سببان للقلق
مشاهد المعارك غير المسبوقة، وعلو الكعب الذي سجله الفلسطينيون خلال المواجهات الأولى، مع سيطرتهم على مساحات شاسعة من الخط الفاصل بين غزة ومحيطها الخاضع لجيش الاحتلال، وما أسفر عنه من أسر وقتل المئات من الإسرائيليين، جعل الكثيرين يسجلون الإعجاب ويتفاعلون بحماس مع التطورات، لكن مع بروز تخوفين أساسيين:
الأول هو الخشية من رد فعل الجانب الإسرائيلي بحق المدنيين من سكان القطاع، حيث قضى أكثر من مئة فلسطيني نتيجة القصف العنيف الذي نفذه الجيش الإسرائيلي هناك حتى عصر السبت
وختم بالقول: البوصلات التي تصلي باتجاه طهران لن تحرر الفلسطيني المقهور.
من جانبه فإن إسلام أبو شكير يرى أن "الخوف هو من تحول الرهائن والمكتسبات التي تحققت إلى موضوع للمفاوضة على نووي إيران، وأرصدة إيران، ومواقع إيران بسوريا.. وفلسطين كلها تصبح خارج الموضوع.
علاقة هيمنة أم تبادل مصالح؟
لكن ورغم إقرارهم بالمخاوف المشروعة للسوريين، وتفهمهم للتحفظات التي يتم تسجيلها، إلا أن العديد من الكتاب والناشطين الفلسطينيين السوريين المؤيدين للثورة والمعارضين لنظام ميليشيا أسد، يؤكدون أن الأمور لا تسير على هذا النحو المتصور لدى الكثيرين. ولتوضيح الصورة التي يراها مشوشة، يقول الباحث الفلسطيني السوري أيمن أبو هاشم، إن الحديث عن لعبة إيرانية لخدمة أجنداتها الإقليمية من خلف هذه المعركة، هو إسقاط غير موضوعي لطبيعة التحالفات في سوريا على التحالفات الفلسطينية الإيرانية، رغم استفادت طهران من ذلك بطبيعة الحال.
ويضيف في تصريح لـ"أورينت نت": حتى نقرأ ما يجري الآن في غزة وفي فلسطين بصورة واقعية وموضوعية، علينا تجنب إسقاط منظورنا للصراع في سوريا على تطورات الحالة الفلسطينية، لأن فرضية تناول عملية طوفان الأقصى وكأنها لعبة إيرانية لخدمة أجندتها الإقليمية، وتوظيفها أيضاً بما يخدم تخفيف الضغوط على نظام الأسد، هي فرضية تقوم على تصور امتلاك إيران لقرار الحرب في فلسطين أسوةً لدورها وتأثيرها في سوريا.
أبو هاشم، وهو الأمين العام لـ"تجمع مصير" يرى أن "هذا تصور خاطئ لمن يدرك آليات تطور الصراع في الأرض المحتلة، لا سيما مع تصعيد التيار الصهيوني المتطرف حربه المفتوحة ضد الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، فهذا التيار الذي يحكم الكيان الصهيوني، لم يترك بجرائمه وانفلات مستوطنيه وتحويله حياة الفلسطينيين إلى جحيم، أي خيار أو فرصة أمام شعبنا المظلوم سوى مقاومته، والتفاف المجتمع على كل من يتبنى هذا الخيار، بغض النظر عن استفادة إيران أو غيرها من حالة المقاومة والتصعيد العسكري".
بل إنه يذهب أبعد من ذلك حين يؤكد أن نتائج المعركة في حال صبت بصالح الشعب الفلسطيني فإنها لن تكون لمصلحة تحالف الأسد-إيران "لإنه في حال خرج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن إليات الضبط والسيطرة، فهذا لن يكون على المستوى الاستراتيجي بمصلحة إيران أو النظام الأسدي، لأن تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال، سيفتح آفاقاً جديدة لتحرر الشعوب العربية من قوى الاستبداد والظلم، وهذه القراءة لا تعني أن نبرر لحماس وغيرها التحالف مع إيران، لأننا نعتبره من خطايا حماس التي لا يمكن قبولها والصمت عنها، لكن شعبنا الفلسطيني سيواصل مقاومته التي بدأها قبل ولادة حماس وسيستمر بها حتى نيل حقوقه وحريته".
