من ذلك تقرير نشرته قناة سي إن إن الفضائية بعنوان «كيف سقط نظام الأسد في 10 أيام بعد صموده 13 عاما؟»، ومقال تحليلي نشرته قناة «الجزيرة» بعنوان: «القصة الكاملة لسقوط نظام الأسد في 12 يوما». كان طبيعيا، بالتالي، أن يستذكر عديدون عنوان الكتاب الشهير للصحافي الأمريكي اليساري جون ريد، «عشرة أيام هزّت العالم»، الذي كتبه عن مشاهداته عن الثورة الروسية عام 1917، فنشر الكاتب الأردني المقيم في فرنسا خيري جانبك مقالة بالإنكليزية بعنوان: «سوريا: عشرة أيام هزّت العالم»، واستخدم مثقفون سوريون (مثل برهان ناصيف، وإسماعيل رفاعي، وعبد الله أمين الحلاق) العبارة على فيسبوك، وكتب نعيم موسى على صفحته: «27/11 – 8/12 عشرة أيام هزت العالم. جون ريد».
يشير عنوان مقالي هذا، من جهة أخرى، إلى ملابسات رحلة القطار المغلق الذي أخذ لينين، قائد البلاشفة، من زيوريخ، حيث كان يقيم، إلى بتروغراد (سان بطرسبرغ)، حيث كانت تعتمل أحداث الثورة الروسية. كان تهريب لينين مغامرة سياسية من ألمانيا، التي راهنت على أن تؤدي تداعيات نشاطات البلاشفة الثورية لإخراج روسيا من الحرب ضدها بحيث يركز الألمان جهودهم على محاربة البريطانيين والفرنسيين على الجبهة الغربية، ولكن تأثير انتصارهم تجاوز أكثر التوقعات تطرفا. لقد نجح مسعى ألمانيا في عقد السلام مع روسيا مع إعلان البلاشفة الانسحاب من الحرب وتوقيع اتفاقية سلام مع برلين، لكن القرارات الأولى للينين تضمنت أيضا مصادرة الأرض، وتأميم الصناعات الرئيسية والمصارف، ودعم الثورات في العالم عبر الأحزاب الشيوعية.
أمميات شيوعية وإسلامية!
ليست سوريا، التي فتحتها فصائل المعارضة خلال 12 يوما، سوى بلد صغير ضعيف ومقسّم ومهدّد، مقارنة بالامبراطورية الروسية المذكورة، لكن المفارقات التي خلقها الحدث السوري، جديرة بالتأمل العميق في مشتركات واختلافات المنعطفات التاريخية، التأمل الذي يتجاوز مجرّد استذكار عنوان كتاب جون ريد.
مفيد في هذا السياق، مثلا، مقارنة مواقف الامبراطوريات القديمة ودول أوروبا من حركات الشيوعية المختلفة في تلك الحقبة باعتبارها خطرا وجوديا وأمنيا جسيما، ومواقف العالم حاليا من الحركات الإسلامية، التي احتلّت لدى الدول وأجهزة الاستخبارات في العالم المرتبة التي انزاح عنها الشيوعيون (بل وأصبح بعض هؤلاء، كما هو حال حزب العمال الكردستاني، الماركسي الاتجاه، مدعوما عسكريا من أمريكا – خصم الشيوعية السابق العنيد – لاستخدامه في القتال ضد «الدولة الإسلامية» – أكثر التنظيمات «أممية»، وعنفا، وتطرفا في حركات الجهاد الإسلامية – والأكثر حداثة وتعبيرا عن تعقيدات عصرنا على ما يرى كتاب غربيون معروفون).
تجتمع في المشهد الواسع للحدثين المتباعدين زمنيا، الروسي والسوري، عناصر أخرى أيضا، يمكن ملاحظتها، مثل وصول جيشي الدولتين، إلى حالة أقرب للانهيار بعد حرب طويلة، ووجود أشكال عنيفة من الاحتراب الأهلي، والتدخّلات الأجنبية. تُخلي هذه التشابهات، المكان لمفارقات كبيرة، تحتاج أدوات أكثر تفحّصا في قراءة التاريخ.
ماركس «ابن خلدون أوروبا»
يُشير محمد عابد الجابري، في مقالة له بعنوان «بين ابن خلدون وماركس» إلى أن بعض الماركسيين العرب في الستينيات من القرن الماضي أخذوا ينظرون إلى ابن خلدون بوصفه رائد «المادية التاريخية»، مما حدا ببعضهم لإطلاق اسم «ماركس العرب» على صاحب «المقدمة».
