طبعاً لا توجد أي مصادر موثوقة تدعم هذه الرواية التي وضعت من قبل الاخوان للمبالغة في تصوير أهمية وتأثير شيخهم البنا. كما أنه لا يمكن تصور أن تكون أمريكا، التي كانت قد خرجت للتو من انتصار ساحق على جميع قوى وامبراطوريات العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بما فيها دول الحلفاء المنتصرين، لا يمكن تصور أنها ستكون منشغلة بجماعة أو حزب مصري مهما كانت توجهاته أو أهدافه، ناهيك عن أن الاخوان، حتى ذلك الوقت، لم يكونوا قد امتلكوا هذه الحضور الذي يحسب حسابه حتى داخلياً.
لكن المؤكد أن سيد قطب قرأ أو سمع في الولايات المتحدة شيئاً من هذا القبيل، فلن تعدم الصحافة الأمريكية وقتها بالتأكيد خبراً أو مقالاً يحتفي بمقتل الشيخ حسن البنا، وأتصور أنه جادل بعض زملائه الأمريكان في هذا الأمر، كما يتم النقاش في أي حدث، هذا إذا كان قد تمكن بالفعل من إقامة علاقات اجتماعية مع ما يكفي من زملائه ومن محيطه الأمريكي، الذي أعتقد، وبحكم دراستي المتواضعة لسيرة الرجل، أنه فشل في تكوين مثل هذه العلاقات، وهو سبب آخر من أسباب ردة فعله السلبية جداً تجاه الغرب باعتقادي، ما سرع بعودته إلى مصر وإعلانه العداء للحضارة الحديثة، بعد أن كان يدعو إلى التعري في بعض مقالاته، وأنتج كتباً في النقد الادبي والفني والجمالي تعبر عن كاتب علماني ليبرالي لا يمكن المجادلة في توجهاته.
عندما قررت الهجرة إلى فرنسا كمنفى إجباري أو اضطراري، مثل كثير من السوريين، قررت أن استفيد من تحربة سيد قطب التي وضعت لها عنواناً استنتجته ذاتياً، وهو أن الرجل لم يحتمل عدم تقبله من المجتمع الامريكي، وأنه لم يستطع تفهم أو تجاوز محنة الجيل الأول من المهاجرين، حيث يواجه هؤلاء صعوبات بالغة في الاندماج والفرص، بعد كان يعتقد أنه يمتلك من المواهب والأفكار ما يؤهله لنجاحات باهرة في أمريكا. والحق أن قطب كان أبي النفس صاحب أنفة، ولم يكن فارغ الداخل بل مثقفاً من طراز رفيع، ثري الفكر، لكن الصدمة التي واجهها هناك وفشل في توقعها، ولّدت لديه ردة فعل متطرفة، وهو الشخص الذي ستكون كل ردود فعله على هذا النحو باستمرار، متطرفة متوترة تجاه الجميع، بدء من الملك ومن ثم الضباط الأحرار بسبب موقفهم من الأخوان، ثم تجاه جماعة الاخوان نفسها بسبب خلافات مع قادتها، وصولاً إلى اعتبار المجتمع المصري بأكمله، والأمة الاسلامية كلها، تعيش جاهلية جديدة، ما جعل فكره أحد حوامل نشوء الجماعات التكفيرية بعد سنوات.
لا أقارن نفسي بسيد قطب من حيث المواهب والثقافة والامكانات، لكن أعتقد أنني فهمته أكثر بعد أن عانيت هنا في منفاي صعوبات بالغة في التعامل مع المجتمع الفرنسي الذي كان واضحاً أنه لا يتقبلني، ولا يمكن أن يقبلني في أي يوم كجزء منه، فتوقفت عن تعلم اللغة الفرنسية التي اتقنتها بشكل جيد منذ العام الاول لوصولي إلى هذا البلد، لأنني لم أجد من يحدثني بهذه اللغة التي بقيت مجرد قارئ لها بحكم متابعتي للصحافة، وتخليت عن حلمي بمواصلة الدراسة بعد أن رفضتني كل الجامعات الفرنسية دون أي سبب أو تفسير ! وكذلك توقفت عن السعي لتكوين صداقات مع فرنسيين لأنني لم احتمل أن تجري الأمور كما يريدها الفرنسي وحسب مواقيته وترتيباته، ناهيك عن اكتشافي مدى العنصرية المتفشية تجاه الاجانب بينهم رغم كل محاولات اخفائها بالذكاء والتملق الفرنسي المعروف، ناهيك عن عمق الكراهية المتبادلة وعدم الثقة بين قسم كبير من الفرنسيين وبين غالبية المهاجرين !
