ربما يجدر السؤال عما إذا الإسلام كدين، هل هو بالفعل مكونٌ من مذاهب عدة، لا يقوم مدماكه دونها، وبالتالي فإن الخروج عن الطوائف هو تمزيق لشبكةٍ مفاهيميةٍ نسجت الفكر الإسلامي طوال قرون خلت؟
ماذا عن الإسلام البكر، النواة الأولى، كما كان في عهد محمد بن عبد الله، حين أعلن دعوته في مكة، وواصل العمل والجهر برسالته وبناء الدولة الأولى في المدينة؛ أين ذهبت تلك الحنيفية السهلة السمحاء، ولماذا لا يمكن للمسلم اليوم إلا أن يكون ضمن خيارات محددة، سنية أو شيعية، تتفرع منها مدارس: حنفية، حنبلية، شافعية، مالكية، زيدية، إثنا عشرية، إسماعيلية، أباظية.. وسواها من المذاهب التي أتت في وقت لاحق، ولم يكن لها وجود في صدر الإسلام!
هل هذه الفروع التي تشعبت عن الأصل، هي امتداد طبيعي له، أم مجرد اجتهادات بشرية، تم إضفاء صفة القداسة عليها، وأصبحت مع الزمن كالأقفاص التي حبست المسلمين وجمدتهم في رتابة من الفكر والعمل؟
ألا يمكن أن تكون تلك المذاهب بمثابة الطرق المتعددة التي تقود إلى المحمدية الخالصة؟ وإذا كانت كذلك، لماذا تم تحديدها في الفرق المشار إليها أعلاه وأخواتها، وتوقف الأمر عندها، ومنع الاجتهاد الأكبر على من أتى بعد هؤلاء الأئمة القادة للمذاهب، وكأنهم منتهى الحكمة، ومن دونهم من العلماء يدورون في فلكهم، ولا يخرجون عن خطوطهم الرئيسة، حتى إن اجتهدوا، فهم يبقون ضمن دائرة المدرسة الواحدة للفقيه أو الإمام صاحب المذهب ومن له النسبة؟
هل التشيع أو التسنن، هما النموذجان القائمان للإسلام اليوم، وأي نماذج مختلفة تعدُ هرطقة لا يدخلُ صاحبها في عداد المؤمنين؟
ماذا لو رفض الفرد المسلم أن ينتمي لطائفة، واعتبر المذاهب مجرد محاولات لفهم الدين، لا أكثر، وبالتالي، من حق المسلمين اليوم أن يكون لهم فهمهم الخاص، الذي يتعالى على الثنائيات التي استحكمت طوال قرون.. هل سيعتبر شاقاً لعصى الجماعة وخارجاً عن دائرة المسلمين؟
على المستوى الشخصي، ومن خلال تأملٍ وقراءة وبحث، وأيضاً تجربة في النقاش مع العديد من الشخصيات والباحثين المهتمين في علم اللاهوت، وصلت إلى قناعة مفادها، أنه بإمكان الواحد منا أن يكون مسلماً وحسب، دون أن يحدد ذاته بمذهب معين، وهذا ممكن إذا تحررنا من تمجيد التراث، واعتبرنا ما مضى وما هو كائن وما سيكون، تجارب بشرية ليس لها صفة القداسة، وأن الإنسان له الحرية التامة في تكوين شكل الإيمان الذي يناسبه، دون أن يلتزم بطريقة محددة سلفاً.
عندما نعملُ العقل، ونعلي من شأن الفردانية، ونحرر ذواتنا من سطوة السابقين، سنجد أن الإسلام البكر لا طائفة له، بل الأديان بمختلفها هي طرق نحو إندماج الإنسان مع روحانية الكون، والوصل إلى المصدر الأول، والعقل الخلاق، الذي أوجد هذا العالم ووضع نواميسه التي يمكن استكشافها بالعلم والتأمل والبحث، لا الجمود على سيرة الأقدمين واتباع مأثوراتهم، دون أن يكون لنا من الرأي والنقد والتجاوز نصيب.
لقد تأخر المسلمون كثيراً، عندما تعصبوا للطوائف، ونسوا روح الإسلام، وابتعدوا عن طرح الأسئلة الإشكالية الكبرى، واختلفوا في تفاصيل قادت إلى التعصب والتكفير والتقاتل وسفك الدماء، جعلتهم يتقهقرون حضارياً وفلسفياً وأخلاقياً وعلمياً!
لا يمكن للإسلام أن يكون قوة رحمانية، إذا بقيت الطوائف وعصبياتها تحركُ المسلمين وتحدد لهم ما الصواب والخطأ! وحده التفكير النقداني المتجاوز لخطابات رجال الدين الكلاسيكية، هو ما يمكنه أن يفتح كوة في الجمود الرابض على عقول الكثير من المسلمين.
---------
النهار العربي