مكاسب وتكهنات
التوضيحات التي يقدمها أبو هشام وكثير من الفلسطينيين الرافضين للعلاقات التي تجمع فصائل المقاومة الرئيسية بإيران ضمن ما يعرف بـ"حلف المقاومة" وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها لا تطمئن على ما يبدو القطاع الأكبر من السوريين المعارضين لهذا الحلف.
بل إن الكاتب والسياسي السوري المعارض محيي الدين لاذقاني، يستعيد تاريخ العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية كمدخل لفهم التنافس والصراع القائم حالياً، موضحاً المكاسب الإيرانية من هذه التطورات.
ويقول في حديثه لـ"أورينت نت": العلاقات الإسرائيلية-الإيرانية من أعقد العلاقات في العالم، وفيها حب وكراهية وصراعات واضحة وخفية، وطبعاً لم ينس هذا الجيل أن تسليح إيران في السنوات الأخيرة من حربها مع العراق جاء عبر إسرائيل في الفضيحة الشهيرة بـ"نورث غيت".
قد تبدو هذه القصة تاريخية، لكن استحضارها، من وجهة نظر لاذقاني، ضروري لنتذكر أن الطرفين كانا يتعاونان حتى في قضايا التسليح، فلما جاءت قصة النووي الإيراني بردت العلاقات الدافئة وازداد التوتر، فهددت إسرائيل بضرب إيران منفردة لتجمد مشروعها النووي. ويتابع: في قصة "طوفان الأقصى" التي تفجرت السبت يظهر التفوق الإيراني على إسرائيل في هذه الجولة، والذي استغرق ترتيبها زمناً على ما يبدو، لأن إيران لا تقاتل داخل حدودها ولا بجنودها حتى الآن، بل تحرك ميليشيات وفصائل سلحتها ودعمتها عبر عقدين من الزمن وجاء وقت استخدامها. يقر لاذقاني أنه لا يمكن التأكد ما إذا كانت إيران هي من حددت ساعة الصفر لعملية طوفان الأقصى، أو أنها وجدت فيها فرصة للتصعيد على طريقة "لم آمر بها ولم يسؤني" إلا أن الهدف الأساسي للعملية يظل في إطار إرباك إسرائيل حتى لا نقول إضعافها، ولعل أول المكاسب التي تحققها إيران من عملية طوفان الأقصى هي ترميم خطاب المقاومة والممانعة الذي تستمد منه قوتها في المنطقة، والذي اهترأ على يد بشار الكيماوي الذي تقصفه إسرائيل بطريقة شبه يومية دون رد، إلى أن صار ذلك الخطاب يثير السخرية.
جغرافياً، فإن الوضع في سوريا مفتوح على كل الاحتمالات، ووجود إيران الدائم والثابت فيها هو واسطة العقد لمشروع الهلال الشيعي الذي أحكمت حلقاته وتعرف تماماً أن خروجها من سوريا يضرب هذا المشروع كله في الصميم، وهو مشروع استثمرت فيه المليارات بما في ذلك تثبيت وجودها في اليمن والعراق ولبنان، لكن لا يزال هناك من ينازعها السيادة والسيطرة في سوريا.
بهذا الصدد يستعيد الباحث لاذقاني موقف إسرائيل من بشار أسد ونظامه في ضوء علاقاتها المتوترة بإيران، ويقول: لقد دعمت إسرائيل بقاء بشار الكيماوي معتمدة على وعود روسيا بإبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدودها، وقد اكتشفت الآن صعوبة تحقيق الوعد الروسي، وعليه أتوقع أن تتابع التصعيد، ومن الصعب التكهن بالمدى الزمني لهذه العملية، لكن طالما أن أمريكا سارعت بتقديم قرابة خمسة مليارات دولار كمساعدات عاجلة لإسرائيل، فهذا يؤشر إلى أنها ربما تكون قد اعتبرت عملية طوفان الأقصى الفرصة التي تنتظرها لتقلم أظافر إيران في ظل صمت عربي مضمون ودولي منشغل بالحرب الأوكرانية
----------
أورينت نت