً عن قوات النظام السوري قد أحاطت بإدلب والأرياف المجاورة مما جعل الناس يخشون اجتياحاً يدمر المنطقة، ولابد إن حدث أن تكون ضحاياه بمئات الآلاف لأن منطقة الشمال باتت مكتظة بالسكان الذين نزحوا إلى الشمال بعد أن فقدوا منازلهم في مناطقهم، وكثير منهم رحلهم النظام بعد ما سمي بالمصالحات القسرية ومن رفضها أخذته الباصات الخضر إلى الشمال.
ليلة العيد تدفقت من الشمال رسائل الأصدقاء في وسائل التواصل معبرة عن قلق من احتمال وقوع مجازر جديدة، ولاسيما أن هذه المناطق الشمالية باتت معاقل الثوار والمعارضين والهاربين من احتمال الاعتقال، والمطلوبين لأجهزة الأمن والملاحقين، وكان السؤال الهاجس (أين المفر ؟) وهم محاصرون من كل الجهات، وليس من منفذ وملاذ لأسرهم وأطفالهم غير تركيا التي تريد أن يرحل اللاجؤون السوريون منها، لا أن يحتشد على حدودها مئات الآلاف من اللاجئين الجدد إن لم أقل ملايين الهاربين من الجحيم، ومن المتوقع أن تغلق أبوابها وحجتها أنها تريد التخلص من أربعة ملايين لاجىء فيها، وهي تسعى لترحيلهم وتبني لهم مليون شقة سكنية في الشمال السوري وتسعى إلى إيجاد منطقة آمنة لهم، ولن يجد اللاجؤون الجدد غير مواجهة الموت والإبادة، ولئن استعاد النظام إدلب باجتياح عسكري فإن حرب تصفيات بالجملة ستجعل المجازر أقسى مما حدث في درعا في مسلسل الاغتيالات التي لم تتوقف.
يتساءل السوريون في الشمال، هل يمكن أن يحدث ذلك بعد أن تدخل العرب وصالحوا النظام ورحبوا بالأسد في قمة جدة؟ وما الذي اتفقوا عليه؟ هل حقاً كانت لديهم خطة للحل أو شروط لمتابعة التطبيع؟ لقد تم ذكر القرار 2254 بشكل عابر في لقاء وزراء الخارجية الذي سبق القمة في عمان، وفي خطابات القمة ذكره أمير قطر والرئيس السيسي، والطريف أن وزير الخارجية السوري قال إن حكومته نفذت القرار الدولي وانتهى الأمر، وأما الاتفاق على وحدة التراب السوري فهو مبدأ تتوافق فيه المعارضة مع النظام ويؤيده العالم كله، ولكن عبر تنفيذ القرار 2254 بحيث تنتهي القضية السورية مع بدء مرحلة الانتقال السياسي وتشكيل حكومة وطنية مدنية تعمل على اعتماد دستور جديد للبلاد وتدعو إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، وليس عن طريق حرب إبادة شاملة تدمر ما تبقى من سورية، فهناك محافظات إدلب والرقة ودير الزور والحسكة وأرياف من حماه وحلب واللاذقية وريف حمص كلها خارج سلطة النظام، وفي الشمال السوري الشرقي حضور عسكري أمريكي يكاد يشمل المنطقة الشرقية من التنف جنوباً إلى مواقع قسد شمالاً، وأما مناطق إدلب فهي تحت سلطة هيئة تحرير الشام (النصرة) وثمة مناطق نبع السلام ودرع الفرات تحت السلطة التركية، وبعض المناطق مثل منبج باتت مجمع قواعد عسكرية دولية ، وهناك جيش سوري معارض مرتبط بتركيا، وجيش قسد الكردي العربي مرتبط بأمريكا، وفي البادية ثمة فلول من بقايا داعش كما يقولون.
ويبدو أن الحكومة السورية قد أسرفت في شعورها بالارتياح والنشوة بما سمته نصراً عبر العودة للجامعة العربية ، مع أن الوضع الأمني في مناطق نفوذها بات نهباً لعصابات التهريب وقطاع الطرق ، وأما الاقتصاد فقد استولت عليه روسيا وإيران ، وازدادت العملة السورية انهياراً ، وبات جل المجتمع السوري تحت خط الفقر ، فضلاً عن الهجرة المتصاعدة بين طبقات التكنوقراط والشباب .
وأغلب ظني أن الأشقاء العرب لن يستطيعوا إنقاذ هذا الوضع المهترىء بسبب شعور النظام بأنه منتصر ومكتف ولا يقبل أي تنازل باتجاه التغيير السياسي ، وهو مفتاح الحل في سورية .
