وإذا كان زلزال الطبيعة غير متوقّع، وتقبّله السوريون كقدر لا رادَّ له؛ فإن بعض هذه "الزليزلات" ولّدت خيبة مريرة، وخاصة أن مبرراتها وذرائعها وأسبابها واهية، وحتى خبيثة ومؤذية، ربما لأصحابها أكثر مما هي على السوريين، حيث لم يعد لديهم ما يخسرونه.
بداية، انطلق مشروع "التطبيع التركي" مع "النظام"، و هو الأكثر جاذبية، وخاصة للنظام؛ إلا أن التعقيدات التي تحيط به، والمتمثلة بتعاكس مصالح ونوايا المنخرطين فيه، تجعله لا يرى النور. فبقدر ما هو مغرٍ لإعادة تكرير منظومة الاستبداد، بقدر استحالة تحققه، حيث إن مجرد فوز أردوغان في الانتخابات يخمده، ويزداد العداء بين طرفيه الأساسيين.
عَلِمَ السوريون أن مَن قال "سنزيحه بالقوة أو بغيرها" قد اتفق معَ المحتل الإيراني الذي يحرسه شخصياً، والذي هاجسه تثبيت منظومته. وكل ذلك في محاولة لإعادة تكرير منظومة إجرامية كبتاغونية
يبقى الأخطر في عواصف التطبيع خطوات "الأهل" أو "الأسرة العربية"، التي ينطبق عليها المثل القائل: "ظُلمُ ذوي القربى…". رأى السوريون زياراتٍ واستقبالاً حافلاً للأسد من قبل مَن طالبَ يوماً بإزاحته؛ وسمع السوريون الأسد، الذي كان يُشحَن بطائرة إلى موسكو، يناكف الروس الذين أنقذوه وحموه؛ سمعوه يُملي شروطاً على تركيا حليفة حاميته الرئيسية المأخوذة بحمأة الانتخابات؛ عَلِمَ السوريون أن مَن قال "سنزيحه بالقوة أو بغيرها" قد اتفق معَ المحتل الإيراني الذي يحرسه شخصياً، والذي هاجسه تثبيت منظومته. وكل ذلك في محاولة لإعادة تكرير منظومة إجرامية كبتاغونية، وكأن شيئاً لم يكن في سوريا المنكوبة.
تنوعت مبررات وذرائع وحجج المطبعين، وتلوّنت سردياتهم من المُعلَن، إلى ما يُسمّى "الواقعية السياسية"، مروراً بالمُسَرَّب قصداً، إلى المُسَرَّب خفية، وصولاً إلى الحقيقة التي لا تقع في أيٍ من سردياتهم. وأضحى هاجس الكل فجأة إنقاذ سوريا وشعبها. وليت هذا هو الحقيقة. في هذه السطور محاولة للبحث عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الإرهاصات المحمومة المشبوهة، وإظهار ذلك لشعبنا وشعوب المطبعين؛ علّ صحوة حقيقية تحدث.
سادت سردية إخراج إيران من سوريا بنكهتها المطلوبة دولياً، خاصة الإسرائيلية والأميركية؛ وكأن مَن يهذر بهذا يجهل أنه لولا رغبة الأخيرتين، لما دخل الملالي وميليشياتهم أساساً إلى سوريا. تذرّع البعض بإهمال أميركا للملف السوري، مما تسبب باستنقاعه، واكتفاء أميركا بالعقوبات التي تؤذي الشعب السوري. هناك مَن استشعر إدارة الظهر الأميركي للمنطقة، فقرع الأبواب الروسية والصينية، وبطريقه وجد فرصةً للعودة الخبيثة للملف السوري، ليناكف الإدارة الأميركية بذريعة أن أميركا تجمّد الملف السوري، ولا تلتفت للمأساة السورية.
