انطلاق “مسار موسكو”
جميع الانعطافات التركية السابقة لم تؤدِ إلى حتى مجرد التفكير بإعادة العلاقات مع النظام السوري، لكن الانعطافة التركية الأخيرة منذ آب/أغسطس 2022 كانت كذلك ، إلاَّ أن فهم هذه الانعطافة وطبيعتها مهم لفهم مآلاتها واستشراف نهاياتها.
ركزت التصريحات المتتالية للرئيس أردوغان وللمسؤولين الحكوميين الآخرين في تركيا وجود سياسيات جديدة تجاه سورية، على ثلاثة دواعٍ للانفتاح على النظام السوري، وهي:
1- مسألة عودة اللاجئين.
2- مواجهة التحديات المتعلقة بالأمن القومي ومكافحة الإرهاب.
3- دفع العملية السياسية في سورية للوصول إلى تفاهمات تركية-سورية تساعد على تحقيق تقدم في الحل.
الأسباب الثلاثة المذكورة هي أسباب ذات طبيعة استراتيجية، ويفترض أنها أبطأ من أن يحدث التقارب بسرعة كما ظهرت خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023 والتي توّجت في بداية مايو/أيار العام الجاري في اللقاء الذي جمع وزيري الخارجية التركي والسوري في العاصمة الروسية موسكو، فالوصول إلى معالجة هذه القضايا الثلاثة التي كان النظام الراهن نفسه سببًا رئيسًا فيها ليس أمرًا يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها.
ومن الواضح أن السبب الكامن خلف تسريع المحادثات وعقد اللقاءات كان ضغط الاستحقاق الانتخابي، إذ أراد أردوغان سحب البساط من تحت المعارضة التركية التي جعلت قضية اللاجئين على رأس القضايا الوطنية، حيث نجحت بربط الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا بوجود اللاجئين السوريين، ما أدى إلى ارتفاع العنصرية وزيادة حوادث العنف ضد اللاجئين. نجح أردوغان في الانتخابات وتحرر من الضغوط الانتخابية، وأظهرت التصريحات المتتالية بعد الانتخابات بوضوح أن أردوغان استخدم النظام السوري لأغراض انتخابية على نحو تكتيكيّ، وفي المقابل كذلك أظهرت طرق استجابة النظام لمبادرة الأتراك على أنها كانت على “مضض”، ما يعني أن النظام لم يتقدم خطوات بنفسه بقدر ما يتقدم ما كانت بضغط من الحليف الروسي. فقد بدأ مسار التطبيع مع النظام السوري من موسكو لكن النظام يراهن على الخليج العربي لأنه الجهة التي يمكن أن تقدم المال والسياسة في الحد الأدنى من الشروط، والتي يستطيع النظام في دمشق إدارتها وتفريغها تمامًا من مضمونها.
تحوّل استراتيجيّ
إلا أن ما بين رغبة أردوغان في مواجهة تكتيكية لمنافسة المعارضة في الانتخابات وبين تحقيق أهداف استراتيجية، كان أردوغان قد وصل إلى قناعة بأن تأمين عودة آمنة للاجئين، ومواجهة مشروع منطقة الحكم الذاتي شرق الفرات بالنظر إلى استعصاء الاستجابة الأمريكية للطلبات التركية، يجعل الأمر أسهل بشراكة النظام السوري، الذي يعاني من اختناق اقتصادي وعزلة سياسية عالمية، كل ذلك يجعل مسار موسكو للتطبيع التركي-السوري أمرًا استراتيجيًّا وليس أمرًا تكتيكيًّا. يريد أردوغان التفرغ لتطوير موقع تركيا في الساحة الدولية، التي تغيرت خلال السنوات العشر الفائتة بشكل ملحوظ، فقد أصبحت قوة عسكرية جديدة ناهضة ما مكنها من التدخل في دول بعيدة عنها لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية في الإقليم، وظهرت قدرة آلتها العسكرية في ليبيا وأوكرانيا، وأصبح تصدير الإنتاج العسكري يشكل جزءًا من وارداتها، وفي الوقت نفسه غرقت تركيا في مشاكل الإقليم، وإلى حد كبير وسعت من دائرة خصومها وأعدائها، خلافًا للنظرية السياسية التي اتبعها حزب العدالة والتنمية في بدايات حكمه والمعروفة بـ”تصفير المشكلات”.
