تصاعد الممارسات “السلطوية”
في 2023، خلص معهد أنواع الديقراطية في-ديم (V-Dem)، وهو مركز لأبحاث العلوم السياسية، إلى أن عدد الأشخاص الذين يعيشون في بلدان تحكمها أنظمة ديمقراطية (وتُعرَّف على نحو عام بأنها بلدان يسودها القانون، وتخضع فيها السلطة التنفيذية لقيود السلطتين التشريعية والقضائية، وتحظى فيها الحريات المدنية بالاحترام) قد تراجع إلى مستويات عام 1985: أي مستويات ما قبل سقوط سور برلين وقبل خروج نيلسون مانديلا من السجن، وقبل إنهاء الحرب الباردة على أمل أن تبدأ حقبة جديدة في تاريخ البشرية.ومع ذلك، كانت تلك الحقبة الجديدة محض فترة وجيزة للغاية، بل وقد انتهت تمامًا في الوقت الحاضر، وتزايدت الأدلة التي تنبئ بانتهائها خلال 2023؛ إذ انتشرت الممارسات والأفكار “السلطوية” بين الكثير من الحكومات والمجتمعات. من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبهاK ومن شرقها إلى غربها، انتقصت السياسات السلطوية من حريتي الرأي وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها ونالت من المساواة بين الجنسين وقوَّضت الحقوق الجنسية والإنجابية.
وأفضى الخطاب الضمني العام، القائم على الكراهية والمتجذر في الخوف، إلى الجور على الحيز المدني وشيطنة الأفراد والجماعات المُهمَّشة، مع تحمُّل اللاجئين والمهاجرين والجماعات المُصنَّفة بالانتماء إلى عرق معيّن وطأة ذلك على وجه التحديد.
وتصاعدت ردود الأفعال القوية ضد حقوق المرأة والمساواة بين فئات النوع الاجتماعي في 2023، ما أنذر بتبديد ما تحقق من مكاسب على مدى الأعوام العشرين الماضية.
ففي أفغانستان، يُجرَّم فعليًا أن يكون الشخص امرأة أو فتاة؛ إذ أصدرت حركة طالبان عشرات المراسيم الرسمية التي تستهدف بها محو النساء من الحياة العامة. وعلى هذا المنوال، واصلت السلطات في إيران قمعها الوحشي لتظاهرات “المرأة – الحياة – الحرية”، وأدلت بتصريحات رسمية يغلُب عليها الكراهية ووُصِف فيها خلع النساء للحجاب بأنه “فيروس” و”مرض اجتماعي” و”اضطراب”.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، طبَّقت 15 ولاية حظرًا كاملًا على الإجهاض، أو أشكالًا من الحظر باستثناءات محدودة للغاية، مما أثَّر على السود وغيرهم من الفئات المُصنَّفة بالانتماء إلى عرق معيّن. وفي بولندا، لقيت امرأة واحدة على الأقل حتفها بسبب حرمانها، بموجب القانون، من خدمات التي كانت بحاجة إليها. واعتمدت أوغندا قانونًا قاسيًا مُعاديًا للمثليين، بينما روَّج قادة المجتمع والقادة السياسيون في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا لخطاب وسياسات ولوائح تنظيمية مُعادية للعابرين جنسيًا.
وعلى الرغم من أن العالم لم يشهد قبلًا هذا الكَم من الثروات، كان عام 2023 “عام انعدام المساواة”، كما أسماه البنك الدولي. وفي البلدان التي تتسم أوضاعها بالتنوع مثل المملكة المتحدة والمجر والهند، كان المدافعون عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من بين النشطاء الأكثر استهدافًا. وصُنِّف نشطاء المناخ “إرهابيين” بسبب إدانتهم لتوسع الحكومات في إنتاج واستثمارات الوقود الأحفوري. وأُسكِت منتقدو نُهُج الحكومات في إدارة الاقتصاد في الشرق الأوسط وأعضاء النقابات العمالية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ومكافحو الفساد في أفريقيا الغربية وتعرَّضوا للاحتجاز التعسفي.
هل عدنا إلى ما قبل 1948؟
من ناحية أخرى، كان عام 2023 أشبه بفترة ما قبل عام 1948، وكأن آلة الزمن ألقت بنا في محطة زمنية أبعد كثيرًا من عام 1985، ونزلنا إلى أتون جحيمٍ أوصِدَت أبوابها في 1948. فقد أعلنها العالم قاطبةً آنذاك، بعد أن وضعت الحروب العالمية أوزارها، وأودت بحياة نحو 55 مليون مدني، وبعد أن شُوهدت أهوال محرقة اليهود (الهولوكوست) التي أسفرت عن إبادة ستة ملايين يهودي والملايين الآخرين: “أبدًا بعد اليوم”.ومع ذلك، في 2023، عاد العالم أدراجه، ونسي شعار “أبدًا بعد اليوم”، وذهبت الدروس الأخلاقية والقانونية المستفادة من هذا الإعلان أدراج الرياح. ففي أعقاب الجرائم البشعة التي ارتكبتها حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حينما قُتِل أكثر من 1,000 شخص، معظمهم من المدنيين الإسرائيليين، وأُصيب الآلاف الآخرون وأُخذ حوالي 245 شخص كرهائن أو أسرى، شنَّت إسرائيل حملة انتقامية تحولت إلى حملة عقاب جماعي، وشملت شَن عمليات قصف متعمَّدة وعشوائية على المدنيين ومنشآت البنية التحتية المدنية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، وتدبير المجاعة.