السردية الأكثر انتشاراً، والتي تجد صدى في الأذهان هي أن القوى الكبرى لا تريد التغيير. يريدون إقناعنا بأن "النظام" أمرٌ واقعٌ، وليس هناك مِن بديل، والمعارضة مفككة ومهترئة. معروف أن نصف الحقيقة أخطر من غياب الحقيقة. وفي هذه السردية نقرأ نصف الحقيقة. مَن قال إن روسيا لا تريد التغيير؟! روسيا تريد التغيير، وتحديداً تغيير حقائق ما حدث في سوريا؛ ومن هنا تدفع باتجاه التطبيع مع نظام الأسد كما هو، وكأن شيئاً لم يكن. أميركا تريد التغيير، على الأقل "تغيير سلوك النظام"، الذي تَفرِضُ بسببه العقوبات. وعندما يقول المطبعون إن "النظام" أمر واقع، هل يعني ذلك الاستسلام لكل الجرائم التي ارتكبها، وقبول نشره للمخدرات، وإفراغه سوريا من أهلها، ورهنها للاحتلالات؟! وإذا كانت المعارضة هي المشكلة، ولا بديل للأسد؛ فهل يمكن تصغير الشعب السوري وإهانته إلى هذه الدرجة، ليُختَصَر بعاهات كالأسد والمعارضة؟!
وفي البحث عن الأسباب الحقيقة لخطوات التطبيع المشبوهة التي نشهدها من اتفاقات وزيارات لوزراء ولوفد برلمانيين "عرب"؛ يتجاوز السوريون الطرح الذي أصبح مكروراً بأن المطبعين يريدون ما حدث للسوريين أن يكون درسًا لشعوبهم حيث السلطات تبقى، ويُطَبَّع معها، مهما ارتكبت. وفي هذا السياق تبرز في أذهان السوريين جملة من الأسئلة الحساسة: - هل فعلاً يفكر المطبعون بسحب هذه المنظومة من الحضن الإيراني؟ - هل عجزوا عن المساهمة الفعلية في إزاحتها، فقرروا التعامل معها كما هي؟ - هل هم معجبون بمنظومة الإجرام وقوتها واستمرارها الإعجازي؟ وهل "نظام الأسد" قوي لهذه الدرجة حتى يتم استرضاؤه بهذا الشكل المهين لهم؟
في إجاباتهم عن هذه الأسئلة يقول السوريون: ليتذكر هؤلاء أنهم بدلاً مِن أن يسحبوا المنظومة من الحضن الإيراني، ها هي تسحبهم إلى الحضن الإيراني. وإذا كان المطبعون قد وصلوا إلى درجة اليأس معتقدين أن هذا "النظام" محميٌّ من إسرائيل وأميركا، فقد يكونون محقّين، إلا أنه ليس أكثر من أداة انتهت فاعليتها وصلاحيتها، بحكم ما تراكم عليها من جرائم يصعب مسحها؛ وبحكم أن أميركا ذاتها هي مَن أصدر قوانين تجريمها /قيصر والكبتاغون/.
ليتذكر هؤلاء أنهم يتعاملون مع منظومةِ قَتَلَة يحمل السوريون مئات آلاف وثائق الإدانة في وجهها بانتظار تفعيل وتفاعل العدالة
وبخصوص قوة النظام أو ضعفه، ليعلم هؤلاء أن هذا "النظام" هش وضعيف أكثر من التصور؛ فهو يعيش على ريع الكبتاغون، وما سرقه من خيرات سوريا. وما يسيطر عليه من جغرافيا سورية هي فعلياً وبالمطلق تحت السيطرة والإدارة الروسية والإيرانية. حتى مقدرات البلد الكامنة ليست بيده بل رهينة بيد الروسي والإيراني. ليتذكر هؤلاء أنهم يتعاملون مع منظومةِ قَتَلَة يحمل السوريون مئات آلاف وثائق الإدانة في وجهها بانتظار تفعيل وتفاعل العدالة.
وأخير، يذكِّر السوريون المطبعين بأن القضية السورية لم تعد فقط قضية عربية أو إقليمية وإنما قضية دولية، وتعويم النظام لا يكون إلا بقرار دولي. وإذا كانت روسيا، محرك العملية وراعيها الأساسي، فسيكون مصيرها حتما ًالفشل؛ فهناك مَن لا يسمح لروسيا بتحقيق أي منجز سياسي، لأن هاجس الأقوياء الآن إزاحة روسيا عن المسرح السياسي الدولي كلياً. ومن هنا ستدور أذرع التطبيع في الفراغ.
----------
تلفزيون سوريا