هنالك حاجة ماسة للخروج من مستنقع مشاكل الإقليم والتفرغ للتنمية وتطوير الاقتصاد الذي يعاني مشكلات خطيرة لأسباب تتعلق بتداعيات كورونا وركود الاقتصاد العالمي وكذلك بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية والأضرار التي أصابت سلاسل التوريد، وضمن هذا المنظار الأوسع يمكن إدراك جدية أنقرة بالمضي قدمًا في مسار موسكو للتطبيع، لكن السؤال الأهم هو، إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا التطبيع؟
الحدود الممكنة للتطبيع
تعرف أنقرة النظام في دمشق جيّدًا، وخلال السنوات الاثنتي عشرة أصبحت على يقين بالحدود الممكنة وغير الممكنة، وقد شكلت لجنة ثلاثية تقنية مؤلفة من وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الاستخبارات من كلا الطرفين، لتحقيق تقدم في الملفات المختلفة، والبدء بالملفات التي هي نقطة اتفاق بين الطرفين، وهي مسألة الإدارة الذاتية الكردية في شرق الفرات أو ما سمي تقنيًا “مكافحة الإرهاب”، حصل تقدم صغير يتعلق بالتعاون الاستخباراتي بخصوص قسد، لكن اللجنة لم تحقق اختراق مهم حتى الآن، وعلى العكس تمامًا مما كان يوحي به التقدم السريع في العلاقات فإن الاجتماع الأخير للجنة المشتركة في حزيران/يونيو الفائت أظهر حجم الاختلاف وصعوبة التوصل لاتفاقات بين الطرفين.
هنالك عدد من المعطيات يجب أن تؤخذ بالحسبان عند محاولة فهم كيف تفكر الحكومة التركية الحالية بالتقارب مع النظام لمواجهة تحديات الموقف السوري:
1- هنالك قوى عسكرية تركية في الأراضي السورية، وهي تمثل عامل أمان لإعاقة امتداد المشروع الكردي.
2- لا يملك النظام السوري في دمشق القدرة وحده على حل مشكلة الإدارة الذاتية؛ فالطرف الحاسم في هذا الأمر هم الأمريكيون.
3- ليس لدى الأتراك أوهام بشأن وجود أي نية للنظام في دمشق لتقديم تنازل جوهري يحقق تقدمًا بالحل السياسي؛ إذ لا يوجد ما يدعو النظام لتغيير ممانعته للحل السياسي، ولا تغيير رؤيته لحل “الأزمة” الغارقة فيها، كما أنه لم يعد طرفًا وحيدًا في القرار السوري، فلديه شركاء (روسيا وإيران)، وكل منهما يريد مقابل للدور الذي لعبه والانفاق الذي قدمه لحماية النظام، هذه مسلّمة في دوائر صنع القرار في تركيا وهي لم تتغير.
4- وجود المعارضة السورية في تركيا هو جزء من الإمساك بأوراق تفاوض مع النظام، هنالك جيش وطني (فصائل الجيش الحر) تحت قيادة سورية لكنه مسيطر عليه تركيًّا، وهنالك إدارة محلية تحت النفوذ التركي، وحكومة مؤقتة تتبع المعارضة لكنها تعمل تحت النفوذ التركي، وأخيرًا هنالك قوى سياسية رئيسية معترف بها دوليًّا، كل هذه القوى المعارضة بأشكالها الأربعة موجودة في مناطق النفوذ التركي أو في الأراضي التركية، وتمثل تركيا مكان نشاطها الرئيسي عبر الحدود.
في ظل هذه المعطيات الأربعة ما الذي يأمله أردوغان إذًا من مسار موسكو؟
أولًا: حيث لا يمكن لأنقرة أن تتوقع حل مشكلة الإدارة الذاتية الكردية وزوال تهديد الأمن القومي لتركيا فإنها ستبقى متمسكة بالوجود العسكري وبوجود المعارضة السوريّة (العسكرية والسياسية على الأقل)، لأنها لن تفرط بضمانات موضوعية وأوراق قوة أمام مكاسب غير متوقعة، ما يعني أنه لن تكون هنالك تغييرات جذرية بهذا الخصوص في السنوات الخمس القادمة، ما لم تحدث مفاجأة أمريكية بخصوص شمال شرق سورية.
لقد أصر النظام في جميع المحادثات التي جرت في مسار موسكو على وضع جدول للانسحاب التركي من شمال سورية، لكن تركيا ربطت الانسحاب بزوال تهديد الأمن القومي، وفي الاجتماع الأخير ربطته أيضًا بالتقدم بالحل السياسي. ما هي الحدود التي يمكن أن تتعاون فيها أنقرة مع نظام الأسد في دمشق هنا؟ الواقع أن الشيء الوحيد المتاح هو التعاون الأمني والعسكري ضد الإدارة الذاتية، ومن الواضح أن تحقيق تعاون قريب في العمل العسكري ضد الإدارة الذاتية أمر بعيد المنال لأسباب تتعلق بالاتفاق على الوجود العسكري في سورية، فإن السبيل الذي يبدو متاحًا وممكنًا هو التعاون الأمني الاستخباراتي ضد قيادة تنظيم (PYD) وعناصر وقيادات (PKK) (التنظيم الأم)، وقد تحقق بعض التقدم بهذا الخصوص، لكنه تقدم مهدد بالتوقف في أي وقت.
