وبالنسبة لكثيرٍ من هؤلاء القراء، تشكل هذه الشخصية تجسيداً قوياً وربما فظاً للجاذبية البايرونية، نسبةً للسياسي والشاعر البريطاني اللورد بايرون، وكذلك لحركةٍ أدبيةٍ تحمل اسم "العاصفة والاندفاع"، ظهرت في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فـ "هيثكليف" لا يجسد تلك الصورة النمطية عن البطل الرومانسي فحسب، بل إنه يمثل تجسيداً حياً لشخصية أُنْقِذَتْ مما كانت تعاني منه. فهو طفلٌ منبوذٌ عانى من إهانات لا نهاية لها خلال نشأته وحتى وصوله إلى مرحلة الشباب والرجولة، ولم يكن يحتاج سوى حب امرأة صالحة لتُضفي السكينة على روحه القلقة المضطربة. كما عانى "هيثكليف" من إساءة الفهم ممن حوله، وكان ذا شخصية عميقة ومعقدة، وبحاجة ماسة إلى شخصٍ يفهمه بحق.
والحب بالنسبة لهذه الشخصية ذو طابعٍ متطرف وعدميٍ ومُسبب للإدمان، فهو يتلخص في الانصهار والاندماج مع شريكه الآخر فيه بإلحاحٍ وعجلة من يرى ألا شيء آخر يهم. ودعونا لا ننسى هنا الصفات الشكلية التي أعطتها الكاتبة لتلك الشخصية، التي وصفت صاحبها بأنه وسيمٌ وطويل القامة وذو بشرة داكنة. وقد تعززت جاذبية هذه الشخصية بما رُوي عنها من أن صاحبها يمارس الرياضة، وأن عينيه مشتعلتان بفعل ما يتقد فيهما من "نيرانٍ سوداء".
وبفضل ما يكمن في شخصية "هيثكليف" من مزيجٍ نشط من الغريزة والذكاء والحدة والقوة، كان فيه شيءٌ ما أفعم القراء بكل عناصر الإقناع الحسية والشهوانية تقريباً.
منذ صدور الطبعة الأولى لرواية "وذرينغ هايتس" (مرتفعات وذرينغ) في عام 1847، أصبح لبطلها شديد التأثير والجاذبية أثرٌ عميقٌ على الأدب الرومانسي بمختلف تجلياته وأشكاله، بدءاً من القصص الرومانسية جنسية الطابع ذات الإطار التاريخي والروايات المكتوبة خصيصاً للمراهقين من تلك التي حققت نجاحاً كبيراً، وصولاً إلى الأعمال الأدبية رفيعة المستوى. إضافةً إلى ذلك، لا يقتصر تأثير هذه الشخصية على من هم في مرحلة الشباب فحسب.
ففي الآونة الأخيرة، أعادت سامنثا إليس المعنية بأدب إميلي برونتي وأعمالها، التذكير بأحد العناصر المرتبطة بهذا الأمر، من خلال مقال كتبته بعنوان "كيف دمر هيثكليف حياتي العاطفية".
وفي المقال، قالت إليس - التي تصف نفسها بأنها "تتعافى من إدمان هيثكليف" - إن هذه الشخصية كانت "بوابتها إلى عالم التعلق والهوس المرضي بشخصيات روائية أخرى"، فبعده جاء الهوس بشخصياتٍ مثل "ريت بَتلر" و"روبرت كامبل-بلاك" و"سبايك" - وهي شخصيةٌ ظهرت في المسلسل التليفزيوني "بافي قاتلة مصاص الدماء"، وكذلك "توماس كرومويل"، كما رسمت ملامح شخصيته الكاتبة هيلاري مانتيل.
وأشارت إليس إلى أن هذه الشخصيات الأدبية ظهرت في حياتها بالتزامن مع أخرى حقيقية لشبانٍ فاسدين للأسف، قائلةً : "عندما وصلت إلى مرحلة المراهقة، كنت أطارد رجالاً سيئين. وفي عشرينياتي من العمر، واعدت رجالاً لم يكونوا صادقين أو يتسمون باللطف معي على الدوام".
