“الحفاظ على الساحات” أهم بكثير من “وحدة الساحات”. هذه الساحات، بحسب ترتيب الأهمية، هي العراق واليمن وسوريا ولبنان. إيران تمكنت من تحويل المعادلة الطائفية الاجتماعية في الشرق الأوسط إلى معادلة ولاء سياسي. في هذه الدول، ثمة تركة طائفية اجتماعية عمرها أكثر من ألف عام. بعض هذه التركة تشيع اثني عشري، أو الشيعة الجعفرية، وآخر زيدي وثالث علوي. اليوم، ثمة مظلة إيرانية جامعة لهذه التمايزات الاجتماعية الطائفية، أساسها فكرة حماية الطائفة (حتى وإن كانت الطائفة منقسمة إلى تصنيفات بينية). التخويف من أن تكون القوى السياسية التي تشكلت على أسس طائفية خارج هذه المظلة، يجعل حزبا سياسيا مثل حركة أمل اللبنانية يدين بالولاء لحاميه حزب الله، أي لإيران.
لهذا يصبح من غير الوارد التفريط في هذه الساحات بعد أن ترسخت وأصبحت قوى عسكرية ضاربة تستطيع بسط نفوذها على الدول المتواجدة فيها، وتتمكن إلى حد كبير من تمويل نفسها بموارد ذاتية وأن تشن حروبا، بل وتنتصر فيها كما شهدنا في هذه الساحات الأربع.
غزة عرض جانبي بكل الاعتبارات. لا يوجد تأسيس اجتماعي طائفي يمكن أن يكون ولائيا كما هو الحال في الدول الأخرى. ثمة قضية احتلال ومشروع ديني اسمه الإخوان المسلمون. توافقت الإرادات مع القضايا، فصارت النتيجة اسمها حماس. ولاء حماس الموزع بين قطر وتركيا وإيران يفسر ماهية الحركة وإلى أين يمكن أن تذهب. زعيم حماس إسماعيل هنية يقيم في فندق في الدوحة ويتكلم بالهاتف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويزور طهران ليلتقي بالمرشد الأعلى. هل يمكن مقارنة هنية هنا بنصرالله أو الحوثي أو أي من قادة الميليشيات الولائية في العراق؟ سيكون من الصعب وضع حماس على نفس قائمة القوات الولائية في الإقليم. وسواء أصدقنا ما قاله نصرالله من أن حماس بادرت وخططت ونفذت من دون علم محور المقاومة (الاسم الحركي للولائيين) أم لم نصدّق، فإن مجرد الإشارة إلى “استقلالية” الموقف الفلسطيني لحماس بهذا الشكل، وحرص المحور على عدم الانجرار إلى المعركة مع إسرائيل، يجعلان حماس وغزة والقضية الفلسطينية ككل شيئا مختلفا إلى حد كبير عن “وحدة الساحات” المفترضة.
من غير الوارد أن تجازف إيران بالتضحية بإنجازها اللبناني، أي حزب الله، من أجل استرضاء حركة متعددة الولاءات مثل حماس. وإذا تمت إضافة الاعتبار الطائفي، أي أن غزة وأهلها من السنة ولم تظهر عليهم علامات تغيير المذهب رغم آلاف الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي وصلتهم، فإن عقد استئجار إيران لقضية حماس بمسمى الدفاع عن القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل قد اقترب من تاريخ نهايته. حتى الرئيس السوري بشار الأسد، الذي خبر تقلبات حماس عليه وعلى غيره، وتبدلات ولائها، لا يبدي اهتماما ملموسا بما يحدث في غزة.
إيران، عندما يتعلق الأمر بالطائفة وسلامتها، تصبح بليدة الإحساس ولن يحركها ألف أو خمسة آلاف طفل فلسطيني تحت أنقاض القصف الإسرائيلي. هذه مجرد أرقام، ومن غير الوارد القول إن طهران ستتحرك أو ستأمر الولائيين بالتحرك، عندما يصل الرقم إلى عشرة آلاف مثلا. إيران الطائفية غير إيران الدينية، والطائفية لن تتحرك بدافع ديني على أساس “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. فلتقتل إسرائيل ما يشبع انتقامها، ولكن بعيدا عن “ساحات” إيران والموالين لها. ستخرج طهران التظاهرات الحاشدة للتنديد بإسرائيل وتحتسب الشهداء عند الله عز وجل. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدفع إيران إلى التضحية بحزب الله أو جزء كبير من قواته، هو عندما يصبح النظام الإيراني نفسه مستهدفا. هذا قرار اتخذته إيران منذ نهاية الحرب العراقية – الإيرانية: القتال بشبكات الولائيين من أحزاب وميليشيات إقليمية، وليس بجندي إيراني أو مقاتل واحد من الحرس الثوري.
