ومهما يكن من أمر، فإن حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية أعاد شيئا من التوازن بين “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”، وفتح الباب على مصراعيه للمجتمع التركي العريض لاستنقاذ دولته من أيدي النخب المتغربة العتيقة، والتصالح مع ذاته الإسلامية. كما أن حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية صالح تركيا مع بيئتها الحضارية والتاريخية الطبيعية، بما فيها شعوب العالم العربي والإسلامي، التي طالما رسم لها “الأتراك البيض” صورة قاتمة، ونظروا إليه باستعلاء وازدراء، تماما مثلما فعلوا مع أبناء جلدتهم ووطنهم من “الأتراك السود”، أي الطبقات المتدينة والمحافظة من المجتمع التركي.
إن كل مجتمع بشري فيه مظاهر من العنصرية، لكن العنصرية تتشكَّل في كل مجتمع طبقا لمسار تاريخي خاص، وتتلون بمزاج ثقافي خاص. فمن خصوصيات العنصرية في تركيا التي تميزها عن بعض أنماط العنصرية في الدول الغربية مثلا:
أولا: أنها عنصرية موجَّهة في الأصل إلى الداخل التركي، أقصد أنها عنصرية “الأتراك البيض” ضد “الأتراك السود”، قبل أن تكون عنصرية ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم، وليس يعني هذا أنها لا تستهدف بعض الشعوب غير التركية، لكنها في أصلها التكويني موجهة ضد الأتراك أنفسهم.
ثانيا: أن العنصرية في تركيا مظهر من مظاهر الصراع على مغانم السلطة والثروة والمكانة داخل أحشاء المجتمع التركي، كما أنها جزء من الصراع على هوية الدولة التركية ووجهتها الإستراتيجية وانتمائها الحضاري، قبل أن تكون صراعا مع العرب أو غيرهم من شعوب الجوار التركي.
ثالثا: أن المكاسب التي تحققت ضد العنصرية في تركيا خلال حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية مكاسب عظيمة. فقد فتح هذا العهد أبواب السلطة والثروة أمام جمهور الشعب التركي العريض، وأعاد لتركيا انتماءها إلى الحضارة الإسلامية، بعد أن كادت تنسى تاريخ شعبها العريق تماهيًا مع الغرب.
رابعا: مع كل هذه المكاسب الداخلية والخارجية، لا تزال بعض نخب “الأتراك البيض” من النخبة المتغربة ذات سطوة في الحياة العامة، وهي متشبثة بمواقعها العتيقة. وكلما أحست هذه النخب بسحب البساط من تحت أقدامها زادت عصبيتها وردود أفعالها العنصرية المتشنجة.
خامسا: أن كون الرئيس أردوغان وفريقه يحكمون البلاد سياسيا، لا يعني أنهم متحكمون في الديناميكية الاجتماعية العميقة، أو قادرون على منع كل الحوادث العنصرية. فالديمقراطية التركية لا تزال تصارع من أجل البقاء، ولا يزال أمامها الكثير لتنجزه في هذا المضمار.
سادسا: أن القوى الطائفية الإقليمية التي هشَّمت العراق وسوريا، تسعى أيضا إلى تهشيم تركيا، من أجل كسب موطئ قدم إستراتيجي فيها. وكثير من مظاهر العنصرية في تركيا اليوم تغذِّيه قوى طائفية معروفة، تتستر وراء شعارات العلمانية والقومية وحقوق الإنسان.
سابعا: أن القوى الدولية الساعية إلى استمرار الهيمنة على المصائر الإستراتيجية في المنطقة تسعى جهدَها لتغذية التوتر الداخلي في بلدان المنطقة، وزرع البغضاء بين شعوبها، طبقا للحكمة البريطانية المشؤومة: “فرق تسد”. وهي تغذِّي كل نوازع العنصرية والشقاق في سبيل ذلك.
لا مسوغ للعنصرية تحت أي ظرف كان. ويجب رفض التمييز العنصري ضد اللغة العربية وضد العرب في تركيا، سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين. هذا موقف أخلاقي وإنساني لا يحتاج تسويغا ولا تبريرا، والنقاش يجب أن ينحصر في الإستراتيجية المناسبة لوضعه موضع التنفيذ.
وبناء على ذلك نوصي المتابعين العرب لما يجري بتركيا بالآتي:
.
