نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

نظرة في الإعلان الدستوري

26/03/2025 - لمى قنوت

رياح الشام

25/03/2025 - مصطفى الفقي

في الردّة الأسدية الإيرانية

22/03/2025 - عبد الجبار عكيدي


هتلر في باريس ....علم النازية رفرف فوق برج إيفل عندما دقت ساعات فرنسا بالتوقيت الألماني




باريس - اولريكا كولترمان - إلى الآن يتحدث الفرنسيون عن السنوات السوداء إبان الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي هذا الصيف تحل الذكرى السبعون على احتلال الألمان لباريس. ويكشف الحديث كذلك النقاب عن زيارة هتلر السرية لباريس بعد مدة قصيرة بعد الاحتلال فى صباح يوم الأحد 23 حزيران/يونيو عام 1940.


هتلر امام برج ايفل
هتلر امام برج ايفل
يظهر شاب مرتديا نظارة شمسية ومعه ثلاثة كلاب من نوع "البكنيز" -وهو نوع من الكلاب يرجع أصله وجذوره من الصين القديمة- يسحبها بالقيد خارجا من الباب الدوار لفندق "لو موريس"... فندق الملوك والرؤساء بباريس. بينما تسير سيدة شقراء ترتدي كعبا عاليا وتدخل من الاتجاه الآخر من الباب الدوار ويتدلى من يدها بعض الأكياس الورقية لماركات أزياء مشهورة.

وفى حانة الفندق الفاخر يلف النادل غطاء زجاجة الشمبانيا ويفتحها بهدوء دون أن تصدر تقريبا أى صوت. بينما يتحدث رجل أعمال عربي سريعا وبصوت خافت في هاتفه المحمول. في هذا المكان تتكلف القهوة الاسبريسو ثمانية يورو وتقدم مع قطعتين صغيرتين من الشوكولاتة الفاخرة.

و هناك حيث يعلو الآن علم فرنسي وأوروبي على واجهة الفندق التى كان يرفرف عليها علم النازية بشعار الصليب المعقوف الضخم فى صيف عام 1940. وتقول سيدة شابة على مكتب الاستقبال بطريقة مهذبة "هنا كان مقر الجنرال الألماني شولتيتز قائد المنطقة الباريسية المحتلة ". وتوضح قائلة أن "الجنود الألمان شغلوا بصفة خاصة الغرف التى تطل على حدائق التويلري، المطلة على ساحة الكونكورد الشهيرة بمسلتها الفرعونية، واستمر الفندق في عمله كالمعتاد فى استقبال النزلاء الآخرين خلال فترة الاحتلال الألماني. واليوم نادرا جدا ما يستعلم النزلاء عن هذه الحقبة من الزمن.

كان الاحتلال قد بدأ فى صباح الرابع عشر من شهر حزيران/يونيو فى الساعة الخامسة والنصف عندما وصلت الدفعة الأولى من الجنود الألمان إلى باريس من بوابة "بورت دي لافيليت". ودخل الألمان إلى شوارع باريس المهجورة بعد أن هرب منها نحو 700 ألف فرنسي تحت ظروف قاسية بعضهم فى سيارات محملة فوق طاقتها وبعضهم سيرا على الأقدام.

وتضيف السيدة: " كانوا يأملون فى حدوث معجزة أو وصول سيارة أو شاحنة أو أي عربة تأخذهم. إلا انه لم يصل شيئا. فانطلقوا من بوابات باريس يجرون أمتعتهم وسط الأتربة واخذوا يفرون عبر ضواحي باريس والحقول الخالية، وقليلا ما استطاع أحدهم وصف هذا الرحيل بقوة مثلما وصفته الكاتبة الفرنسية ذات الأصول اليهودية إيرين نيميروفسكي التى نفيت من باريس عام 1942 وقتلت بمعسكر الاعتقال والإبادة النازي الشهير "أوشفيتز" ببولندا.

لقد أبدعت هذه الكاتبة من خلال روايتها suite francaise في وصف أحداث الاحتلال الألماني لباريس وجاء نشر الرواية في عام 2004 ليصيب الكثيرين في فرنسا بالصدمة من فظاعة الأحداث التي لم يعرفوا عنها سوى القليل. وكانت نيميروفسكي أول كاتبة فرنسية تمنح لها جائزة "روندو" بعد وفاتها.

