يُمثل موقف الرياض، وكذلك الدوحة، عائقا أساسيا أمام مسار التطبيع العربي مع النظام منذ انطلاقه بدعم من روسيا عام 2018. بطبيعة الحال، يعزز هذا الموقف سياسة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا التي لا تشجع على فك العزلة المفروضة على النظام منذ عام 2011 ما لم يكن هناك تغيير حقيقي وجدي في سلوكه الذي يهدد الأمن المحلي والإقليمي والدولي.
منذ ذلك الحين، لم تُحقق التسوية السياسية في إطار اللجنة الدستورية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015 -باعتبارها أحد بنود المبادرة- أي خرق أو تقدم، بل باتت معطلة بالكامل منذ منتصف عام 2022، بسبب موقف النظام الذي ربط استمرارها باستجابة الغرب لشروط روسيا. وبينما يُفترض أن يسعى النظام لتقليص نفوذ إيران عسكريا في مناطق سيطرته، فقد أتاح لها مزيدا من التسهيلات لنشر منظومة الدفاع الجوي الخاصة بها جنوب العاصمة وجنوب البلاد، وباتت البنية التحتية للدفاع الجوي السوري مفتوحة أمام مليشياتها أيضا.
لقد زاد النظام من مستوى التهديد للأمن الإقليمي العربي بدلا من تقليصه، إذ أصبحت شحنات المواد المخدرة تتدفق أكثر من أي وقت مضى نحو دول الخليج العربي وشمال أفريقيا. ومن الواضح أن هذا السلوك كان يهدف للضغط على الدول العربية والمجتمع الدولي من أجل الاستجابة لبقية شروط التطبيع، مثل فك العزلة ورفع العقوبات الاقتصادية عنه.
وبالفعل، جاءت المبادرة العربية الثانية التي قدمها هذه المرة سلطان عُمان هيثم بن طارق لبشار الأسد بشكل مباشر، ولا تختلف في بنودها عن الأولى، بل تستجيب لرؤية النظام للحل السياسي من ناحية تشكيل حكومة وحدة وطنية بين طرفي النزاع من دون التطرق لمصير الأسد. في الواقع، اكتسبت المبادرة العربية الجديدة زخما أكبر من سابقتها، بسبب تقديمها كـ"نافذة إنسانية" للحل، بعد كارثة الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا في السادس من فبراير/شباط الماضي، رغم أنها كانت ستُطرح قبل ذلك، فالمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف كان قد زار الأردن يناير/كانون الثاني الماضي، بهدف مناقشة إطلاق جهد عربي لحل الأزمة.
يُشير دعم الدول العربية لمبادرة التطبيع الثانية، التي انخرطت في المبادرة الأولى رغم عدم تحقيق أي جدوى منها، إلى عدم وجود فهم مشترك حول الأمن العربي مقابل التركيز أكثر على استخدامه كوسيلة للحضور بالمشهد السوري بعد أن تراجع إثر اندلاع النزاع في البلاد، ثم تعثر الدور العربي للحل بين عامي 2011 و2015.
ويبدو أن الدول المنخرطة في مبادرة التطبيع الثانية مع النظام السوري تأمل أن يسهم حضورها بالمشهد السوري في أن تصبح جزءا رئيسيا ومؤثرا في سياسات كل من الولايات المتحدة وروسيا، فهي يُمكن أن تساعد في تنفيذ سياسة أميركية تقوم على الاحتواء المزدوج والمتباين للنظام وإيران، وفي المقابل يُمكن أن تُحقق كل دولة على حدة جزءا من أهدافها الأمنية والاقتصادية بالتعاون مع روسيا.
لكن هذه الأهداف والجهود ستكون غالبا بغير جدوى، فمصر التي تريد مثلا تقليص فارق القوة مع تركيا وإيران بالتعاون مع روسيا في سوريا ستصطدم بواقع ميداني ومؤسساتي فرضته السنوات السابقة منذ تأسيس منصة أستانا عام 2017، والأردن اختبر بشكل كبير منذ عام 2018 استحالة استجابة النظام أو قبول إيران بإبعاد مليشياتها من جنوب سوريا.
تدرك السعودية أن كل هذه الجهود لن تقود إلى سلام واستقرار أمني في سوريا، فسبق أن حاولت ذلك في العراق قبل أن تُقرر الانسحاب من المشهد هناك، ثم تعود إليه بعد استجابة حكومة بغداد لبعض من شروطها؛ ومع ذلك فما زالت تسير بسياسة حذرة للغاية. لن تختلف هذه المقاربة كثيرا في سوريا مع فارق القياس، فالرياض، والدوحة مثلها، على قناعة بأن أي خطوة يتم تقديمها للنظام لن تكون مجدية، لأنه لن يستجيب لها، ولن يُفوت فرصة استحداث أدوات جديدة للضغط على محيطه، كإغراق العالم العربي بحبوب "الكبتاغون" المخدرة. بمعنى، إما أن يستجيب النظام مسبقا لشروط أمنية يتم تناقلها أصلا عبر القنوات الاستخباراتية التي لم تُغلق، أو أن يكون حل الملف السوري جزءا من المفاوضات مع إيران، أو عدم الانخراط في أي مبادرة عربية.
وأخيرا، يُمكن القول إن نتائج مبادرة التطبيع العربية الثانية لن تكون أفضل من سابقتها أو أي حراك عربي منفرد، رغم كل الزخم الذي يرافقها، ولن تكون هناك أي جدوى ما لم يتوفر فهم مشترك لحماية الأمن العربي من التهديدات القادمة من سوريا، وما لم يتنازل النظام قبل الإقدام على أي خطوة لمصلحته.
