أما بخصوص الدور التركي في المرحلة القادمة التي تتعلق بالحسابات الأميركية في مجريات الصراع الروسي-الأوكراني، يبدو أن ثمة تفاهمات ذات أبعاد استراتيجية تمت بين الطرفين بخصوص هذا الملف، فلدى الجانب الأميركي حرص واضح على كسب الموقف التركي الحازم لجهة حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها، بما يعني تخلي تركيا عن تعزيز علاقاتها مع روسيا في المرحلة المستقبلية، ويرتبط بهذا المسار إعادة تموضع تركيا من الصراع الأميركي-الغربي مع الصين كحليف موثوق له تأثير كبير في منع التمدد الصيني-الروسي باتجاه الشرق الأوسط ووسط افريقيا.
قد يرى بعض المحللين أن العلاقات الأميركية-التركية لم تنقطع وبقيت قنواتها مفتوحة حتى في ذروة الخلاف المتعلق بدعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تمثل التهديد الأكبر على الأمن القومي التركي، وتهدد حدودها الجنوبية، وحمايتها ومنع قيام أي عملية عسكرية تركية لإبعادها عن تلك الحدود، ولكن من الواضح أن المرحلة التي نشهدها حالياً توحي بإعادة صياغة شاملة للعلاقات بين البلدين بعد نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، وبقائه في السلطة لخمس سنوات قادمة، ومن هنا تدرك واشنطن أهمية بناء تفاهمات قوية مع أنقرة بعد اتضاح نفوذها الإقليمي في المنطقة، وهذا ما يجعل حتى الملف الخلافي المتعلق بقسد هو موضوع تفاوض ساخن بين الجانبين التركي والأميركي كي لا يظل عقبة أمام تفاهمات أكثر أهمية يمكن أن تصل إليها أنقرة وواشنطن.
واشير متابعة التصريحات التركية والأميركية في الأيام الأخيرة، إلى حاجتهما المتبادلة لإرساء استراتيجية جديدة سيكون لها تداعيات وتأثيرات كبيرة على العديد من الصراعات والقضايا الساخنة ومن أبرزها هو الصراع الروسي-الأوكراني، وتحفيز تركيا لتقوية دورها في دول آسيا الوسطى لقطع الطريق على ازدياد النفوذ الروسي في تلك الدول.
ومن المؤكد أن القضية السورية سيكون لها حيز مهم ضمن هذه الاستراتيجية وسيكون لها نصيب في تلك التفاهمات بما يخص مستقبل سوريا القريب والمتوسط المدى، لاسيما لجهة إيجاد صيغة أمنية تطمئن تركيا إلى إنهاء الخطر الذي يمثله حزب العمال الكردستاني على أمنها القومي، وتقليص دور فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، بناءً على رؤية جديدة قد تبرز وفق سيناريوهات ترضي الطرفين كإيجاد إدارة حكم مركزية تجمع شرق الفرات بغربه، أو إشراك المكون العربي بصورة فعلية في قيادة قوات سوريا الديمقراطية لدرجة الحد من نفوذ قادة العمال الكردستاني إلى درجة إضعاف التوجه الانفصالي للأحزاب الكردية الشمولية في سوريا، بالإضافة الى حل مشكلة اللاجئين التي تشكل عامل أرق دائم للقيادة التركية، وموضوع التطبيع مع نظام الأسد قبل تحقيق أي تقدم في العملية السياسية وفق القرارات الدولة.
ومن المؤكد أيضا أنه لن يغيب عن تلك التفاهمات دور تركيا في احتواء وضبط هجرة اللاجئين غير الشرعية كممر رئيسي الى دول الاتحاد الأوروبي، وليس من باب الصدفة تصريح الرئيس التركي الأخير حول إجراءات شديدة سيقوم بها الجانب التركي لضبط قوافل الهجرة غير الشرعية التي تتخذ من تركيا مركزاً رئيسياً لها في المنطقة، وهي رسالة تطمين للاتحاد الأوروبي لا تحتاج للمزيد من الشرح.
يعتقد كثيرون أن حجم المقايضات المتبادلة التي ستنشأ عن التوافق الأميركي-التركي في حال اكتماله، سيغير الكثير في المشهد السياسي للمنطقة، إذا أخذنا بعين الاعتبار إمكانية ذهاب الولايات المتحدة وإسرائيل نحو تقليم أظافر إيران والحد من نشاط أذرعها في الدول العربية، وهو مطلب لطالما سعى له الإسرائيليون لدى إدارة بايدن من أجل انتهاج سياسة صارمة تجاه ايران. وفي حال وضوح هذا التوجه في المرحلة القادمة، فإن كسب الموقف التركي هو ايضاً ضمانة كبيرة على طريق إضعاف النفوذ الإيراني ومنافسته من دولة إقليمية قوية بحجم تركيا.
وما من شك أيضاً أن الكثير من السوريين ينظر بحماس شديد إلى هذا التقارب بين أنقرة والغرب عموماً، وأنقرة وواشنطن على وجه التحديد، ولا شك أيضاً أن هذا الحماس يستند إلى فرضية أن توطيد العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة إنما يتقوّم بداهةً على تباعد في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وربما هذا ما أكدته تصريحات أردوغان الأخيرة أثناء لقاءه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، وذلك فيما يخص رفض تركيا الاحتلال الروسي لجزيرة القرم، وكذلك دعم تركيا لمطلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو.
حماس السوريين لابتعاد أنقرة عن موسكو يستند إلى الاعتقاد بأن الشراكة بين أردوغان وبوتين طيلة السنوات السابقة كانت في كثير من جوانبها تتقوّم على حساب المصلحة الوطنية السورية، ووفقاً لهذا الرأي، فإن تصدّع هذه العلاقة سيهيىء أرضية لتعاطٍ تركي جديد مع المسألة السورية في ظل تنامي العلاقة مع واشنطن التي ما تزال تتحفظ –ولو إعلامياً– على إعادة تعويم الأسد وتسويقه.
وعلى الرغم من مشروعية هذا الافتراض ووجاهته، إلّا أنه يعكس من جهة أخرى استمرار الاعتقاد من جانب كبير من السوريين بأن قضيتهم هي مجرّد وديعة تتناقلها أيدي الدول النافذة، وهم ينتظرون عودة هذه الوديعة بسلام دون أن يكون لأصحابها الأصليين أي دور يُذكر، في حين أنه كان من المفترض ألا يكتفي السوريون بالترقب والانتظار حول ما سيفضي إليه التباعد الروسي-التركي، بل كان من المفترض أيضاً أن يتوجه الاهتمام والعمل نحو كيفية استثمار هذه الانعطافة التركية نحو الغرب من أجل استعادة دورهم المفقود أو المُصادر، ليكونوا أصحاب دور فاعل في تحديد مصير قضيتهم وليسوا مجرّد مراقبين.
-----
المدن
-----
المدن