مشكلة نصرالله هذه المرة كانت حجم التوقعات غير الواقعية من جمهور عربي وإسلامي صدق دعاية حزب الله على مدى السنين، فكانت صدمته كبيرة بانعدام الفعل وبرودة الجبهة الشمالية لإسرائيل. ولم تجدِ المماطلات في التقديم الإعلامي للكلمة “القادمة إليكم أيها الجمهور يوم الجمعة” لنصرالله، ولا الخطبة الطويلة المليئة بالمحطات “المقاومة” في تغيير حقيقة أن حزب الله لن يتدخل لتخفيف الضغط عن حماس وغزة. الاستعراض صنعة لبنانية بامتياز، وحسن نصرالله لبناني ويدرك أهمية الاستعراض، خصوصا هذه المرة، للتغطية على الحقيقة. لكن هول ما يحدث في غزة أربكه، بل وأربك فريقه الإعلامي الذي فقد السيطرة على توقيتات حركة الجمهور المصاحب لتوقف نصرالله بين حين وآخر في كلماته. انطلق الجمهور المستمع يصلي على الرسول وآله في توقيت غير دقيق مع إيقاع الكلمة المسجلة، فتعثرت الكلمات وتدخل المخرج ليخفي صوت الجمهور.
لكن نصرالله كان وفيا لقيادته في إيران وما هو مطلوب من الحزب من دور وحجم ومستوى ما يمكن أن يحدث في جنوب لبنان من مناوشات مع الإسرائيليين. لا شيء يمكن أن يهز نصرالله الذي هب يوما للدفاع عن الحلف الطائفي في سوريا، وأرسل القوات بلا تردد، بينما يتابع اليوم ما يحدث في غزة من شاشة الجزيرة مثله مثل أي مشاهد تتوقف حدود حماسته بما لا يمس أمنه وسلامته.
ما حققته إيران خلال ثلاثين سنة في المنطقة أثمن كثيرا من أن يضيع لأن هناك في العالم العربي من يهتف مصدقا بـ“وحدة الساحات”.
---------------
صحيفة العرب
لهذا يصبح من غير الوارد التفريط في هذه الساحات بعد أن ترسخت وأصبحت قوى عسكرية ضاربة تستطيع بسط نفوذها على الدول المتواجدة فيها، وتتمكن إلى حد كبير من تمويل نفسها بموارد ذاتية وأن تشن حروبا، بل وتنتصر فيها كما شهدنا في هذه الساحات الأربع.
غزة عرض جانبي بكل الاعتبارات. لا يوجد تأسيس اجتماعي طائفي يمكن أن يكون ولائيا كما هو الحال في الدول الأخرى. ثمة قضية احتلال ومشروع ديني اسمه الإخوان المسلمون. توافقت الإرادات مع القضايا، فصارت النتيجة اسمها حماس. ولاء حماس الموزع بين قطر وتركيا وإيران يفسر ماهية الحركة وإلى أين يمكن أن تذهب. زعيم حماس إسماعيل هنية يقيم في فندق في الدوحة ويتكلم بالهاتف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويزور طهران ليلتقي بالمرشد الأعلى. هل يمكن مقارنة هنية هنا بنصرالله أو الحوثي أو أي من قادة الميليشيات الولائية في العراق؟ سيكون من الصعب وضع حماس على نفس قائمة القوات الولائية في الإقليم. وسواء أصدقنا ما قاله نصرالله من أن حماس بادرت وخططت ونفذت من دون علم محور المقاومة (الاسم الحركي للولائيين) أم لم نصدّق، فإن مجرد الإشارة إلى “استقلالية” الموقف الفلسطيني لحماس بهذا الشكل، وحرص المحور على عدم الانجرار إلى المعركة مع إسرائيل، يجعلان حماس وغزة والقضية الفلسطينية ككل شيئا مختلفا إلى حد كبير عن “وحدة الساحات” المفترضة.
