ما من شك أن التداعيات الهائلة للاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 كان لها الدور الأبرز في تغيير أشكال التدخل الأميركي في القضايا العالمية، إذ يميل الكثيرون إلى أن ارتفاع عدد القتلى من الجنود الأميركيين فضلاً عن مقدار المال الذي وظفته إدارة الرئيس جورج بوش الابن آنذاك قد جعل الرأي العام الأميركي رافضاً لمبدأ التدخل العسكري المباشر في النزاعات التي تقع خارج الحدود الأميركية، ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن اعتبار ما يميل إليه الرأي العام هو الناظم الحقيقي للسياسات الأميركية، إذ يمكن للحكومة الأميركية الالتفاف على رأي المواطن الأميركي أو تضليله كما فعلت ذلك في حربها على العراق سواء في عام 1991 أو في عام 2003، وإنما العامل الحاسم في ذلك هو الأولويات التي تحددها الإدارة الأميركية والتي تنبثق من حجم المصالح وأهميتها. فخلال حرب الكويت عام 1991 على سبيل المثال، دخلت القوات البرية الأميركية إلى مشارف البصرة، وسط حالة من التراجع والإرباك في الجيش العراقي، وكان بإمكان القوات الأميركية إكمال اجتياحها والوصول إلى بغداد وإسقاط نظام الحكم، ولكنها لم تفعل ذلك، وآثرت الانسحاب مكتفية بفرض حصار قاسٍ على العراق، بذريعة أن الحصار سوف يقوض أركان النظام بالتدريج إلى أن يسقط، ولكن واقع الحال كان يشير آنذاك إلى رغبة واشنطن بتحاشي الحرج من حلفائها الدوليين الذين قاتلوا معها وكان قتالهم مشروطاً بإخراج الجيش العراقي من الكويت وليس إسقاط النظام. ولكن حين كان إسقاط النظام العراقي غاية أميركية لم تتوان عن شن الحرب دون اللجوء إلى أية جهة أممية وكذلك في تحدٍّ كبير وسافر للرأي العام العالمي والأميركي على وجه الخصوص.
لم يكن الحصار الاقتصادي مهما بلغت وتيرته عاملا حاسما في إسقاط الأنظمة، إن لم نقل إنه عامل مهم في تعزيز حالة الفقر والبؤس لدى المواطنين
ولعل التجارب المماثلة لواشنطن في المنطقة العربية تؤكد هذا المنحى المشار إليه أعلاه، إذ فرضت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون في بداية العام 1986 حصاراً اقتصاديا شديداً على نظام حافظ الأسد، واستمر ذلك الحصار حتى حرب الكويت 1991 حين انضم نظام الأسد إلى التحالف الدولي وشارك بالحرب على العراق، ولعل نظام معمر القذافي تعرض أيضا لحصار مماثل منذ حادثة (لوكربي 1988 ) وحتى أيام سقوطه، وفي كل الحالات لم يكن الحصار الاقتصادي مهما بلغت وتيرته عاملا حاسما في إسقاط الأنظمة، إن لم نقل إنه عامل مهم في تعزيز حالة الفقر والبؤس لدى المواطنين والتي هي بالأصل من أولويات تلك الأنظمة الاستبدادية.
ولعل الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها الاتحاد الأوروبي على نظام بشار الأسد، وذلك بفعل قانون قيصر إنما يجري ضمن إجراءات لا تنبع بالضرورة من رغبة أميركية باتخاذ فعل حاسم حيال كيان الأسد، بقدر ما تجسّد الطريقة التي تراها واشنطن لإدارة الأزمة في سوريا وليس حسمها، ولعل ما يؤيد هذا المنحى هو امتناع الإدارة الأميركية عن الإيقاع بالنظام حين أعطى الأسد جميع مبررات الإيقاع به، وتجاوز كافة الخطوط الحمراء التي حذر منها الرئيس الأسبق باراك أوباما، (قصف الغوطة بالسلاح الكيمياوي عام 2013، وتكرار استخدام السلاح الكيمياوي عشرات المرات بعد ذلك ضد الشعب السوري)، حتى عندما أقدم الرئيس ترامب على استهداف النظام عسكريا في السابع من نيسان عام 2017، ردا على عدوان الأسد كيمياوياً على خان شيخون، كان ذلك الاستهداف الأميركي أقرب إلى التمثيلية الفجة، أضف إلى ذلك أن المقولة الأميركية التي ما تزال تراهن على ( تغيير سلوك الأسد) تفصح عن أن القضية السورية من المنظور الأميركي مرتبطة بل مُلحقة إلحاقاً دقيقاً بالملف الإيراني الذي تحرص الولايات المتحدة الأميركية على مواجهته عبر التفاوض وقنوات الحوار وليس من خلال الحسم والتصعيد العسكري والسياسي، ما يؤكد أن ما تريده واشنطن من حصارها لنظام دمشق ومجمل ضغوطها علبه هو مجرّد الضغط الذي غالباً ما يكون صخبه الإعلامي أكبر بكثير من تأثيره الفعلي على الواقع.
لن تجدي مع هذا النظام أي عقوبات اقتصادية ولن تجبره على الانخراط في العملية السياسية وفق القرارات الدولية، دون التلويح بعصا عقوبات عسكرية وسياسية جدية
ما يمكن تأكيده أن أكثر المتضررين من العقوبات الأميركية الأوربية هو الشعب السوري الذي أصبح بفعلها، وبفعل سياسة نظام دمشق بالسطو على مقدرات سوريا ورهن أهم مواردها الاقتصادية لروسيا وإيران، ما جعل أغلب السوريين يرزحون تحت خط الفقر والعوز، إلا أنه لا يمكن تجاهل أثر تلك العقوبات بتقويض أركان الدولة السورية ومؤسساتها التي أصبحت عاجزة عن تأمين أبسط احتياجات المواطنين، إلا أنه من المؤكد أن هذه العقوبات ومهما بلغت قوتها وشدة تأثيرها لن تسقط نظاماً ديكتاتورياً مستبداً، وصاحب باع طويل وخبرة بالتعامل مع هكذا عقوبات والالتفاف عليها وتجاوزها، وأوضح مثال على ذلك أنه أصبح المنتج والمصدر الأول عالمياً للمخدرات والكبتاغون، وما يمكن تأكيده أيضاً وهذا ما يعرفه الأميركان والغرب وجميع الدول التي تهرول لإعادة تعويمه أنه لن تجدي مع هذا النظام أي عقوبات اقتصادية ولن تجبره على الانخراط في العملية السياسية وفق القرارات الدولية، دون التلويح بعصا عقوبات عسكرية وسياسية جدية من قبل واشنطن والغرب مصحوبة بإجراءات عملية، فهل يمكن أن يفعلها الديمقراطيون على غير عادتهم وينسفوا كل جهود روسيا وإيران بإعادة تعويمه وقلب الطاولة على كل المطبعين.
---------
تلفزيون سوريا