وبحلول نهاية 2023، لقي 21,600 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، مصرعهم في خِضَم القصف المتواصل لغزة، مع الآلاف الآخرين في عداد المفقودين الذين يُعتقَد أنهم عالقون تحت الأنقاض. ومُحِيَت أيضًا معظم منشآت البنية التحتية المدنية في غزة من الوجود، بينما نزح نحو 1.9 مليون فلسطيني داخليًا وحُرِموا من أي سبل للحصول على ما يكفيهم من الغذاء والماء والمأوى ومرافق الصرف الصحي والمساعدات الطبية.
فأن تكون فلسطينيًا داخل غزة اليوم يعني أن تعيش نسخة أخرى من نكبة 1948، حينما تعرَّض أكثر من 750,000 للتهجير القسري، ولكنها نسخة أشد عنفًا ودمارًا.
وفي نظر الملايين حول العالم، تُمثِّل غزة في الوقت الحالي فشلًا أخلاقيًا ذريعًا يتحمله الكثير من مصممي نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفشلًا في ضمان الالتزام المطلق بشمولية حقوق الإنسان وباحترام إنسانيتنا المشتركة وضمان التزامنا بما أُعلِن تحت شعار “أبدًا بعد اليوم”. فقد نُكِث بالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويتضح ذلك على نحو أكبر في حالة السلطات الإسرائيلية، إلا أن الأمر لا يقتصر على إسرائيل فقط؛ فقد كان للولايات المتحدة الأمريكية دور رئيسي أيضًا في ذلك، وكذلك بعض قادة دول أوروبا وقيادات الاتحاد الأوروبي، إلى جانب كل من يُواصِل إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، وكل من لم يُدِن الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بلا هوادة، وكل من يرفض الدعوات المُنادية بوقف إطلاق النار.
وتُشكِّل تلك التصرفات مثالًا على ازدواجية المعايير التي لطالما نددت بها منظمة العفو الدولية على مدى عدة أعوام. ومع ذلك، تتمادى الجهات الفاعلة المؤثِّرة حاليًا في تصرفاتها، مُبدية استعدادها لتهديد النظام القائم على قواعد 1948 بالكامل، وتجريده من مبدأي الإنسانية المشتركة والشمولية الأساسيين، ما يجرِّدنا، بالتالي، من أي قدرة عالمية على منع وقوع الأسوأ.
وقد جاء كل ذلك في أعقاب غزو روسيا الشامل لأوكرانيا، الذي يُعَد انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة ويُضعِف سيادة القانون على الصعيد الدولي. ولا يزال العدوان الروسي على أوكرانيا يُمارَس في صورة شَن هجمات متعمَّدة ضد المدنيين وقتل الآلاف وتدمير منشآت البنية التحتية المدنية على نطاق واسع، بما فيها منشآت تخزين وتصدير الحبوب.
وخالفت أيضًا الصين، التي تُشكِّل هي الأخرى عضوًا دائمًا بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، القانون الدولي عبر حمايتها للجيش الميانماري وغاراته الجوية غير القانونية، واعتقالها للأفراد وممارستها للتعذيب، وحماية نفسها من التدقيق الدولي في الجرائم ضد الإنسانية التي تُواصِل ارتكابها، بما فيها الجرائم بحق أقلية الأويغور.
مستقبلٌ لا نريد أن نراه
في 2023، اتخذت رحلتنا نحو المستقبل مسارًا أسرع، مع إطلاق برنامج المُحوِّل التوليدي المُدرَّب مسبقًا (شات جي بي تي-4) (ChatGPT-4) وغيره من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في وقت مبكر عما كان متوقعًا. وإن كانت الانتهاكات المتعلقة بالتكنولوجيا التي وقعت في 2023 تنبئ بأي شيء، فإنها لا تنبئ إلا بآفاق مروعة في المستقبل.وتسهل التكنولوجيا السبل أمام إهدار الحقوق على نحو شامل؛ إذ تساعد على إدامة تنفيذ السياسات العنصرية وتمكين انتشار المعلومات المغلوطة وتقييد حريات التعبير. وكانت شركات التكنولوجيا العملاقة إما تجاهلت هذه الأضرار أو قللت من أهميتها، حتى في سياق النزاعات المسلحة مثل تلك الدائرة في إثيوبيا وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والسودان وميانمار. وشهدت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أيضًا ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات جرائم الكراهية المعادية للمسلمين والمعادية للسامية، مع التصاعد المقلق في حجم المحتوى الذي ينطوي على التحريض والإيذاء بحق المجتمعات الفلسطينية واليهودية على الإنترنت.
