وقد تنبهنا إلى هذه المشكلة ونحن في مرحلة مناقشة فكرة تأسيس المجلس الوطني السوري.
إذ أشرنا إلى عدم امتلاك الأحزاب التي كانت موجودة في ذلك الحين، المؤهلات والقدرات للقيام بهذه المهمة؛ فهي كانت تعاني بصورة عامة من الترهل والتآكل، وانعدام التأثير بين الأوساط الشعبية. كما أن خلافاتها الداخلية على مستوى كل حزب، وعلى صعيد العلاقات بين مختلف الأحزاب، والحساسيات البينية التي كانت بين قياداتها، أدت بداية إلى تباينات وتنافسات ضمن إعلان دمشق، لتتبلور لاحقاً في صيغة انقسامات تجسّدت في ظهور هيئة التنسيق.
ثم كانت الخلافات ضمن الإعلان والهيئة فتشتّت الإمكانيات في وقت كان يستوجب جمعها وتركيزها. وتم اعتماد مصطلح المعارضة الخارجية والمعارضة الداخلية، على أساس أن هيئة التنسيق تمثل الداخلية، في حين أن إعلان دمشق بات جزءاً من «المعارضة الخارجية» بعد انضمامه إلى المجلس الوطني السوري. هذا في حين أن رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي كان نائباً لرئيس هيئة التنسيق، وهو الملتزم بتعليمات وأوامر قيادة قنديل لحزب العمال الكردستاني، الحزب التركي غير السوري أساساً، والذي دخل إلى سوريا بناء على حسابات وتفاهمات خاصة مع السلطة الأسدية ذاتها، ومن المفروض أن قيادة هيئة التنسيق كانت على اطلاع ومعرفة بتلك التفاهمات بصورة شبه تفصيلية.
ورغم كل المحاولات التي كانت من أجل جمع مختلف الأطراف تحت مظلة المجلس الوطني السوري في بداياته التأسيسية؛ ثم في المرحلة التي أعقبتها، وهي المرحلة التي كانت قد شهدت اعترافات إقليمية ودولية بالمجلس، وقد كان للمجلس في هذه المرحلة علاقات جيدة مع مختلف القوى الشبابية العربية والكردية التي كانت قد انتظمت ضمن التنسيقيات، وشكلت لاحقا اتحادات كبرى بين تلك التنسقيات.
ورغم كل السلبيات والعوائق التي كان يعاني منها المجلس، لا سيما من جهة محاولات بعض القوى الإسلاموية، خاصة «الإخوان»، لاستخدام المجلس واجهة لإضفاء الشرعنة على دورها في ميدان الهيمنة على الشارع الثوري، وحتى على العامل العسكري عبر تشكيل فصائل عسكرية «دروع» خارج نطاق المجلس ومعرفته.
ولكن المجلس لم يكن يضم الإخوان وحدهم، بل كانت فيه قوى وازنة تمكنت إلى حد كبير من الاحتفاط بدور المجلس، ليكون إطاراً وطنياً قادراً على استيعاب جميع القوى الوطنية المؤمنة بصورة أكيدة بضرورة وامكانية القطع مع سلطة الاستبداد والفساد والإفساد وقد بذلت في سبيل هذا الهدف جهود كبيرة ضمن المجلس، لتجاوز نتائج الخلافات البينية، ومُدت الجسور مع القوى الأخرى، بما فيها هيئة التنسيق نفسها. ويُشار هنا على سبيل المثال إلى اللقاء الموسع الذي تم بين وفدي المجلس وهيئة التنسيق في القاهرة على هامش اجتماعات مؤتمر المعارضة السورية في 2-3 تموز/يوليو عام 2012. وهو المؤتمر الذي كان تحت إشراف الجامعة العربية. وكان اللقاء المذكور واعداً، تفاءلنا به خيراً، لا سيما من جهة أمكانية البناء عليه، وهو الأمر الذي لم يحصل بفعل جهود غير الراغبين من الطرفين على ما يبدو.
لا نود هنا أن نغوص كثيراً في التفصيلات التي كانت في مرحلة تأسيس المجلس، أو تلك التي كانت في مرحلة الإعلان والعمل. ولكن ما نود أن نشير إليه هو أن القوى المعارضة من أحزاب وتكتلات وشخصيات التي أحست بأنها لم تعط حقها الكافي ضمن هيئات المجلس، بدأت بالتحرك ضد هذ الأخير. إلى حد أن الكثير من الشخصيات كانت تتواصل مع خارجيات الدول، وحتى مع أجهزتها، في سعي للاستقواء بها، وكسب دعمهما لفرض نفسها على هذا الاجتماع أو ذاك.
والأمر اللافت في بعض الأحيان هو أن أشخاصاً كلفوا بمهام من قبل المجلس في دول مختلفة، ليعملوا على حشد الدعم السياسي والدبلوماسي لصالح الثورة السورية، ركزوا جهودهم في ميدان الهجوم على المجلس وتسويق أنفسهم، مما أعطى الحجة المطلوبة للقوى الدولية المؤثرة التي لم تكن تريد أصلاً إنجاز أي تغيير حقيقي في سوريا، وإنما كانت تتعامل مع الوضع بعقلية إدارة الأزمة، وكانت هذه القوى تراهن على عوامل الوقت والتحكّم، وتفتفت المعارضة، ويأس الناس، لتتمكّن في نهاية المطاف من العودة إلى أجنداتها السابقة، ومن دون أي شعور بتأنيب الضمير.