على أي حال، الأدب هو المعلم الأفضل على الإطلاق للبشر، خاصةً إذا كنا نتحدث عن أعمالٍ رفيعة المستوى منه، إذ يُرسخ رسائله في عقولنا وأفئدتنا مُتدثرةً بطريقةٍ فذةٍ في القص ومقدرةٍ لا يمكن محو أثرها على التصوير.
فنحن نستوعب الحقائق التي ترد في الروايات المتميزة الرائعة بشكلٍ لا شعوريٍ تقريباً، وهو ما يجعل من العسير للغاية انتزاعها من داخلنا فيما بعد. وما من شك بالمناسبة في أن "مرتفعات ويذرينغ"، تلك الرواية التي يعتبرها عشاقاً أشبه بوثنٍ يُعبد - تستحق مكانتها كعملٍ أدبيٍ من الطراز الأول.
المبالغات المكثفة
ومن بين الأسباب التي تجعل شخصية "هيثكليف" مثيرةً للاهتمام على نحوٍ أكبر، حقيقة أنها أُطلقت في سماء أحلام يقظتنا الرومانسية الجماعية، على يد امرأةٍ يُعتقد أنه لم يكن لها حبيبٌ قط؛ سيدةٌ وُلِدَتْ منذ 200 عام، ووُصِفَتْ بأساليب مختلفة على أنها عانس تكره البشر وذات شخصية روحية هشة.اللافت أن التزام إميلي الصارم بإضفاء الخصوصية على حياتها القصيرة التي انتهت وهي في سن الثلاثين ليس أكثر، وغياب أي توثيقٍ لما جرى خلالها، أذكى التكهنات حولها، إلى حد أن تشخيص أسباب وفاتها جعل هذه الأسباب تشمل كل شيء تقريباً، بدءاً من الخوف المرضي وفقدان الشهية للطعام وصولاً إلى الإصابة بمتلازمة آسبرجر، وهي أحد الاضطرابات التي يعاني منها المصابون بالتوحد.
فقد رفض بعض الباحثين ببساطة تصديق أن تكون المشاعر المشبوبة التي تنضح بها صفحات "مرتفعات ويذرينغ" وليدةً للخيال وحده. وأشار هؤلاء إلى أنه كان لـ"إميلي" اهتماماتٌ عاطفيةٌ، شملت شقيقها برانويل وحتى شقيقتها آن.
ولكن حتى إن استبعدت التكهنات الأكثر سخفاً من نوعها في هذا الإطار، فستظل إميلي برونتي شخصيةً متفردة، جاهزة لإشهار أسلحتها دائماً، وليست قطعاً من بين تلك الشخصيات التي تصلح موضوعاً للثرثرة واللغو.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن الجانب الأكبر من أسطورة "إميلي المجنونة" يُعزى إلى حقيقة أنها وُلِدتْ ببساطة في الحقبة الخطأ. فكما قالت الباحثة كلير أوكالاهان في كتابٍ جديدٍ بعنوان "إعادة تقييم إميلي برونتي" يسرد السيرة الذاتية لهذه الكاتبة الشهيرة: "كانت إميلي روحاً مستقلة، في زمنٍ لم تكن فيه استقلالية المرأة موضع ترحيبٍ من الوجهة الثقافية".
إذن فكيف يمكن أن تنسجم شخصية "هيثكليف" مع هذا السياق؟ هي في نظر الكثيرين تُجسد البطل الرومانسي على الوجه الأمثل، وتظهر بشكلٍ منتظمٍ ضمن نتائج استطلاعات الرأي التي يُطلب من المشاركين فيها تحديد الشخصية الأدبية الأكثر رومانسية على مر العصور.