ثانيًا: الواقع أن أنقرة تعول في موضوع التطبيع مع نظام الأسد على موضوع اللاجئين واستخدام المفاوضات معه لتحقيق مجموعة أهداف دفعة واحدة:
1.عودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين إلى الأراضي السورية عودة آمنة (موضوع الطوعية مطروح نظريًّا)، وعلى الرغم من أن التفاوض يتم حول العودة إلى جميع الأراضي السورية على مراحل (من محافظات محددة في البداية) حسب الخطة الأساسية للتطبيع التي أعدت بالشراكة مع موسكو، إلا أنه لا شيء يشير إلى إمكانية الحصول على ضمانات، بعودة آمنة للاجئين السوريين، ما يجعل حدود العودة الآمنة هي مناطق السيطرة التركية في شمال غرب سورية بالضرورة. هل كان يأمل أردوغان أكثر من ذلك؟ على الأرجح لا، بالنظر إلى معرفته الجيدة بطبيعة النظام في دمشق.
2.إنشاء حزام ديمغرافي عربي – تركماني يعيق أي محاولة لإنشاء إدارة ذاتية كردية في تلك المناطق.
3.إنشاء “منطقة آمنة” في “المنطقة الأمنية” التي تقع تحت سلطة القوات التركية داخل الأراضي السورية. وهي منطقة ستسمح لها بمبرر إعادة اللاجئين وتوفر فرصة وملاذ بالفعل للسوريين الذين يعانون من تأمين قوتهم ومن العنصرية المتزايدة وكانت أنقرة، لمواجهة التهديد القومي المتزايد مع ظهور الإدارة الذاتية وظهور داعش، طرحت عام 2014 فكرة المنطقة الأمنية على الجانب السوري من الحدود التركية، وهي منطقة تمتد “من حي السليمانية في حلب إلى شمال حمص وتصل حتى اللاذقية وطرطوس”، بتواجد عسكري تركي يستند إلى قوات برية من الجيش الحر والفصائل العسكرية المحلية، ولم تظهر الولايات المتحدة (التي كانت القوة الكبرى الوحيدة في سورية) وقتها حماسًا للفكرة، ما جعل الأتراك يترددون ويحاولون إدارة الوضع في تلك المنطقة عبر إعاقة مشروع الإدارة الذاتية من خلال القوى المحلية، لكن تدخل الروس وتقديم الدعم المباشر للإدارة الذاتية الكردية ضد القوى المحلية وبشكل خاص الجيش الحر عقّد الأمر، وفي نهاية المطاف قام الأتراك بعلميات عسكرية لطرد تنظيم PYD وإدارته الذاتية من مناطق شاسعة في شمال غرب سورية، ما قلص فرص بقاء مشروع الإدارة الذاتية الكردية على قيد الحياة.
في مسار موسكو وضعت روسيا خارطة طريق للتطبيع بين دمشق وأنقرة، ولكن مسار التطبيع والعقبات التي تعترضه تحول دون حدوث تغيير جذري في سياسيات تركيا بخصوص سورية واللاجئين، ولكن تقدمها في تحقيق الأهداف الدنيا والممكنة من عملية التقارب هذه ستؤدي على الأغلب إلى اتباع سياسات جديدة تجاه اللاجئين من شأنها أن تدفعهم للانتقال إلى المناطق الآمنة خلف الحدود، والتي يحضّر لها بمدن كبرى تستوعب أكثر من مليون ونصف سوري.
على الرغم من أن الاقتصاد يمثل مشكلة رئيسية بعد الأمن القومي التركي إلا أن فتح شريان اقتصادي تركي سوري يواجه صعوبات بعد ظهور الكبتاغون كمشكلة؛ يتخذ الأتراك من الحالة الأردنية في فتح المعابر الحدودية لتمرير البضائع من الطرفين مثالًا لما قد يترتب عليه من “حرب مخدرات” ما تزال تركيا آمنة منها نسبيًّا، ولأن النظام السوري يتنصل ويحيل إنتاج المخدرات إلى جهات خارج سلطته فإن فتح المعابر يتطلب ضمانات من قبل النظام وإجراءات شديدة ، وعلى الرغم من قدرة النظام على تقديم هذه الضمانات إلا أن الثقة بالتزامه بها ضعيفة خصوصًا إن لم نقل معدومة، وبالتالي موضوع فتح طريق M4 و M5 ما يزال يصعب الوصول إلى اتفاق بشأنه مع نكران نظام الاسد لدوره في إنتاج المخدرات واستخدامها كمورد اقتصادي وآلية للضغط والابتزاز السياسي للدول المجاورة. أخيرًا، تختصر كلمة بشار الاسد في الجامعة العربية نظرته إلى تركيا وتبعا إلى مسار موسكو للتطبيع.
------------
معهد السياسة والمجتمع