--------
الجزيرة نت
لقد زاد النظام السوري من مستوى التهديد للأمن الإقليمي العربي بدلا من تقليصه، إذ أصبحت شحنات المواد المخدرة تتدفق أكثر من أي وقت مضى نحو دول الخليج العربي وشمال أفريقياومع ذلك، راقبت هذه الدول جميع خطوات ودعوات التطبيع السابقة، في محاولة لاختبارها، لكن لم تكن هناك أي جدوى، فالنظام -على سبيل المثال- لم يمتثل أو يستجب لأي من شروط وبنود المبادرة العربية الأولى التي اقترحها الملك عبد الله الثاني على الرئيس الأميركي جو بايدن منتصف عام 2021، رغم التقدم الذي تم تحقيقه لمصلحة النظام على مستوى بعض البنود، مثل تدفق المساعدات عبر خطوط التماس ومشاريع التعافي المبكر.
منذ ذلك الحين، لم تُحقق التسوية السياسية في إطار اللجنة الدستورية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015 -باعتبارها أحد بنود المبادرة- أي خرق أو تقدم، بل باتت معطلة بالكامل منذ منتصف عام 2022، بسبب موقف النظام الذي ربط استمرارها باستجابة الغرب لشروط روسيا. وبينما يُفترض أن يسعى النظام لتقليص نفوذ إيران عسكريا في مناطق سيطرته، فقد أتاح لها مزيدا من التسهيلات لنشر منظومة الدفاع الجوي الخاصة بها جنوب العاصمة وجنوب البلاد، وباتت البنية التحتية للدفاع الجوي السوري مفتوحة أمام مليشياتها أيضا.
لقد زاد النظام من مستوى التهديد للأمن الإقليمي العربي بدلا من تقليصه، إذ أصبحت شحنات المواد المخدرة تتدفق أكثر من أي وقت مضى نحو دول الخليج العربي وشمال أفريقيا. ومن الواضح أن هذا السلوك كان يهدف للضغط على الدول العربية والمجتمع الدولي من أجل الاستجابة لبقية شروط التطبيع، مثل فك العزلة ورفع العقوبات الاقتصادية عنه.
وبالفعل، جاءت المبادرة العربية الثانية التي قدمها هذه المرة سلطان عُمان هيثم بن طارق لبشار الأسد بشكل مباشر، ولا تختلف في بنودها عن الأولى، بل تستجيب لرؤية النظام للحل السياسي من ناحية تشكيل حكومة وحدة وطنية بين طرفي النزاع من دون التطرق لمصير الأسد.
يُشير دعم الدول العربية لمبادرة التطبيع الثانية، التي انخرطت في المبادرة الأولى رغم عدم تحقيق أي جدوى منها، إلى عدم وجود فهم مشترك حول الأمن العربي مقابل التركيز أكثر على استخدامه كوسيلة للحضور بالمشهد السوري بعد أن تراجع إثر اندلاع النزاع في البلاد، ثم تعثر الدور العربي للحل بين عامي 2011 و2015.
ويبدو أن الدول المنخرطة في مبادرة التطبيع الثانية مع النظام السوري تأمل أن يسهم حضورها بالمشهد السوري في أن تصبح جزءا رئيسيا ومؤثرا في سياسات كل من الولايات المتحدة وروسيا، فهي يُمكن أن تساعد في تنفيذ سياسة أميركية تقوم على الاحتواء المزدوج والمتباين للنظام وإيران، وفي المقابل يُمكن أن تُحقق كل دولة على حدة جزءا من أهدافها الأمنية والاقتصادية بالتعاون مع روسيا.
لكن هذه الأهداف والجهود ستكون غالبا بغير جدوى، فمصر التي تريد مثلا تقليص فارق القوة مع تركيا وإيران بالتعاون مع روسيا في سوريا ستصطدم بواقع ميداني ومؤسساتي فرضته السنوات السابقة منذ تأسيس منصة أستانا عام 2017، والأردن اختبر بشكل كبير منذ عام 2018 استحالة استجابة النظام أو قبول إيران بإبعاد مليشياتها من جنوب سوريا.
تدرك السعودية أن كل هذه الجهود لن تقود إلى سلام واستقرار أمني في سوريا، فسبق أن حاولت ذلك في العراق قبل أن تُقرر الانسحاب من المشهد هناك، ثم تعود إليه بعد استجابة حكومة بغداد لبعض من شروطها؛ ومع ذلك فما زالت تسير بسياسة حذرة للغاية. لن تختلف هذه المقاربة كثيرا في سوريا مع فارق القياس، فالرياض، والدوحة مثلها، على قناعة بأن أي خطوة يتم تقديمها للنظام لن تكون مجدية، لأنه لن يستجيب لها، ولن يُفوت فرصة استحداث أدوات جديدة للضغط على محيطه، كإغراق العالم العربي بحبوب "الكبتاغون" المخدرة.
وأخيرا، يُمكن القول إن نتائج مبادرة التطبيع العربية الثانية لن تكون أفضل من سابقتها أو أي حراك عربي منفرد، رغم كل الزخم الذي يرافقها، ولن تكون هناك أي جدوى ما لم يتوفر فهم مشترك لحماية الأمن العربي من التهديدات القادمة من سوريا، وما لم يتنازل النظام قبل الإقدام على أي خطوة لمصلحته.
--------
الجزيرة نت