لكن آخرين يرونها في المقابل أقل سحراً بكثير. وفي مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" نُشِرتْ عام 2015، أسرت الروائية آن تايلر بأنها وصلت إلى مرحلة الرشد دون أن تقرأ تقريباً "مرتفعات ويذرينغ". لكنها اكتشفت آنذاك أن الكثير من صديقاتها يعتبرن "هيثكليف" أكثر بطل رومانسي مُفضل لديهن على الإطلاق. وأشارت تايلر إلى أنها قرأت بعد ذلك "نحو ثلاثة أرباع الرواية - وأنا في هذه المرحلة الراشدة من العمر - لتَتَوَلّدْ لديّ على الفور مخاوف جديةٌ بشأن الصحة العقلية لصديقاتي".
النقطة الحاسمة هنا تتمثل في أن تايلر قرأت الرواية وهي في طور النضج، بخلاف غالبيتنا الذين طالعوها في سن المراهقة، أي عندما نكون في مرحلةٍ عمريةٍ نتأثر فيها بشكلٍ جامحٍ بكل ما يمر بنا، ونشعر خلالها بأن افتتاننا المكتوم بشخصٍ ما في سن بطل تلك الرواية، هو قصة الحب الأعظم على الإطلاق، على ما يبدو.
علاوةً على ذلك، فإن الرغبة المتقدة التي يعبر عنها "هيثكليف" تتجاوز مجرد الهوس بأشواط، وهو أمرٌ فعالٌ ومهمٌ بالنسبة للمراهقات اللواتي ينزعن إلى تضخيم أهمية ذواتهن ويتعطشن لمن يُشبع غرورهن. فضلاً عن ذلك، تجدر هنا ملاحظة أنه برغم المبالغات المكثفة التي تحيط بالأمر كله، فإن هناك ما يوحي بالأمن والطمأنينة في هذه الشخصية والمشاعر التي تتدفق منها، نظراً لأن ما تُعبِرُ عنه يُغربل دائماً على يد راوٍ أو اثنين.
ففي مرحلة ما، نقرأ رواية شخصية إيزابيلا للأحداث كما قيلت لـ"نيللي" بحسب ما رُويت لـ"لوكوود". كما أن علينا هنا تذكر أن قصة الحب التي تتضمنها الرواية لا تكتمل قط. فالأمر كله مُشبعٌ بكل تفاصيل وملامح وسمات فترة المراهقة، ما يجعل من المنطقي تماماً القول إن عملاً مثل هذا يجدر به أن تكون الرواية المفضلة لـ"بيلا" و"إدوارد" بطليّ سلسلة "توايلايت" (الغسق).
"رومانسية ركيكة"
إلى جانب ذلك، هناك مسؤوليةٌ كبيرةٌ ملقاةٌ في هذا الشأن على عاتق المعالجات السينمائية للرواية أيضاً. فشخصية "هيثكليف" جُسِدتْ على يد ممثلين مثل "لورانس أوليفييه" و"رالف فاينس"، وأيضاً "كليف ريتشارد".وتتعامل معظم هذه المعالجات مع النصف الأول فقط من الرواية، مُتفاديةً أجواء الكآبة الصريحة التي تُخيم على الفصول اللاحقة، والتي يمكن أن تُشعرك بـ"رهاب الاحتجاز" من فرط تصوير الكاتبة للشخصيات البغيضة التي تُكِّنُ الشر والبغضاء بكل معنى الكلمة لبعضها البعض.
هل يتذكر أحد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون براون عندما شبّه نفسه بـ"هيثكليف"؟ افْتُرِضَ وقتذاك أنه يعني "هيثكليف" كما ظهر على شاشة السينما، خاصةً عندما خفف هذه العبارة بالقول: "ربما (أكون) هيثكليف وهو في سنٍ أكبر، وأكثر حكمة". في الرواية، نلتقي بالفعل بـ"هيثكليف" الأكبر سناً، ولكننا نجد شخصيته وقد صارت صعبة المراس على نحوٍ أكبر، إذ نراه مالك أراض مستبداً غاشماً، تلتهمه رغبته في الانتقام.
