جريمة اغتيال هنيّة تكشف افتقاد فلسطينيين وسوريين إجماعات وطنية وقيمية.
 
بيد أن تلك الحقيقة الواضحة والبسيطة جداً لم يتم التعامل معها على هذا النحو، إذ جرى تجاهلها، بحيث أضحت لدى البعض (لا سيما فلسطينيون وسوريون) مشروعاً للاختلاف، غير الصحي، ولا الموضوعي، إن بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط “حماس” بالنظام الإيراني، أو بسبب التداعيات الكارثية التي نجمت عن هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (طوفان الأقصى) لا سيما على الفلسطينيين في قطاع غزة، كما بسبب الطابع الأيديولوجي لـ”حماس” لدى بعضهم.
المشكلة أن الاختلاف الحاصل، الذي انخرط فيه فلسطينيون وسوريون أكثر من غيرهم، لا يحتكم إلى قواعد ناظمة، ولا إلى قيم أو معايير سياسية أو أخلاقية، ما يمكن تفسيره، أولاً، بحال الفراغ السياسي السائد عند الفلسطينيين والسوريين (بدرجة أكبر) إذ لا وجود لمرجعيات سياسية، ولا لإجماعات وطنية، ولا لكيانات ذات مكانة تمثيلية وازنة، إذا استثنينا حالتي “فتح” و”حماس” فلسطينياً، وهما سلطتان؛ وتلك مشكلة أخرى.
ثانياً، تفشّي حال الإحباط لدى السوريين والفلسطينيين، إذ إن كلاً منهما يعايش نكبة مدمرة ومؤلمة ومأساوية وقاسية، بكل معنى الكلمة، بخاصة مع غياب أفق أفضل، رغم كل التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها الطرفان للتحرر وللتغيير السياسي.
ثالثاً، سيادة الثنائيات التبسيطية والحادة والمطلقة في الوعي السياسي المهيمن، فإما معي وإما ضدي، وطني أو خائن، مؤمن أو كافر، أبيض أو أسود، فكل طرف يدعي امتلاك الحقيقة، وتلك من أهم معضلات التفكير السياسي العربي، عند كل التيارات الأيديولوجية، القومية واليسارية والإسلامية.
رابعاً، الاحتكام في كل شيء إلى العواطف والعصبيات والروح الثأرية، مع اعتماد خطاب المظلومية، في معادلة مأساة في مواجهة مأساة، وضحايا في مواجهة ضحايا؛ وهي معادلة ظالمة ومتعسفة أيضاً.
هكذا، استبطنت تلك العوامل في نقاش عملية اغتيال هنية، إذ لم يحصل، هذه المرة، انقسام بين سوريين يرون قضيتهم كقضية مركزية، مقابل فلسطينيين يرون أن قضيتهم هي المركزية، فالانقسام حصل بين الفلسطينيين أنفسهم، ومثله بين السوريين أنفسهم أيضاً. 
وعليه فقد أخذ بعض الفلسطينيين على هنية موقعه السياسي، ومسؤولية حركته عن “طوفان الأقصى”، التي استغلتها إسرائيل، كفرصة سانحة لشنّ حرب إبادة جماعية على فلسطينيي غزة، وتعزيز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر.
أما  من جهة السوريين فقد أخذوا على قيادة “حماس” تحالفها مع إيران، أو ارتباطها بها، وضمن ذلك اعتبار هنية أن سليماني (قائد الحرس الثوري الإيراني) شهيداً للقدس، فيما النظام الإيراني مسؤول عن قتل ملايين السوريين وتشريدهم.
مشكلة الفلسطينيين والسوريين الذين انخرطوا في السجال حول اغتيال هنية، عدم التمييز بين انتقاداتهم قيادة “حماس”، لخياراتها السياسية والكفاحية وتحالفاتها الخارجية؛ وهو أمر مشروع وطبيعي، وبين حقيقة أن إسرائيل المجرمة، اغتالت الرجل لأسبابها هي، وليس لأسبابهم، أي لأنها تقتل وتشرد وتدمر بالفلسطينيين، ولأنها دولة استعمارية وعنصرية ودولة إبادة جماعية، كما باتت تُعرف مؤخراً، وهذا التمييز ليس مسألة ثانوية، إنما هو في صلب السياسة، وأبجدية الإدراكات السياسية؛ وفي صلب المعرفة بحقيقة إسرائيل منذ إقامتها في المنطقة.
