في بداية تولّي بشّار الأسد الحكم، بعد أن اختاره الناس بحرّية (الحرية بالمفهوم الأسدي أن يختار الناس من اختاره الحزب) في استفتاء جرى في صيف 2000، راح يكرّر أن الاقتصاد هو محل الاهتمام الأول، وأن المواطن يهتم بمستوى معيشته أولاً، قبل أن يهتم بالسياسة وبالديمقراطية ... إلخ. بالمناسبة، أكثر من ينطق في بلاد العرب بكلمة "مواطن" هم الحكام، أي من لا تعنيهم هذه المفردة بشيء إلا بوصفها مفردة حديثة تزيّن الكلام. المواطن، هذه الكلمة التي قاتلت شعوبٌ كثيرة من أجلها، وضحّت كثيراً حتى بلغتها وكرّستها، جاءتنا نحن مجاناً، أقصد بلا قيمة، وظلت لذلك مجّانية وبلا قيمة.
المهم هو الاقتصاد والمعيشة. ألسنة النظام المعدّة لمديح كل ما يمكن أن يسوّغ إبعاد الناس عن السياسة، أو عن أن يكون لهم كلمة في تقرير مصيرهم، لم تتعب من مديح النموذج الصيني مثلاً، بدعوى التقدّم الاقتصادي للصين من دون أن تكون نظاماً ديمقراطياً. لا ينبغي لأحد أن يطرح السؤال: إذا كان التقدّم الاقتصادي هو الهدف، لماذا تمتدح هذه الألسنة الصين على أنها النموذج، ولا تمتدح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهما أكثر تقدّماً من الصين في الاقتصاد وفي غيره؟
مع ذلك، يبقى من المعقول التفكير في السؤال: أليس مستوى المعيشة أهم من الديمقراطية؟ نسبة كبيرة، إن لم تكن الكبرى، من الناس ستقول نعم، إن مستوى المعيشة هو الأهم، ولتذهب السياسة إلى الجحيم. ليس في هذه الإجابة ما يفاجئ. لكن، هل يمكن، في العصر الحديث، فصل الحياة الاقتصادية ومستوى المعيشة عن الحياة السياسية وآلية الحكم؟ وهل يمكن لحكمٍ مستبدٍّ أن يضمن حياة كريمة لمحكوميه؟ أليس شعور الناس بأن إرادتهم محترمة على المستوى السياسي ومستوى الحكم، وأن لهم كلمة في تقرير من يحكمهم، هو من ضمن مقاييس مستوى المعيشة نفسه؟ الواقع أن ما عاشه السوريون في العقد الماضي ينطوي على الإجابة. يمكن لسلطة مستبدّة أن تبني وأن تقطع شوطاً في التنمية، لكن كل ما يمكن لسلطة مستبدّة أن تبنيه يبقى معرضاً للانهيار في لحظة لا يمكن التحكم بها ولا يمكن تلافيها، هي اللحظة التي يقرر فيها الناس إمساك مصيرهم بيدهم. حين يكون دور الناس مهملاً وتكون علاقة السلطة بالشعب هي القسر والإملاء، الراجح أن تحمل لحظة الصحوة هذه الدمار، سواء على يد سلطة الاستبداد نفسها، أو على يد الفوضى التي تلي سقوط سلطة الاستبداد. يرى الجميع اليوم كيف تبخر كل التغنّي البعثي بالإنجازات و"بناء سورية الحديثة"، وكيف عادت سورية إلى زمن الفقر المدقع والمجاعات، وصارت موانئها البحرية والجوية وأصولها ومواردها مملوكة للغير ومعروضة للبيع.
اليوم، وقد أصبحت سورية في الحضيض من الناحية الاقتصادية التي كان الوريث يعتبرها الناحية الأهم وذات الأولوية على السياسة، بات جلياً لكل من يفتح عينيه أن نظام التوريث وحيازة السلطة بالقوة وتسخير الدولة لخدمة السلطة، على الضد من إرادة الناس ومصالحهم، قاد إلى تدمير كل إنجاز اقتصادي بناه السوريون، حتى وصلنا إلى أن يقترح أحد أبناء العائلة الحاكمة على السوريين العودة إلى حياة أجدادهم الزراعية، بدل أن يحتجّوا على الفقر، ويتكلموا في السياسة. هكذا إذن ينتهي السوريون بلا اقتصاد وبلا سياسة.
بعد القول: إننا نحتكر السياسة كي نطوّر الاقتصاد، فدعوا السياسة مؤقتاً، "حتى يصبح أمام كل منزل سيارة" بحسب قول شاع أنه منقول عن بشّار الأسد في السنوات الأولى من حكمه، انتقلت الطغمة الأسدية إلى القول: إننا نتفرغ لمواجهة مخاطر لا تنتهي، فدعوا جانباً الاقتصاد والسياسة معاً، وانتظروا. هكذا صار أي احتجاجٍ على التدنّي الفظيع في مستوى المعيشة، مرفوض وقد يعرّض صاحبه للأذى. وصار على الشباب السوريين أن يشكّلوا حركة سرّية باسم حيادي (حركة 10 آب)، لا لكي يطالبوا بتغيير سياسي، بل فقط
فقط لمطالبة السلطة بإعطاء تواريخ تقريبية تحدّد لهم إلى متى عليهم الانتظار. انتظار زيادة الرواتب، وإعادة الكهرباء إلى 20 ساعة في اليوم (لاحظ مراعاة عجز الدولة)، وإعادة الدعم للخبز والمحروقات، ومحاربة مصانع الكبتاغون، والإفراج عن المعتقلين السياسيين ... إلخ. ويؤكّد هؤلاء الشباب: "نعيد ونكرّر نريد تواريخ فقط وليس تنفيذاً للوعود لكي لا يتم اتهامنا بالتعجيز".
المطالب المذكورة أثقل على النظام من المطالبة بإسقاطه، ولعل هذه الحركة، على ضعفها البادي، ساهمت في دفع النظام إلى إصدار المرسوم التشريعي بزيادة الرواتب والأجور بنسبة 100%. تأتي قيمة المطالب المذكورة من أهمّيتها لعموم الناس، ومن صعوبة تعبئة قوى الأمن لقمع من يتحرّكون على أساسها. كما أن تنوّع الانتماء الاجتماعي للشباب المشاركين في الحركة، يجعل من الصعب حرق الحركة بإلباسها تهمة إسلامية. قد تكون المطالب المعاشية والحقوقية الأساسية، من دون الاقتراب من مطلب التغيير السياسي، المدخل الأنسب لتحقيق التغيير السياسي.
---------
العربي الجديد