ومن هذا المنطلق فإنه يمكن للمرء أن يرى "هيثكليف" وقد صار أقل جاذبية إجمالاً، إذا عاد لقراءة الرواية وهو أكثر عمراً ونضجاً وحكمةً، ومُتسلحاً كذلك بالقطع ببعض الخبرة التي اكتسبها من معرفة أشخاص يمكن وصفهم - بكل الأدب الممكن - بأنهم أوغاد.
فـ "هيثكليف" يبدو - في الرواية - فظاً وعابساً وعنيفاً وبذيئاً ومُعدماً. نراه خلال الأحداث، وهو يُكَشِرُ ويتذمر ويصدر صوتاً كالنخير من باب السخرية. وهو في واقع الأمر ليس بذاك الرجل الذي يمكن أن تُكمل امرأةٌ حياتها معه. فحتى آن برونتي التي كانت دوماً على استعداد لخداع شقيقتها، وصفت علاقة الحب التي كان "هيثكليف" طرفاً فيها في العمل بأنها "عاطفةٌ منحرفةٌ، وانحرافٌ عاطفيٌ".
ورغم أن نشأة "هيثكليف" و"كاثي" كشقيقين قد جعلت علاقة الوله القائمة بينهما مُشوبةً بقدرٍ مُثيرٍ للغثيان من "سفاح المحارم"، فإن غياب هذا العنصر لم يكن ليحول دون أن يرى القراء - وبسهولة - أن ما يربط بينهما هو علاقة تعلقٍ مرضيٍ مشتركٍ، ذات سمت استحواذيٍ ومدمرٍ، أي أنها بالاختصار "علاقةٌ سامةٌ".
لذا لعل من الأفضل ألا نعتبر "مرتفعات ويذرينغ" عملاً رومانسياً على الإطلاق. فكما يقول الناقد الأدبي تيري إيغلتون، الذي وضع نظريةً تتعلق بالأعمال الروائية التي يصل التعلق بها إلى حد العبادة، فإن علاقة "هيثكليف" و"كاثي" لا يمكن وصفها بأنها علاقة "سوى بشق الأنفس".
والسبب في ذلك حسبما يرى إيغلتون، أن هناك - بلا شك - قدراً من الغرابة والاختلاف يكتنف الصلة القائمة بين الاثنين. فالاقتباسان الشهيران لـ"كاثي" اللتان تقول فيهما "أنا هيثكليف!"، و"هو يشبهني أكثر مما أشبه نفسي" يشيران - بالقطع - ضمناً إلى أمرٍ ما مميتٌ ومهلك.
وفي نهاية المطاف، فمهما كان رأيك في "هيثكليف"، فإنه من المذهل أن تفكر في أنه كان وليد مُخيلة امرأةٍ شابةٍ ذات سماتٍ مُعقدة؛ عاشت حياةً شبه منعزلة ووُلِدَتْ في عام 1818، بل ورسمت ملامح شخصيتها الروائية هذه - على الأرجح - دون أن تكون لديها أي خبرةٍ بالمشاعر والعواطف الحسية.
ولعل كونها قد قامت بذلك بالفعل يحدو بنا للتفكير من جديد في مسألة تناول الشبق والإثارة الجنسية في الأدب. فبرغم أجواء الخصوصية التي تكتنف حياة إميلي برونتي؛ نعلم على وجه اليقين من أشعارها وأعمالها النثرية أنها كانت تستمد الشعور بالبهجة الغامرة والسعادة المفعمة بالحيوية من الطبيعة الغناء، وهو ما يثبت أن المرء ليس بحاجة إلى ممارسة الجنس أو الوقوع في الحب حتى، لكي يشعر بهذا الفيض الهادر من العواطف الناجم عنهما.
لكن ذلك لا ينفي بالطبع أنك ستبقى ربما بحاجة إلى التفكير ملياً، قبل أن تعتبر إميلي برونتي وآراءها مصدراً للنصح والمشورة بشأن أمورك العاطفية.
-----------
بي بي سيذ