من غير الوارد أن تجازف إيران بالتضحية بإنجازها اللبناني، أي حزب الله، من أجل استرضاء حركة متعددة الولاءات مثل حماس. وإذا تمت إضافة الاعتبار الطائفي، أي أن غزة وأهلها من السنة ولم تظهر عليهم علامات تغيير المذهب رغم آلاف الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي وصلتهم، فإن عقد استئجار إيران لقضية حماس بمسمى الدفاع عن القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل قد اقترب من تاريخ نهايته. حتى الرئيس السوري بشار الأسد، الذي خبر تقلبات حماس عليه وعلى غيره، وتبدلات ولائها، لا يبدي اهتماما ملموسا بما يحدث في غزة.
إيران، عندما يتعلق الأمر بالطائفة وسلامتها، تصبح بليدة الإحساس ولن يحركها ألف أو خمسة آلاف طفل فلسطيني تحت أنقاض القصف الإسرائيلي. هذه مجرد أرقام، ومن غير الوارد القول إن طهران ستتحرك أو ستأمر الولائيين بالتحرك، عندما يصل الرقم إلى عشرة آلاف مثلا. إيران الطائفية غير إيران الدينية، والطائفية لن تتحرك بدافع ديني على أساس “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. فلتقتل إسرائيل ما يشبع انتقامها، ولكن بعيدا عن “ساحات” إيران والموالين لها. ستخرج طهران التظاهرات الحاشدة للتنديد بإسرائيل وتحتسب الشهداء عند الله عز وجل. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدفع إيران إلى التضحية بحزب الله أو جزء كبير من قواته، هو عندما يصبح النظام الإيراني نفسه مستهدفا. هذا قرار اتخذته إيران منذ نهاية الحرب العراقية – الإيرانية: القتال بشبكات الولائيين من أحزاب وميليشيات إقليمية، وليس بجندي إيراني أو مقاتل واحد من الحرس الثوري.
مشكلة نصرالله هذه المرة كانت حجم التوقعات غير الواقعية من جمهور عربي وإسلامي صدق دعاية حزب الله على مدى السنين، فكانت صدمته كبيرة بانعدام الفعل وبرودة الجبهة الشمالية لإسرائيل. ولم تجدِ المماطلات في التقديم الإعلامي للكلمة “القادمة إليكم أيها الجمهور يوم الجمعة” لنصرالله، ولا الخطبة الطويلة المليئة بالمحطات “المقاومة” في تغيير حقيقة أن حزب الله لن يتدخل لتخفيف الضغط عن حماس وغزة. الاستعراض صنعة لبنانية بامتياز، وحسن نصرالله لبناني ويدرك أهمية الاستعراض، خصوصا هذه المرة، للتغطية على الحقيقة. لكن هول ما يحدث في غزة أربكه، بل وأربك فريقه الإعلامي الذي فقد السيطرة على توقيتات حركة الجمهور المصاحب لتوقف نصرالله بين حين وآخر في كلماته. انطلق الجمهور المستمع يصلي على الرسول وآله في توقيت غير دقيق مع إيقاع الكلمة المسجلة، فتعثرت الكلمات وتدخل المخرج ليخفي صوت الجمهور.
لكن نصرالله كان وفيا لقيادته في إيران وما هو مطلوب من الحزب من دور وحجم ومستوى ما يمكن أن يحدث في جنوب لبنان من مناوشات مع الإسرائيليين. لا شيء يمكن أن يهز نصرالله الذي هب يوما للدفاع عن الحلف الطائفي في سوريا، وأرسل القوات بلا تردد، بينما يتابع اليوم ما يحدث في غزة من شاشة الجزيرة مثله مثل أي مشاهد تتوقف حدود حماسته بما لا يمس أمنه وسلامته.
ما حققته إيران خلال ثلاثين سنة في المنطقة أثمن كثيرا من أن يضيع لأن هناك في العالم العربي من يهتف مصدقا بـ“وحدة الساحات”.
---------------
صحيفة العرب