معنى ذلك أنه كان بإمكان المنتقدين، سوريين وفلسطينيين، أن يدينوا جريمة الاغتيال من حيث المبدأ، وفقا للقيم والمعايير السياسية والأخلاقية، وفي الوقت نفسه أن يعبروا عن عدم توافقهم مع تلك الحركة في سياساتها وتحالفاتها، بخاصة أن الخلط والاستسهال والإطلاقية تضر بالمواقف السياسية، مع ملاحظة أن “حماس” (بالنسبة للسوريين) أيدت الثورة السورية في أعوامها الأولى، لأسبابها طبعاً، وخرجت من سوريا، وتوترت علاقتها مع إيران، هذا للتاريخ، مع إن ذلك لا يغطي سعيها، لاحقاً، لتطبيع علاقاتها مع النظام، وتوثيق علاقاتها مع “حزب الله” وإيران.
بيد أن بعض من يأخذ ذلك على “حماس”، يسهى عن أن وجود فصائل مسلحة إسلامية، أضرت بالثورة السورية، وبإلاجماعات الوطنية للشعب السوري، بعلاقاتها وطريقة عملها وخياراتها وتحالفاتها، لا يبرر للنظام (وحليفته إيران وميليشياتها) توحشه ضد السوريين، ولا يحجب مشروعية سعي الشعب السوري إلى الحرية والكرامة والعدالة والتغيير السياسي. 
يُستنتج من ذلك أن الضحية تبقى ضحية، في القضيتين السورية والفلسطينية، أما الخيارات السياسية والكفاحية للقوى الموجودة، فهذا شأن يتعلق بدرجة تطور المجتمع المعني، ومدى نضج كياناته السياسية، عند السوريين والفلسطينيين، وعند أي شعب أخر.
طبعاً، قد لا يمكن تفهّم أو قبول، هكذا علاقة على حساب الشعب السوري، بدعوى الدعم الذي تقدمه إيران لـ “حماس”، لأن خراب العراق وسوريا ولبنان، بسبب هيمنة إيران وميليشياتها، أكثر شيء استفادت منه إسرائيل؛ عدا أن إيران تدعم “حماس” باعتبارها ورقة لتعزيز نفوذها الإقليمي في المشرق العربي، إذ إن العديد من قادتها يعتبرون أن دولتهم تهيمن على عدة عواصم عربية (صنعاء، وبيروت، ودمشق، وبغداد، وثمة من يضيف غزة).
أما بخصوص التحفظ على الطبيعة الأيديولوجية لـ “حماس”، عند بعض السوريين والفلسطينيين، فهذا لا يفيد باحتسابها على إيران، أو على الميليشيات التي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران ك”حزب الله” مثلاً، بحكم طبيعتها، وسياق نشوئها من رحم حركة “الإخوان المسلمين”، وكونها جزءاً من حركات الإسلام السياسي، وتعبر عن تيار في الشعب الفلسطيني، مثل التيارات الوطنية والقومية واليسارية الأخرى، رغم أنها لأسباب مختلفة، وجدت دعماً لها من إيران.
على ذلك، فإن المشكلة مع “حماس” تكمن في تغليبها طابعها كحركة إسلامية ودينية على حساب طابعها كحركة سياسية ووطنية، وتغليب طابعها كسلطة على حساب طابعها كحركة تحرر، ومبالغاتها بقدراتها، وتعويلها في خياراتها السياسية والكفاحية على إيران وميلشياتها.
اللافت، أيضاً، أن ثمة فلسطينيين، من المعترضين على “حماس”، بسبب طابعها الأيديولوجي، أو بسبب خياراتها الكفاحية، و”هجوم فيضان الأقصى”، ذهبوا حد اعتبار أن خيار أوسلو كان خيارا حميداً، كأن وضع السلطة في الضفة وخياراتها، هي الأسلم والأفضل للشعب الفلسطيني، أو كأن الفلسطينيين منذورون لخيارين، وليس ثمة خيارات أخرى، من دون ملاحظة تآكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وتكلسها، واستهلاكها لذاتها، بعد ستة عقود.
في الغضون، يلفت الانتباه تخشب قيادة “حماس”، وتمنعها عن أي مراجعة أو نقد لخياراتها، بما لا يقل عن تخشب وتمنع وتبرم القيادة الفلسطينية الرسمية.
المشكلة، إضافة إلى كل ما تقدم، تتعلق بافتقاد أو تشوش معنى قيم الحرية والكرامة والعدالة، باعتبارها قيماً أخلاقية، وفوق سياسية، يجب الاحتكام إليها، أو التحصّن بها، لأنها هي جوهر المعنى الإنساني للكفاح من أجل حياة أفضل، سواء في حركات التحرر الوطني، أو في الكفاح من أجل التغيير السياسي، وهي قيم لا تتجزّأ ولا يُشترط ولا يُقايض عليها؛ وتلك هي التي يُفترض أن تنظم التوافق والاختلاف، للتوصل إلى إجماعات وطنية سورية وفلسطينية.
---------
موقع درج