لقد انتهت لقاءات آستانة إلى العدم ، وكاد اللقاء العشرون أن يكون الأخير ، فلم يعد ثمة ما تستطيع روسيا تقديمه غير القصف ، ولاهدف لإيران في أية تنمية سوى تنمية الدعوة إلى التشيع ، وبناء الحسينيات والمدارس والجامعات المذهبية ، ضمن مشروعها التوسعي الإمبراطوري في أقاليم الوطن العربي ، وقد باتت الساحة السورية أشبه بمسرح اللامعقول ، ومسرح العبث ، فالأصدقاء علناً هم أعداء خفية ، والعكس صحيح ، وأنا شخصياً لم أقتنع قط ، أن الولايات المتحدة وإسرائيل تضمران العداء لإيران ، ربما تريدان تخفيض قوة إيران وإبعادها عن حدود إسرائيل ( أذكر أنها طالبت سابقاً بتراجع قوات إيران ثمانين كيلومتراً ) ولكن حزب الله و إيران لم يتحديا الولايات المتحدة حين تدخلا عسكرياً في سورية ، لقد أفرغ حزب الله الجنوب اللبناني قبالة إسرائيل ومضى بقواته إلى القلمون وإلى البوكمال وحلب وسواها ، وهو آمن ومطمئن إلى أن إسرائيل لن تنتهز فرصة الفراغ في الجنوب ، وأما تركيا التي تحرص على علاقات جيدة مع روسيا ، فهي تعلم أن المخبوء في النفوس مختلف عمّا يدور على الألسنة ، فثمة ذروة من البراغماتية في العلاقة ، وهذه حنكة سياسية تواكب توجهات تركيا نحو دمشق قبل الانتخابات ، وكان واضحاً أن ما بعدها سيكون مختلفاً ، وتبدو الأطراف جميعاً أمام طرق مسدودة ، فالتوافق شبه محال حالياً ، لن تتخلى قسد عن أهدافها وتعود إلى ما كان عليه وضع الأكراد قبل آذار 2011 ، ولن يعلن سكان إدلب الاستسلام أمام النظام على الرغم من كونهم يرفضون استمرار حكم النصرة ، ويعتبرونه مؤقتاً ريثما ينفذ القرار 2254 ويبدأ الانتقال السياسي المنشود ، والرفاق حائرون في مناطق النظام ، وأمامهم خياران إما ارتكاب المجازر في إدلب والشمال الشرقي وإخضاع خصومهم بالقوة عبر بحر من الدماء أو التنازل والقبول بالقرار الذي اعتبروه ميتاً ، بينما العالم كله يصر على إحيائه .
---------
غلوبال جستيس
ليلة العيد تدفقت من الشمال رسائل الأصدقاء في وسائل التواصل معبرة عن قلق من احتمال وقوع مجازر جديدة، ولاسيما أن هذه المناطق الشمالية باتت معاقل الثوار والمعارضين والهاربين من احتمال الاعتقال، والمطلوبين لأجهزة الأمن والملاحقين، وكان السؤال الهاجس (أين المفر ؟) وهم محاصرون من كل الجهات، وليس من منفذ وملاذ لأسرهم وأطفالهم غير تركيا التي تريد أن يرحل اللاجؤون السوريون منها، لا أن يحتشد على حدودها مئات الآلاف من اللاجئين الجدد إن لم أقل ملايين الهاربين من الجحيم، ومن المتوقع أن تغلق أبوابها وحجتها أنها تريد التخلص من أربعة ملايين لاجىء فيها، وهي تسعى لترحيلهم وتبني لهم مليون شقة سكنية في الشمال السوري وتسعى إلى إيجاد منطقة آمنة لهم، ولن يجد اللاجؤون الجدد غير مواجهة الموت والإبادة، ولئن استعاد النظام إدلب باجتياح عسكري فإن حرب تصفيات بالجملة ستجعل المجازر أقسى مما حدث في درعا في مسلسل الاغتيالات التي لم تتوقف.
