وهي على الرغم من براءتها وحيادها في تبني أفكار ونهج الحراك المدني السلمي والحث عليه إشعاراً منها بجدواه والتحذير من خطورة انحرافه نحو العسكرة، إلا أنها كانت البوابة التي دخل منها الإعلام المسيس المناوئ للثورة ولحرية الشعب السوري، ليضع الثورة السورية على قائمة الحركات المسلحة، والتي فتحت الباب فيما بعد لتوصيف الثورة السورية بأنها حرب أهلية. أو جماعات إرهابية مسلحة.. وكان هذا أخطر ما تعرض له الشعب السوري في تاريخه، لأنه برر للنظام الدولي غض النظر عن جرائم النظام، وعن استخدام آلته العسكرية الجبارة لإبادة الشعب السوري وتهجيره. وصار يتحدث عن الضحية التي تنتفض ضد جلادها باعتبارها جلاداً آخر.! وفي الواقع الذي يعرفه السوريون وغير السوريون (أي العالم بأسره) أن نظام الأسد أساساً، لم يكن يطرح مجموعة من الخيارات أمام نفسه لينتقي منها حسب ما تؤول إليه الأمور في الشارع الذي ثار عليه في كل انحاء البلاد، بل كان لديه (وما زال وسيبقى) خيار وحيد في التعامل مع الشعب السوري وهو الحسم العسكري، وكان على استعداد لتصعيد طبيعة هذا الحسم للوصول به إلى مرحلة الجرائم ضد الإنسانية، دون أن يفكر للحظة واحدة في العواقب. فهو يريد باي ثمن حرق السوريين وثورتهم وإعادتهم مرة أخرى إلى زنازين الخوف والرعب وامتهان الكرامة الإنسانية وحرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية في سوريا الأسد.
يتطابق نظام الأسد في ذلك مع الكيان الصهيوني الذي لا يملك خياراً آخر في التعامل مع الفلسطينيين سوى أنهم بلا حقوق.. كائنات لا تصلح للعيش في دولة يهودية نقية ورثوها من الاستعمار الإنكليزي لفلسطين كما ورث نظام الأسد سوريا من الاستعمار الفرنسي..
والآن
ليتوقف كل شيء إلا مظاهرات درعا او السويداء أو إدلب أو ريف دمشق وغيرها.. ولتستمر قرناً كاملاً.. هل سيستجيب النظام.. بالأحرى هل سيتأثر ..؟ ولن أسال بطبيعة الحال، هل سيسقط لأنه لن يسقط ولم تسقطه مظاهرات الشعب السوري كله 12 عاماً..
المظاهرات تؤثر على الأنظمة التي استمدت شرعيتها من شعوبها، لأنها _ أي المظاهرات _ تعبر بوضوح عن إرادة الشعب الذي نزل إلى الشارع بمظاهراته، لسحب الشرعية من السلطة.. وإعادة الحالة السياسية الدستورية إلى نقطة الصفر من جديد والبدء بانتخابات توصل من يوافق عليه الشعب إلى السلطة مدعوماً بشرعية شعبية.. وقد صار دور المظاهرات في تغيير السلطات، عرفاً في كل الدول التي تحكمها أحزاب وصلت عبر صناديق الاقتراع إلى السلطة.. أما النظام السوري الديكتاتوري الجمهوري الوراثي، فلم يلقِ بالاً أصلا لأهمية الشرعية التي يجب أن يتحصل عليها من شعبه، لأنه تحصل عليها بانقلاب وحافظ عليها بالتوريث، بموافقة ورعاية قوى الهيمنة في النظام الدولي باعتباره نظاماً وظيفياً له أدوار إقليمية هامة في مخططاتها لا يمكن الاستغناء عنه.. وأهم هذه الأدوار تمكين الكيان الصهيوني من تجذير نفسه في المنطقة وكسر إرادة شعوبها التي ترفضه. وبالعودة إلى المصطلحات والمعاني والمبادئ التي تصطف في أدبيات التظاهر السلمي. والخوف من عسكرته في النضال ضد السلطة، فإن جميع هذه المصطلحات تسقط دفعة واحدة في حال كانت هذه السلطية قد أخذت شرعيتها من قوى الهيمنة الاستعمارية الكبرى التي تعادي حرية الشعوب أصلاً دول يمكن تعريفها كما أورده الكاتب ياسين الحاج صالح في كتابه “السير على قدم واحدة”، بأنها: دول خارجية، أي أتت بشرعيتها من الخارج.. وهذا يميزها بنيوياً وسياسياً ووطنياً عن الدول الداخلية التي أتت بشرعيتها من شعوبها.