لكنني استفدت من تجربة سيد قطب، فلم يجعلني كل ما سبق أنقم على المجتمع والشعب والناس هنا، وأتجاهل نسبة الطيبين من الفرنسيين الذين ساعدونا لدى وصولنا إلى هذا البلد، والذين يقفون بجانب اللاجئين والمهاجرين حتى اليوم، وغيرها من مظاهر الانسانية التي لن تعدمها حتى وأنت تواجه حمى الدفاع عن اسرائيل المتفشية اليوم من قبل المؤسسات السياسية والإعلامية، وسعار التأليب على العرب والمسلمين في بعض وسائل الإعلام ومن قبل عدد من الأحزاب والقوى المتنفذة، ليس هنا فقط بل في عموم أوربا الغربية.
تخيلوا لو أن سيد قطب يعيش اليوم في فرنسا أو أوربا، وإذا كان لم يحتمل مقالاً قرأه يشمت بموت حسن البنا فتحول لناقم على الغرب كله، كيف سيكون موقفه لو رأى وعايش هذه الفضيحة الغربية اليوم، والسقوط السياسي والاخلاقي المدوي لكثير من حكوماته وأحزابه ووسائل إعلامه ؟!
أنا أيضاً لم أستطع السكوت على ما سبق، وهاجمت بشدة كصحفي وكناشط سياسي، هذا التعاطي الغربي مع الحدث في غزة، بل وقررت أن أحزم حقائبي لأغادر فرنسا والغرب بعد أن اقتنعت أن حرية التعبير فيه مجرد خديعة، ولن أقول كذبة، بمعنى أنها مسألة نسبية ومفصلة على المقاس، وليست مطلقة كما أوهمونا، كما أنها ليست وهماً مختلقاً لا وجود له، كما يريد أن يوهمنا أعداء الغرب الإيديولوجيون، بل أغادر غاضباً لا حاقداً، ولا أفكر بالعودة لا كفاتح ولا غازياً، وأرجو ألا أضطر للعودة تحت أي طائل..لكن بالمحصلة أقر أن تجربتي هنا كانت فاشلة.
لقد مثل ظهور الإعلامي والطبيب المصري باسم يوسف خلال الأيام الماضية للحديث عن القضية الفلسطينية، مثل صدمة قاسية بالنسبة لي، إذ وبقدر سعادتي وافتخاري بأدائه في حلقتين استضافه فيهما الاعلامي الانكليزي الشهير بيرس مورغن، للحديث حول ما يجري في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، بقدر ما شعرت بمرارة وقسوة الفشل بعد ثماني سنوات من الهجرة.
نعم، لم أكن أتوهم أنني حققت أي نجاح هنا، ولطالما بذلت كل ما أستطيع من جهد لفعل أي شيء مهم، لكن بسبب عدم تأقلمي مع المجتمع والمكان الذي انتقلت للعيش فيه، وعدم حصولي على أي مساعدة مهمة للمضي قدماً في تطوير الذات، استسلمت منذ سنوات وتوقفت عن المحاولة.
كنت أعتقد أن هذا هو الموقف الذي يجب أتخذه ..أن أقاطع هذا الواقع والمحيط وأرفضه كما رفضني، مع عدم تجاهل ما فيه من ايجابيات والوقوع بفخ كراهيته، لكنني اليوم اكتشف أنه كان علي أن اتصرف بشكل مختلف لأكون مفيداً ومؤثراً في هذا المجتمع، كما فعل باسم يوسف، الذي تمكن بساعتين فقط من تغيير الرأي العام الشعبي في الغرب.