وهكذا انتقلنا إلى مرحلة الائتلاف، وتنظيم الفصائل المسلحة ضمن ما سمي بهيئة الأركان، وهي المرحلة التي تكاثرت فيها الفصائل المتعددة التوجهات والولاءات والشعارات بصورة لا معقولة، لدرجة بات من الصعب معرفة أسمائها، خاصة أنها كانت تعلن من حين إلى آخر عن مشاريع وحدوية وجبهات أو ائتلافات وهمية؛ سرعان ما كانت تنهار، لتظهر فصائل جديدة، وتكون مشاريع جديدة، وهكذا…
هذا رغم وجود ممثلي فصائل الأركان ضمن الائتلاف، ولكن حتى هؤلاء كانوا موضوعاً للبازار بين بعض القوى السياسية داخل الائتلاف، وذلك بهدف كسب التأييد، والحصول على الأصوات «الحاسمة» أثناء الانتخابات التي كانت، وما زالت، تاخذ الكثير من الوقت والجهد، وتبدد الطاقات، حتى وصلنا إلى مرحلة تبديل الطرابيش بأسلوب فاضح فاقع.
وفي هذا السياق تُذكر المنصات التي تشكلت هنا وهناك بغرض حجز المكان ضمن الوفد الذي من المفروض أنه يمثل المعارضة السورية في المفاوضات مع السلطة. فهذه المنصات أخذت على عاتقها مهمات تمثيل مصالح وتوجيهات الدول التي تنسب إليها أسماؤها؛ هذا في حين أن الحاجات الوطنية السورية كانت تستدعي أن يعمل أصحاب تلك المنصات على استغلال واستثمار علاقاتها الإقليمية والدولية لمصحلة السوريين المحتاجين أكثر من غيرهم.
وبعد التيقن من عدم امكانية إصلاح الائتلاف، حاول العديد من المعارضين السوريين في كثير من الأماكن تجربة تأسيس ائتلافات جديدة، ولكن هؤلاء تناسوا، أو جهلوا، أن الظروف الإقليمية والدولية التي ولدت الائتلاف قد تغيرت، وتبدلت، ولم تعد الأولويات هي ذاتها، كما أن الائتلاف لم يعد هو نفسه، فقد تبدلت طبيعته ووظيفته ومهمته.
وربما هذا الأمر يلقي بعض الضوء على أسباب الاخفاقات التي نسمع أخبارها من هنا أو هناك. وهي اخفاقات لا تقتصر أسبابها على غياب الاهتمام والدعم الإقليمي والدولي؛ وإنما هناك أسباب أخرى لها علاقة بعدم أخذ الواقع السوري بعين الاعتبار؛ هذا إلى جانب عجز أصحاب تلك المحاولات عن التحرر من مفاهيم وأدوات الايديولوجيات الشمولية باسمائها المختلفة، لا سيما تلك التي يمثلها أصحاب النزعة القومية والدينية. وهي الأيديولوجيات التي لا تستوعب أهمية الاعتراف بالواقع السوري القومي الديني المذهبي المتنوع، ويخفق أتباعها في التعامل المحترم مع جميع الانتماءات المجتمعية السورية، كونها تمثل بتفاعلها وتكاملها ملامح النسيج المجتمع الوطني الذي لا بد أن يتم التعامل معه بكل احترام وتقدير، وذلك عبر احترام الخصوصيات، والاعتراف بالحقوق؛ والتوافق على الآليات التي تمكّن من الجمع بين المشاركة في الحكم، والاستفادة العادلة من الموارد الوطنية، إلى جانب التشارك في إدارة وامكانيات ووظائف الدولة من دون أي تمييز.
إلى جانب المحاولات الائتلافية الجديدة غير الناجحة التي كانت في أكثر من مكان؛ بذلت جهود في ميدان تشكيل الأحزاب، ولكن هذه الأحزاب هي الآخرى ظلت نخبوية «شللية» ضعيفة التأثير، ولم تكن موضع اهتمام السوريين المناهضين لحكم آل الأسد؛ ولعل ما يفسر ذلك هو أن معظم هذه الأحزاب ظلت في نطاق الاصطفافات العمودية ضمن المجتمع السوري، وهي الاصطفافات التي كانت، وما زالت، تقوم على أساس ترتيب الانتماءات القومية والدينية والمذهبية، وحتى الجهوية بصورة شاقولية.
بقي أن نقول إن النجاحات المتميزة التي يحققها السوريون على مستوى الأفراد ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات المختصة سواء في بلاد اللجوء والمهجر، أم في الداخل الوطني، ورغم كل الصعوبات، تظل متناثرة، ولا تتحول إلى جهد وطني متماسك من دون وجود قيادة وطنية جامعة، تمتلك المصداقية والإرادة؛ وتستطيع البناء على المنجز الذي تم حتى الآن؛ قيادة في مقدورها التخلص من السلبيات والأخطاء التي تراكمت حتى وصلنا إلى الراهن الذي لا نحسد عليه بكل أسف
----------------
القدس العربي .