إن الفارق الكبير والذي من خلاله يمكن تحرير مصطلحات: النضال السلمي، العصيان المدني، المظاهرات، الخطاب السياسي،.. الخ هو أنه يستحيل على الدول الخارجية، (التي تستمد شرعيتها من الخارج وليس من شعوبها) أن تكون دولاً وطنية، ولا بد أن تكون شعوبها هي العدو الأكبر لها، وأن تكون مصالح الخارج هي بوصلتها في التعامل مع شعوبها.. وإلا فقدت شرعيتها.
وبالتالي فإن مصطلح المظاهرات (مثلاً)، من هذه الزاوية، يجب أن ينظر إليه على أنه يستخدم فقط كأداة تعبير عن استعصاء سياسي أو اجتماعي أو قانوني بين طرفين وطنيين حصراً.. الشعب، والسلطة الوطنية.. لا يمكن أن تكون المظاهرات بين شعب ومحتل ، بين شعب وعصابة حاكمة عميلة لأعداء الشعب.. هذه سذاجة ومضيعة للوقت والدماء وإن كانت الشعوب أحياناً، تخرج بمظاهرات ضد الاستعمار، فإن الاستعمار كان دائماً يستخدم القوة والبطش لقمعها، وسرعان ما تثور الشعوب بالكفاح المسلح.. وهذا ما حصل تماماً بين الشعب السوري ونظام الأسد ، بقيت الثورة السلمية ثمانية أشهر بشكل كلي .. واضطر النظام لتغيير وزيري دفاع لكي يدخل إلى حماه ودير الزور بالجيش ليبيد أهلها بعد ان قدمتا أروع المظاهرات السلمية في تاريخ المنطقة .. وكذلك فعل النظام بكل أنحاء سوريا ، وعندما هزمه السوريون ، استقدم مجموعة من دول الاحتلال لمساعدته على قمعهم ، تماماً كما تفعل دول الاستعمار عندما كانت تطلب العون من اقرانها من الدول الاستعمارية الأخرى لضبط مستعمراتها ..
وكذلك فإن مصطلح الحرب الأهلية القادم من كوكب آخر ، بحاجة لتحرير وتفكيك ، لأن ابسط نظرة إلى هذا المصطلح لتفكيكه ، تفترض بشكل أخرق ، أن الجيش السوري جماعة أهلية مدنية ، اصطدم بجماعات أخرى من المدنيين السوريين ، وهذا غير ممكن عقلاً ، أو أن الجيش السوري انحاز لفئة من الشعب ثارت عليه .. ضد فئات أخرى لم تفعل ، برعاية الدولة وتوجيهها وأوامره ، وهذا يؤكد لا وطنية هذه السلطة ويؤكد على سقوط مصطلح الحرب الأهلية ، وانحيازه السافر ضد الثورة السورية .. إلا إذا كان الساسة في العالم عبر ماكيناتهم الإعلامية يريدون بطرح هذا المصطلح التغطية الخجولة على حقيقة أن نظام الأسد يعبر عن طائفة لديها سلطة ولديها جيش يحميها ، وأن هؤلاء الساسة يباركون هذا الوضع ويراوغون في وصف حقيقته .
أما أكثر المصطلحات غرابة عن الواقع السوري ، فهو مصطلح العصيان المدني الذي يوقف ويشل البلد اقتصاديا وإداريا ويعبر عن عدم انصياع المجتمع للسلطة .. فكم سينجح مثل هذا العصيان مع سلطة تبيع أصلاً البلد للمستعمر الإيراني والروسي .. وتهدم حواضره فوق رؤوس أهله وتمارس ضد المناطق الثائرة سياسة الجوع او الركوع .. كأي مستعمر .. إنه مصطلح كوميدي وتراجيدي في آن واحد.
ورغم أنه يجب أن تستمر الاحتجاجات المدنية لأهميتها العظيمة ، إلا أنه لا يمكن النظر إليها في حالة النظام السوري ، (كدولة خارجية) إلا على أنها تعبير عن موقف تضامن بين مكونات الشعب السوري يعبر عن رفض بقاء النظام ، وإسقاط حجته في أنه يحمي الأقليات في النسيج الاجتماعي السوري .. ولكنها لن تسقطه ولن تدفع المجتمع الدولي لسحب الشرعية التي أعطاه إياها فهذا لن يحصل ، وإن حصل فليس بسبب المظاهرات بل لأسباب أخرى مغايرة تماماً .. فالعالم ليس غبياً لكي لا يفهم أن السوريين لا يريدون نظام الأسد خلال 12 عاماً من المظاهرات ، ولكنه عالم حقير متآمر يريد الحفاظ عليه سرطاناً يجتث آمالهم في البقاء على قيد الحياة .
لا بد من اقتلاع هذا النظام بالقوة ولا يمكن الخلاص منه بأي طريقة أخرى.
ولن ينفع تجريب المجرب.
-------------
رسالة بوست