ويقول شتيفان مارتينز نائب مدير المعهد الألماني للتاريخ فى باريس "لقد فوجئ الألمان بنجاحهم غير المتوقع. وساد لديهم الشعور بالحيرة حول كيفية التصرف بهذه المناطق الشاسعة الواقعة تحت سيطرتهم".
وأضاف "احتل الألمان بعد ذلك عددا لا يحصى من الفنادق التى كانت مقراً للوزارات الفرنسية، وهناك كان يتم تزويدهم بالغذاء والهاتف من الفندق".

وبجانب فندق "لو موريس" احتل الألمان فندق "ماجستيك" في شارع كليبر حيث كان يقيم الحاكم العسكري وكان فندق "لوتيسيا" الفخم مقراً لأجهزة الدفاع ومكافحة التجسس".

وبعد عشرة أيام من سقوط باريس ودخول القوات الألمانية جاء هتلر إلى باريس، ليس علانيةً بصفته الظافر المنتصر ولكن سرا فى صباح يوم أحد . ولعله كان يخاف من حدوث اعتداء عليه أو لأنه أراد تحقيق أمنيته فى أن يرى المدينة التى فتنته خالية من الناس.
وشاهد هتلر دار أوبرا باريس والتي درس خطط بنائها. وبعد ذلك صعد إلى منطقة الشانزليزيه ثم إلى ميدان تروكاديرو الذي يعد واحدا من أجمل ميادين العاصمة ويقع به برج إيفل الشهير . وكان يرافقه مصور فوتوغرافي خاص ومصور سينمائي وكانوا يصورونه أمام المنظر الخلفي لبرج إيفل. وكانت باريس العاصمة الأوربية الوحيدة التى كان يزورها من خلال برنامج سياحي منظم.

وتحت وطأة الاحتلال الألماني تغيرت معالم باريس بصورة قوية . فعلق على برج إيفل علم الصليب المعقوف. وظهرت لافتات طرق بكلمات ألمانية طويلة يصعب على الفرنسيين نطقها مثل: " Heeres-Kraftfahr-Park" أى متنزه هيريز كرافتفار و" Luftwaffen-Lazarett " أى مستشفى السلاح الجوي و"OKW-Reifenlager " أي مستودع إطارات ُاو كى ڤي.

واكتظت عاصمة النور بزي الجنود الألمان الذين يرتدون الزى العسكري الأخضر أو الرمادي، وانتشرت فى باريس دور عرض سينمائية خاصة ومقاهي ونحو 60 بيت دعارة من اجل الجنود الألمان. فضلا عن ذلك دقت عقارب الساعة بشكل مختلف حيث اعتبر التوقيت الألماني ساريا منذ دخول القوات الألمانية والذي كان يسبق التوقيت الفرنسي بساعة زمنية.

شارل بيجولو دي روفين كان يبلغ فى ذلك الوقت 13 عاما وكان متأثرا بدرجة عميقة جراء الاحتلال الألماني لباريس. ويتذكرهم قائلا:" كانوا مهذبين ويتسمون بتدريب عسكري جيد وكانوا يبدون بمظهر جيد". إلا أنهم كانوا يتصرفون دائما بغرور وكبرياء، وكانوا يجعلوننا نشعر أنهم هم المنتصرون. وكان المرء يشعر كما لو انه يجب عليه أن ينزل من رصيف المشاة إذا ما رآهم قادمين من الجهة الأخرى.

وفى شتاء عامي1940 و 1941 كانت باريس المحتلة تعانى كثيرا من ضيق العيش والظروف الصعبة. ويحكى بيجولو دي روفين الذي يعمل الآن متطوعا لدى متحف باريس ومسئولا عن ملف الحرب العالمية الثانية هناك "كان الغذاء قليلا وكان لدينا بطاقات التموين."وأضاف بينما تتقلص عضلات وجهه "كنا مضطرون لأكل اللفت ... وبالرغم من انه اليوم يعد طعاما شهيا إلا أنني لم أعد استطع اليوم أن أتحمل وانزل إلى الحضيض وأكله مرة أخره".

وحتى نهاية الحرب كان الفرنسيون ينقصون فى وزنهم فى المتوسط ما بين أربعة إلى ثمانية كيلو جرامات حتى أن المرء كان يمازح على نصيبه من اللحمة الذي كان يمكن أن يلف فى تذكرة المترو لكن بالطبع ليست تذكرة المترو المستخدمة حتى لا يسقط من الثقب الذي يحدث بعد استخدامها!!