أولا: ينبغي الابتعاد عن لغة التعميم وانتهاك الأعراض الجماعية، مثل القول: “إن تركيا دولة عنصرية” أو “إن الشعب التركي شعب عنصري”. صحيح أنه توجد عنصرية في تركيا كما توجد في كل دول العالم، لكن الحديث عن ذلك بلغة تعميمية خطيئة أخلاقية وخطأ إستراتيجي.
ثانيا: ينتمي الرئيس أردوغان نفسه وفريقه الحكومي والحزبي إلى ذلك القطاع العريض من الشعب التركي الذي عانى سابقا من التمييز والتهميش داخل بلده، وعلى أيدي مواطنين من بني جلدته. فهم حليف أخلاقي وإستراتيجي للعرب ضد العنصرية والتمييز والتحيز.
ثالثا: إن قسما كبيرا من الشعب التركي حليف للعرب ضد العنصرية، وهؤلاء هم السواد الأعظم، والعمق الاجتماعي الذي ظل مهمَّشا طيلة القرن العشرين. ويجب مدُّ يد التعاون مع هؤلاء، بدل مساعدة العنصريين عليهم، بضمِّهم معهم في سلة واحدة، “فلا تعينوا الشيطان على أخيكم”.
رابعا: يجب ألا ننسى أن تركيا بقيادة أردوغان ضحَّت في دعم الشعوب العربية بعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع عدة دكتاتوريات عربية لعَقْد من الزمان. واستقبلت ملايين العرب المهجَّرين من أوطانهم، فكفلت لهم العيش في أمان وحرية، بعد أن ضاقت بهم بلدانهم، واضطهدَتهم أوطانهم.
خامسا: أن تركيا بقيادة الرئيس أردوغان وقفت مع الثورة السورية ومع الثورات العربية في ساعة العُسرة، وبذلت ثمنا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا باهظا، جرَّاء هذا الموقف المبدئي والإستراتيجي المنحاز لحرية الشعوب العربية وكرامتها. فلا يجوز نسيان ذلك لمجرد وجود تقصير اليوم هنا أو هناك.
سادسا: أن التقارب الأخير بين تركيا وعدد من الدول العربية مكسب إستراتيجي لمجمل الأمة يجب الحرص عليه. ومن الحكمة الفصل بين الخلاف السياسي داخل الدول ضمن سعي الشعوب للحرية والكرامة، والتناقض الإستراتيجي بين الدول، الذي هو دمار للأمة كلها، وفتح لأبوابها أمام كل عدوّ طارق.
سابعا: لا تبدو الإثارات العنصرية في تركيا مؤخرا بعيدة عن سعي بعض القوى الدولية إلى استمرار الانشطار الإستراتيجي في المنطقة، لكي تظل هذه المنطقة حزاما متصدعا مستباحا لمطامع القوى الدولية ومطامحها، كما بينتُه في دراستي الأخيرة “شروق الشرق وغروب الغرب” الصادرة مؤخرا بالعربية والتركية.
كلمة أخيرة بحق اللغة العربية: لا خوف على اللغة العربية في تركيا، فهي لغة باقية في الأناضول ما بقي فيه قارئ للقرآن، أو صادح بالأذان. فقد ظل الإسلام -وسيظل- درعا حصينة للغة العربية في تركيا وفي العالم الإسلامي كله. وقد عبَّر عن ذلك الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف -وهو متحدِّر من أسرة مسيحية عربية تركية- في كتابه “الهويات القاتلة” فقال: “عندما نكون في آسيا الوسطى، ونصادف علَّامة عجوزا على عتبة مدرسة تيمورية، يكفي أن نتوجه إليه بالعربية ليشعر بالطمأنينة، ويتحدث من قلبه، مثلما لن يجازف أبداً بفعله بالروسية أو بالإنجليزية.”
خلاصة الأمر أن على المتابع العربي والمسلم المنفعل بحوادث العنصرية الأخيرة في تركيا ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم، أن يتسلح بفهم أدقَّ للديناميكيات الداخلية التركية، ومنها ثنائية “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”. من المهم جدا فهم التشكل التاريخي لظاهرة العنصرية في تركيا، ومنطقها الداخلي الموجَّه ضد السواد الأعظم من المواطنين الأتراك المسلمين أنفسهم، والتعامل معها بحاسَّة إستراتيجية واعية، والسعي إلى بناء تحالفات سياسية واجتماعية وثقافية عريضة في الداخل التركي ضد هذه العنصرية، بدلا من الانفعال والارتجال، وردود الفعل المتشنجة التي تضر ولا تنفع، وقد تزيد من تفاقم الظواهر السلبية بدل احتوائها.
-----------
الجزيرة نت