لقد استخدم يوسف لغته الانكليزية الممتازة ومعرفته بطريقة تفكير المجتمعات الأوربية والأمريكية من أجل مخاطبتهم والتأثير فيهم واقناعهم، أو على الأقل إحراجهم، ما شجع ناشطين آخرين على تحدى الترهيب الفكري الذي تمت ممارسته في الأيام الأولى للحرب في غزة، وهو ما جعل الملايين يخرجون لاحقاً للتظاهر في واشنطن وبرلين وباريس ولندن واستوكهولم وغيرها من العواصم والمدن الغربية الكبرى، ليس احتجاجاً على مواقف حكوماتهم من المذبحة التي ترتكبها اسرائيل وحسب، بل تعبيراً أيضاً عن سخطهم من القوقعة التي وضعتهم فيها هذه الحكومات والأحزاب المسيطرة، ووسائل إعلامهم التقليدية على مدار عقود.
بسبب حرب غزة وبفضل من هم مثل باسم يوسف من الناشطين وصناع المحتوى على وسائل التواصل، اكتشف ملايين الأوربيين والغربيين أن ديمقراطيتهم باتت لعبة بيد الأحزاب الكبرى، وأن إعلامهم الحر عبارة عن صناديق مغلقة تحفل بالأكاذيب والتضليل والزيف منذ عقود، وأن حرية التعبير غدت مجرد علبة لبن نزع منها الدسم والبروتين ولم يبق إلا طعمها الباهت والاسم المطبوع عليها من الخارج، وأن اسرائيل تستنزف ليس أموالهم وحسب، بل وقيمهم وسمعتهم من أجل اهداف لا يفهمونها !
أسمع ومنذ أيام الكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي في الغرب يرددون كلمة واحدة بكثرة، وهي “لقد تحررنا” عطفاً على الكم الكبير من المعلومات والحقائق التي حصلوا عليها، أو وجدوا أنفسهم مدفوعين من أجل البحث عنها فيما يخص اسرائيل وفلسطين تاريخياً، وبما يتعلق بما يجري في غزة اليوم.
هؤلاء، لولا منصة تكتوك وبعض وسائل التواصل والناشطين المتحررين من الهيمنة والترهيب، لظلوا أسرى الغارديان ولوموند ونيويورك تايمز ودير شبيغل ونيوزويك ورويترز وفرانس برس وفوكس نيوز وسي إن إن وبي بي سي وغيرها من كبريات وسائل الإعلام الغربية المسيطر عليها سياسياً ومالياً، وعندما يقولون إنهم تحرروا فهم يقصدون كم التضليل والتشويه الفكري الذي كان يتعرضون له، ولولا أن ناشطين من أصول عربية وأفريقية، تعاونوا مع سياسيين شرفاء وانسانيين في الغرب، لاستمر المواطن الأوربي والأمريكي أسير ما تقوله الأحزاب المتنفذة ووسائل الإعلام المهيمنة.
هل تعتقدون أن هذا سهل ؟
إطلاقاً..هذا يحتاج إلى مواهب وثقافة وجرأة وشجاعة لم تكن تنقص سيد قطب، لكن ما كان ينقص هذا الأخير هو الصبر وسعة الأفق، هاتان الميزتان اللتان افتقدهما في أمريكا وعندما عاد إلى مصر أيضاً.
أما أنا فأقر أنني فشلت في فعل أي شيء مفيد، وها أنا ذا أغادر بحثاً عن فرصة أخرى في مكان جديد، وكلي حسرة أنني لم أكن مثل باسم يوسف وبقية الناشطين من المهاجرين في الغرب، الذين أفادوا قضيتهم هنا وكانوا مؤثرين بالفعل بسبب أشياء امتلكوها
------------
اورينت نت