و يتذكر الرجل ساعة حظر التجول وإغلاق المحلات فى المساء والتي كانت تقلل من البهجة بشكل قوي. وكانت مطاعم بيسترو المشهورة تحدد أيام بلا مشروبات كحولية، ويقول بيجولو دي روفين:"كنا نتقابل عند الأصدقاء بشكل منتظم ونرقص على أنغام التسجيلات الموسيقية، ويقول: إلا انه كان علينا أن نحرص فى أن نكون فى المنزل فى الوقت المناسب حتى لا يتعرض لنا الجنود الألمان، ومن كان يحدث له هذا من أصدقائنا كان يلجأ إلى استخدام ما تعلمه فى المدرسة من بيوت الشعر من قصيدة "ايرلكونيج" للشاعر الألماني جوته مترجيا منهم الرحمة.

وبات الوضع مأساويا خاصة بعد النقص فى الفحم والبنزين. لدرجة أن كتابا مثل الفيلسوف جان بول سارتر والكاتبة سيمون دي بوفوار كانا يعملان فى مقهى دى فلور الشهير للحصول على الدفء. وخفت حركة مرور السيارات اكثر وأكثر. وأصبحت باريس مدينة الدراجات الهوائية وظهرت سيارات الـ"فيلو تاكسي" رائعة الشكل التى تعمل بدون وقود وتتكون من عجلتين خلفيتين مزودة بمقعد يجلس عليه الزبائن ويجرها السائق بدراجة هوائية من الأمام. وقبل نهاية الحرب بلغ عدد سكان العاصمة 3 ملايين نسمة كان من بينهم العائدون ومليوني من الدراجات الهوائية، كان أغلبها مسجلا ويحمل لوحة أرقام.

ورغم كل المتناقضات ظلت باريس بلد الحضارة والموضة. وسريعا بعدما استوطن الألمان بباريس استأنفت الدور السينمائية والمسارح عروضها مرة أخرى واستمرت سباقات الخيول وعروض الأزياء وكانت المطاعم الفاخرة مثل فوكيه و" مطعم لا تور دي ارجنت " تلقى إقبالا جيدا من الألمان وكانت قائمة مأكولاتها باللغتين الفرنسية والألمانية.

ويقول بيجولو دي روفين انه " فى وقت الاحتلال وضع الفرنسيون نظام "دي" أو “D”، التى جاءت من كلمة «débrouiller» بالفرنسية وتعنى الإحلال، فمثلا عندما اصبح الجلد قليلا كان يوجد بدلا منه أحذية بنعل من الخشب. وكانت السيدات اللاتي لا يمتلكن الجوارب الحرير يلون ساقهن بالشاي ويرسمن على الجلد العاري، وبالطبع كان يوجد فى السوق السوداء كل شئ يمكن شراءه."

وباسترجاع الماضي كان الفرنسيون يمتلكون فى ظل الاحتلال الالمانى الخيار ما بين المقاومة آو ممالأة العدو. ولم ُتوضع الحدود بشكل حاد فى تعاملات الحياة اليومية مع الألمان. ففي الأساس تجد الفرنسيون لا يرغبون فى وجود الألمان إلا انه على الجانب الآخر يضطرون إلى تقبلهم والتعامل معهم وفى النهاية اعتاد المرء على وجودهم إلى حد ما.

ويكتب سارتر: "لم ينطلق الألمان في شوارع المدينة حاملين السلاح فى أيديهم، حيث أصدرت لهم الأوامر فى أن يتصرفوا بشكل صحيح وكانوا فعلا يتصرفون بشكل صحيح."، خلال أربعة أعوام استطعنا أن نبقى على قيد الحياة وكان الألمان يعيشون بيننا على وتيرة واحدة فى المدينة الكبيرة".

إلا أن المقاومة تشكلت، واندلعت بالفعل أول مظاهرة طلابية فى نوفمبر 1940 عندما منع الألمان الفرنسيين من الاحتفال بذكرى الهدنة الشهيرة التي أنهت الحرب العالمية الأولى في 11 تشرين ثان/نوفمبر 1918 بين دول المحور "ألمانيا وتركيا والنمسا" ودول الحلفاء "إنجلترا وفرنسا وروسيا".

وفى صيف 1941 حدث أول اعتداء قتالي على جندي ألمانى بباريس وبعدها بقليل عمليات انتقامية وحشية كرد فعل من الفرنسيين. وتقابل أعضاء المقاومة بصفة خاصة فى البداية فى المترو حتى لا يتعرضون للتجسس عليهم ولان الازدحام يمكنهم من الهروب السريع.