يعقّب الجابري على ذلك بالقول إن ابن خلدون كان يفكر في موضوع «الدولة» داخل إطار محدد هو التجربة التاريخية العربية، ولكن هذه «التجربة الخاصة» بقيت تحظى باهتمام خاص بعد قرون هو انطواء عنصر «الخاص» فيها على اتساع وعمق، وهو يشبه ما فعله ماركس حين حلل واقع المجتمع الأوروبي تحليلا أبرز فيه ما ينطوي عليه عنصر «الخاص» في ذلك المجتمع من اتساع وعمق جعل عنصر «العامّ» الثاوي وراءه يلقي بظلاله على أنواع أخرى من «الخاص» تبدو وكأنها هي التي تحتل محلّ العام في التجارب التاريخية الأخرى، وعليه، يرى الجابري، أنه مقابل هذا الإعجاب بابن خلدون بعد ماركس كان يمكن أن يتحول الى إعجاب بماركس بوصفه «ابن خلدون أوروبا»، لو أن الأوروبيين تعرفوا بعمق على صاحب «المقدمة»، قبل مجيء ماركس.
يقول الجابري إن المقصود بهذه المقارنات ليس تضييق الشقة بينهما بل إبراز مدى التقارب او التباعد بين النتيجتين: توصل ماركس إلى أن «مشكلة المجتمع الأوروبي الصناعي» في عهده تكمن بـ»التناقض بين الطابع الجماعي لعملية الإنتاج والطابع الفردي لملكية وسائل الإنتاج»، بينما وصل ابن خلدون لنتيجة مغايرة وهي ان مشكلة المجتمع العربي في عهده هي في «التناقض بين خشونة البداوة ورقة الحضارة»، وخلص الجابري إلى أن ماركس اقترح حلا للتناقض الاجتماعي – الاقتصادي (تأميم وسائل الإنتاج، الاشتراكية)، أما ابن خلدون فلم يجد حلا.
كان الكاتب التركي حكمت قفلجملي، أحد الروّاد في مجال استكشاف العلاقات بين الإسلام والشيوعية، وقد تناظر التزامه السياسي الشيوعي مع تأسيس الجمهورية التركية 1923، أي بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة الروسية. سُجن قفلجملي، على مدد متقطعة، بسبب نشاطاته السياسية لما يقارب عشرين عاما، وكان أول مترجم لـ»رأسمال» ماركس، ومؤسسا لحزب «الوطن» عام 1954 المحظور أيضا، ولدار نشر نشرت أغلب أعماله الكثيرة التي ما تزال مؤثرة في الحياة السياسية التركية، ومن عناوينها: «الله – النبي»، «مقالات حول الدين والسياسة»، «الفتح والحضارة»، و»آثار الدين على المجتمع التركي» الخ.
قرأت في مطلع شبابي كتابه «التاريخ العثماني – رؤية مادية» مترجما وبقيت في ذاكرتي نظريته التي أضافت للأفكار التقليدية للمادية التاريخية عنصر تغيير كبير في التاريخ تمثّله هجمات القبائل البدوية التي ساهمت في سقوط الحضارات ونشوء أخرى.
الشيوعي الإسلامي الوحيد!
اعتبر قفلجملي صعود الإسلام نوعا من «الثورة التاريخية»، وأن المسلمين الأوائل عاشوا حياتهم بطريقة «اشتراكية بدائية»، وأن مجتمعاتهم، وعلى غرار الحضارات القديمة، تبدأ بالتخلي عن جذورها الثورية بعد تركز السلطة في أيدي النخب القبلية.
في تطبيق عمليّ لهذه النظرية ألقى قفلجملي خطابا في إسطنبول خلال حملة انتخابية لحزبه «الوطن» عام 1957، في منطقة حي أيوب موضحا سياسة الحزب باستخدام أقوال النبي وآيات من القرآن، وبسبب هذا الخطاب تم اتهامه باستخدام الدين كأداة سياسية، وكان الشيوعي الوحيد الذي اتهم بهذا الجرم في تركيا!
يقدّم الحدث السوري، وقبله حدث انفجار الاتحاد السوفييتي، خلاصة تفكك تحليل الجابري وانتصارا لابن خلدون على ماركس، فحل لينين للتناقض الاجتماعي بتأميم وسائل الإنتاج، انتهى بتأميم المجتمع بأكمله، وبتحوّل “دكتاتورية البروليتاريا” إلى طغيان سلطة مطلقة لفرد متخفّ وراء حزب (ستالين وخلفائه)، أما نسخ ذلك العربية، ونظام الأسد أحد أكثر أشكالها تغوّلا، فكان عصبية طبقية وطائفية، أممت المجتمع، ثم صادرته بأكمله، وجوّفت الدولة، وعطّلت الحياة العامة، وحوّلت البلاد إلى مقبرة وآلة للقتل والنهب والفساد، حتى جاءت عصبيّة أخرى فقوّضتها وهدمت هيكلها المرعب المؤبد خلال 12 يوما
-------------
كاتب من أسرة «القدس العربي»