ولجأت الدول خلال 2023 على نحو متزايد إلى تكنولوجيا التعرُّف على الوجه لمساعدتها في حفظ الأمن خلال التظاهرات العامة والفعاليات الرياضية وفرض الرقابة الشُرطية على الأفراد من المجتمعات المحلية المُهمَّشة على وجه العموم، والمهاجرين واللاجئين على وجه الخصوص. وجرى اعتماد التكنولوجيا على نحو مسيء في إدارة عمليات الهجرة وإنفاذ الإجراءات على حدود البلدان، بوسائل تضمنت الاستعانة بتقنيات خارجية لضبط الحدود وبرمجيات تحليل البيانات والتقنيات البيومترية والأنظمة الخوارزمية لاتخاذ القرارات.
وظلَّت برمجيات التجسس غير خاضعة للتنظيم على نحو كبير، على الرغم من الأدلة التي تثبت أنها تُسهِّل ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان على مدى أعوام؛ ففي 2023، كشفت منظمة العفو الدولية عن استخدام برمجية بيغاسوس بحق صحفيين ونشطاء من المجتمع المدني في أرمينيا والجمهورية الدومنيكية والهند وصربيا، بينما كانت تُباع برمجيات التجسس المُطوَّرة داخل الاتحاد الأوروبي لدول في مختلف أرجاء العالم. واستجابةً لذلك، اعتمد البرلمان الأوروبي قرارًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 انتقد فيه عدم اتخاذ أي إجراء للحد من التجاوزات المُرتكَبة من جانب قطاع مُطوِّري برمجيات التجسس.
غير أنّه من المُرجَّح أن تتصاعد هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان في عام 2024، الذي سيشهد انتخابات حاسمة، مع ترك الخارجين عن القانون يصولون ويجولون في عالم التكنولوجيا والسماح لتقنياتهم الماكرة بالانتشار في مراتع الفضاء الرقمي؛ فيُنذِر كل ذلك بمستقبلٍ ماثلًا أمامنا بالفعل.
التضامن العالمي
لم يَخفَ عن الأعين ما وقع من انتكاسات على صعيد حقوق الإنسان في 2023، بل على النقيض تمامًا، انتفض الناس في أرجاء العالم للتنديد بانتكاس الأوضاع، حيث أبدوا تضامنًا عالميًا غير مسبوق.فقد أشعل النزاع بين إسرائيل وحماس فتيل مئات المظاهرات حول العالم، مع خروج الملايين للاحتجاج على مقتل المدنيين والدعوة إلى إطلاق سراح الرهائن والمُطالَبة بوقف إطلاق النار.
واتخذ الأمين العام للأمم المتحدة ورؤساء الوكالات التابعة لها والمنظمات الإنسانية خطوات غير مسبوقة لإدانة جرائم الحرب المُرتكَبة في جنوب إسرائيل وغزة ودعوة إسرائيل إلى احترام القانون الدولي.
واُعتُمِدَت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة في 2023 بتأييد الأغلبية الكاسحة، والتي دعت فيها إلى وقف إطلاق النار، بينما تقدمت جنوب أفريقيا بعريضة دعوى أمام محكمة العدل الدولية، زاعمةً أن ممارسات إسرائيل في غزة تنتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، ومُشدِّدةً على الأهمية المركزية التي يحظى بها النظام الدولي القائم على قواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وشهد عام 2023 تصاعد الزخم تجاه تطبيق نظام ضريبي عالمي أكثر عدلًا، للمساعدة في منع التهرُّب والتجنُّب الضريبيين وحشد الموارد للبلدان منخفضة الدخل. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، على خلاف رغبة البلدان الأكثر ثراءً، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع قرار طرحته المجموعة الأفريقية لتأسيس لجنة دولية تُعنى بصياغة اتفاقية للضرائب برعاية الأمم المتحدة بحلول يونيو/حزيران 2025.
وفي عام 2023، كان العديد من الأشخاص يقاومون ويوقفون قوى تُعيد العالم إلى ما كان عليه الوضع عام 1985 وما قبل عام 1948؛ وكان أولئك هم الذين خرجوا في مسيرات ومظاهرات لمُناهَضة القوى التي تدفع بنا جميعًا إلى مستقبلٍ لا يد لنا في صنعه. وقد تشكلت ملامح عام 2023 بفضلهم، على الرغم من الصعاب.
وإني لآمل أن يرى الدبلوماسيون والنشطاء في عام 2048، بل حتى في عام 3048، عندما يسترجعون ما وقع خلال العام الماضي، أنه كان يوجد الكثير والكثير من الأخيار حول العالم الذين بذلوا كل ما في وسعهم، واتخذوا موقفًا ورفعوا صوتهم من أجل إنسانيتنا المشتركة.