ويحكى بيجولو دي روفين " عندما كنت شابا كان لدى أصدقاء يهود. استطاع صديق منهم الهروب فى الوقت المناسب إلى أمريكا . وعن مصير الآخرين لا اعلم شيئا". ويواصل :"وعلمنا بوقت لاحق بعمليات ترحيل اليهود إلى معسكرات النازية، وفى ربيع عام 1942 ولأول مرة تم ترحيل اليهود الفرنسيين إلى معسكر الإبادة النازي ببلدة " أوشفيتز"ببولندا، وكان اليهود يرغمون على ارتداء النجوم الصفراء للتدليل على هوياتهم خلال الحرب العالمية الثانية، وفى الصيف ساق الجنود الفرنسيون بأمر من الألمان نحو 13 ألف يهودي إلى الفال ديف (Vel'd'hiv) وهى قاعة شهيرة وضخمة لسباق الدرجات وكان بينهم نحو 4000 طفل، واستطاع فقط 25 منهم أن يبقى على قيد الحياة فى معسكر " أوشفيتز".

وبشكل متواز مع المقاومة الداخلية بفرنسا تكونت أيضا مقاومة خارجية بقيادة الجنرال شارل ديجول الذي سافر إلى لندن، ومن هناك وفى يوم 18 حزيران/ يونيو 1940 ألقى خطابا شهيرا عبر إذاعة الـ "بى بى سى" إلى الفرنسيين قال فيه"فرنسا خسرت معركة لكنها لم تخسر الحرب".

و تجمع شارل بيجولو دي روفين وأسرته مثل باريسيون آخرون مساء حول الراديو ليستمعوا الى خطاب الجنرال شارل ديجول، ويحكى بيجولو دي روفين: "كنا فى ذلك الوقت عند أختي فى الغرفة حيث توجد المدفأة الوحيدة"، ويضيف قائلا:"كنا نتابع بدقة موقف الحلفاء بدقة". وفى ربيع عام 1944 سادت حالة من الشغب والتوتر فى باريس. وكان بيجولو دي روفين في هذه الإثناء شابا فى عامه السابع عشر، وحثه الخطاب فى أن يشارك من اجل تحرير وطنه، فانضم إلى جماعات شبه العسكرية كانت تستعد لتحرير باريس.

ويقول بيجولو دي روفين وهو يستعيد الماضي ضاحكا على سذاجته فى ذلك الوقت "واشتريت لنفسي مسدسا صغيرا وبدلة للمشاركة". وكان يعبر المدينة بأكملها سيرا على الأقدام حتى يصل إلى مبنى الراتهاوس مبنى بلدية المدينة.

ويتذكر :" كان المؤرخون يكتبون دائما عن احتلال الجنود الألمان بلا مقاومة لفندق "اوتيل دي فيل" الذي كان مبنى بلدية باريس حيث ذهب الجنود الألمان بأسلحتهم وتحصنوا وراء أكياس الرمل على الأبواب والشبابيك استعدادا لأى هجوم".

وكان الجنرال الألماني شولتيتز قائد المنطقة الباريسية المحتلة، يجلس بينهم فى فندق " موريس" محاولا أن ينظم دفاع المدينة ضد قوات الحلفاء. وكان يتلقى الأوامر من أدولف هتلر فى أن يدافع عن باريس حتى آخر رجل تاركا أطلال الخراب. وكان هتلر يعلن صراحة عن خطته في توسيع ألمانيا وان تكون برلين عاصمة العالم وكان يرى فى أن هذا لا يستدعى تدمير باريس لان برلين متألقة بلا شك.

وفى الواقع ترك شولتيتز باريس بعد مقاومة قصيرة مانعا التخريب والدمار. ووقع فى الصالة الكبرى بالطابق الأول لفندق "لو موريس" على بيان استجابة للطلبات، وبهذا انتهت السنوات الأربعة السوداء مثلما يطلق الفرنسيون حتى اليوم على الاحتلال الألماني لفرنسا خلالها. وفى 25 آب/أغسطس رفع العلم الفرنسي فوق برج إيفل وبعدها بقليل فوق قوس النصر في ساحة الشانزليزيه ولأول مرة منذ بداية الاحتلال دقت كنيسة نوتردام الشهيرة أجراسها بالتوقيت الفرنسي هذه المرة.

اولريكا كولترمان
الجمعة 18 يونيو 2010