يتساءل السوريون في الشمال، هل يمكن أن يحدث ذلك بعد أن تدخل العرب وصالحوا النظام ورحبوا بالأسد في قمة جدة؟ وما الذي اتفقوا عليه؟ هل حقاً كانت لديهم خطة للحل أو شروط لمتابعة التطبيع؟ لقد تم ذكر القرار 2254 بشكل عابر في لقاء وزراء الخارجية الذي سبق القمة في عمان، وفي خطابات القمة ذكره أمير قطر والرئيس السيسي، والطريف أن وزير الخارجية السوري قال إن حكومته نفذت القرار الدولي وانتهى الأمر، وأما الاتفاق على وحدة التراب السوري فهو مبدأ تتوافق فيه المعارضة مع النظام ويؤيده العالم كله، ولكن عبر تنفيذ القرار 2254 بحيث تنتهي القضية السورية مع بدء مرحلة الانتقال السياسي وتشكيل حكومة وطنية مدنية تعمل على اعتماد دستور جديد للبلاد وتدعو إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، وليس عن طريق حرب إبادة شاملة تدمر ما تبقى من سورية، فهناك محافظات إدلب والرقة ودير الزور والحسكة وأرياف من حماه وحلب واللاذقية وريف حمص كلها خارج سلطة النظام، وفي الشمال السوري الشرقي حضور عسكري أمريكي يكاد يشمل المنطقة الشرقية من التنف جنوباً إلى مواقع قسد شمالاً، وأما مناطق إدلب فهي تحت سلطة هيئة تحرير الشام (النصرة) وثمة مناطق نبع السلام ودرع الفرات تحت السلطة التركية، وبعض المناطق مثل منبج باتت مجمع قواعد عسكرية دولية ، وهناك جيش سوري معارض مرتبط بتركيا، وجيش قسد الكردي العربي مرتبط بأمريكا، وفي البادية ثمة فلول من بقايا داعش كما يقولون.
ويبدو أن الحكومة السورية قد أسرفت في شعورها بالارتياح والنشوة بما سمته نصراً عبر العودة للجامعة العربية ، مع أن الوضع الأمني في مناطق نفوذها بات نهباً لعصابات التهريب وقطاع الطرق ، وأما الاقتصاد فقد استولت عليه روسيا وإيران ، وازدادت العملة السورية انهياراً ، وبات جل المجتمع السوري تحت خط الفقر ، فضلاً عن الهجرة المتصاعدة بين طبقات التكنوقراط والشباب .
وأغلب ظني أن الأشقاء العرب لن يستطيعوا إنقاذ هذا الوضع المهترىء بسبب شعور النظام بأنه منتصر ومكتف ولا يقبل أي تنازل باتجاه التغيير السياسي ، وهو مفتاح الحل في سورية .
لقد انتهت لقاءات آستانة إلى العدم ، وكاد اللقاء العشرون أن يكون الأخير ، فلم يعد ثمة ما تستطيع روسيا تقديمه غير القصف ، ولاهدف لإيران في أية تنمية سوى تنمية الدعوة إلى التشيع ، وبناء الحسينيات والمدارس والجامعات المذهبية ، ضمن مشروعها التوسعي الإمبراطوري في أقاليم الوطن العربي ، وقد باتت الساحة السورية أشبه بمسرح اللامعقول ، ومسرح العبث ، فالأصدقاء علناً هم أعداء خفية ، والعكس صحيح ، وأنا شخصياً لم أقتنع قط ، أن الولايات المتحدة وإسرائيل تضمران العداء لإيران ، ربما تريدان تخفيض قوة إيران وإبعادها عن حدود إسرائيل ( أذكر أنها طالبت سابقاً بتراجع قوات إيران ثمانين كيلومتراً ) ولكن حزب الله و إيران لم يتحديا الولايات المتحدة حين تدخلا عسكرياً في سورية ، لقد أفرغ حزب الله الجنوب اللبناني قبالة إسرائيل ومضى بقواته إلى القلمون وإلى البوكمال وحلب وسواها ، وهو آمن ومطمئن إلى أن إسرائيل لن تنتهز فرصة الفراغ في الجنوب ، وأما تركيا التي تحرص على علاقات جيدة مع روسيا ، فهي تعلم أن المخبوء في النفوس مختلف عمّا يدور على الألسنة ، فثمة ذروة من البراغماتية في العلاقة ، وهذه حنكة سياسية تواكب توجهات تركيا نحو دمشق قبل الانتخابات ، وكان واضحاً أن ما بعدها سيكون مختلفاً ، وتبدو الأطراف جميعاً أمام طرق مسدودة ، فالتوافق شبه محال حالياً ، لن تتخلى قسد عن أهدافها وتعود إلى ما كان عليه وضع الأكراد قبل آذار 2011 ، ولن يعلن سكان إدلب الاستسلام أمام النظام على الرغم من كونهم يرفضون استمرار حكم النصرة ، ويعتبرونه مؤقتاً ريثما ينفذ القرار 2254 ويبدأ الانتقال السياسي المنشود ، والرفاق حائرون في مناطق النظام ، وأمامهم خياران إما ارتكاب المجازر في إدلب والشمال الشرقي وإخضاع خصومهم بالقوة عبر بحر من الدماء أو التنازل والقبول بالقرار الذي اعتبروه ميتاً ، بينما العالم كله يصر على إحيائه .
---------
غلوبال جستيس