للشعر، مع ذلك، مكانة الصدارة في تلك الصفحات؛ ليس على صعيد ما انخرطت فيه هذه السطور من قراءات لمشهدية الشعر المغربي الحديث والمعاصر، الحافلة والغنية والمدهشة والمحرّضة على الدرس والتأمل، فحسب؛ بل كذلك بصدد ذاكرة تخصّ شعراء العربية من خارج المغرب، في مناسبات متنوّعة ومتفرقة صنعت مع ذلك صيغة وئام خاصة مع النصّ الشعري العربي المعاصر. وخلال زيارة أولى إلى المغرب، وإلى الرباط تحديداً، كان باعث استرجاع قصيدة بدر شاكر السياب «في المغرب العربي»، 1956، يستحثني منذ أن غادرت الطائرة أجواء فرنسا، وحتى قبل أن تحلّق فوق المتوسط أو تقترب من الأطلسي.
وتلك قصيدة لا تقلّ، في يقين شخصي، عن رائعة السياب «أنشودة المطر»؛ لأسباب تتجاوز تحوّلات الشاعر الأسلوبية، وانحسار قسط غير قليل من مزاجه التموزي، ودنوّه أكثر من الحسّ العروبي أو حتى الإسلامي و»الألوهي» حسب شيخ نقادنا إحسان عباس؛ بل لأنها أيضاً مثّلت عمارة إيقاعية مفاجئة وحارّة وعارمة التدفق، تولت ترقية جديدها لغةٌ متغايرة الصورة متقلبة المجاز، تتلاطم في طياتها قواميس متراكبة أكثر منها سيرورات إحياء مفردات وصياغات طارئة على مخزون السياب المعتاد. مطلع خالد، أخاذ وآسر ومباغت، خاصة في ما يقترح من مناخات درامية: «قرأتُ اسمي على صخرة/ هنا في وحشة الصحراء/ على آجرّة حمراء/ على قبرٍ فكيف يحسّ إنسان يرى قبره؟/ يراه وإنه ليحار فيه:
أحيّ هو أم ميت؟ فما يكفيه/ أن يرى ظلاً له على الرمال/ كمئذنة معفّرة/ كمقبرةٍ/ كمجدٍ زال/ كمئذنةٍ تردد فوقها اسم الله/ وخُطّ اسم له فيها/ وكان محمد نقشاً على آجرّة خضراء/ يزهو في أعاليها…».
برهة ذاكرة أخرى، طافحة بحزن الفقد الغامر الأقرب إلى الحداد، كانت مناسبة تقليد محمود درويش جائزة الأركانة للشعر، تشرين الأول (أكتوبر) 2008، التي منحته إياها لجنة التحكيم قبيل وفاته، وحال رحيله الفاجع دون المشاركة في تسلّمها شخصياً. ولقد توجّب يومها أن أقرأ كلمة الصديق الشاعر والروائي السوري سليم بركات الذي سألني أن ألقيها بالنيابة عنها، وأن أذكّر حضور مسرح محمد الخامس في الرباط بموقع المغرب الشعب والبلد، ولكن هذا المكان تحديداً، في نفس درويش. ففي سنة 2000، حين نشر مجموعته «جدارية»، التي كما هو معروف تتألف من قصيدة واحدة تقع في أكثر من 1,000 سطر شعري، تساءل درويش عمّا إذا كانت قراءتها كاملة في أمسية شعرية أمراً ممكناً عملياً؛ ثمّ قرّر، بعد مداولات مع نفسه ومشاورات مع بعض أصدقائه، أنه إذا لم يقرأها كاملة في المغرب أوّلاً، فإنه لن يقرأها كاملة في أيّ مكان!
وبالفعل، في حزيران (يونيو) 2000، في الرباط وعلى مسرح محمد الخامس إياه، ألقى درويش «الجدارية» كاملة للمرّة الأولى، وكانت خاتمة القصيدة بمثابة برهة سحرية فريدة، ألهبت مشاعر كلّ من قُيّض له حظ الاستماع إليها مباشرة من شاعر خرج قبل أشهر معدودات من عملية قلب مفتوح في باريس: «.. وكأنَّ شيئاً لم يكنْ/ جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العبثيّ…/ والتاريخ يسخر من ضحاياه/ ومن أَبطاله…/ يُلْقي عليهم نظرةً ويمرُّ…/ هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ واسمي/ – وإنْ أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -/ لي/ أمّا أَنا – وقد امتلأتُ/ بكلّ أَسباب الرحيل -/ فلستُ لي/ أَنا لستُ لي/ أَنا لستُ لي».
بعد تسع سنوات، سوف يكرّمني الأصدقاء في بيت الشعر برئاسة لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالمية للشعر، التي ذهبت في دورتها الرابعة إلى الشاعر العراقي سعدي يوسف؛ لأنّ القرار، بعد منح الجائزة إلى بي ضاو من الصين ومحمد السرغيني من المغرب ودرويش من فلسطين، يسهم في تكريم «منجز شعري مديد ثريّ، يغطي حوالي ستة عقود، ويؤشر على كدّ تصوّري عصامي وملحاح، وعلى مثابرة كتابية جديرة بالإشادة، كانت لهما آثار ملموسة ومحفزة». وتوجّب، يومها أيضاً، أن تثمّن هذه السطور تجربة الشاعر الفائز، من مسرح محمد الخامس إياه، في الرباط؛ ويومها حرصت على الإشارة إلى أنّ يوسف بدأ شاعر تفعيلة وهكذا ظلّ، لكنّ السيولة التعبيرية العالية التي طبعت لغته الشعرية جعلته أحد أبرز الآباء لدى جيل من أبرز شعراء قصيدة النثر العرب.
وإذْ بدأت هذه السطور من السياب، فلأنّ آجرّة المغرب اليوم حمراء قانية، وشارة حزن وبلاء ونكبة، ومدعاة عزاء وعناق وتضامن.
------------
القدس العربي