أبرز "القنّاصين"، وأكثرهم جدارةً، هو المركزي ذاته، الذي عدّل سعر الصرف الرسمي لـ "دولار الحوالات"، ليقترب أكثر من سعر السوق السوداء المتراجع. وقد تكون هذه، من المرات النادرة، التي يصبح فيها السعر الرسمي لـ "دولار الحوالات"، بهذا القرب، من دولار السوق السوداء، بفارقٍ لا يتجاوز الـ 1000 ليرة، في أحسن التقديرات. مما يعني أن الـ 300 مليون دولار أمريكي، المرتقب دخولها إلى البلاد، عبر شبكات الحوالات المختلفة، قبيل وخلال شهر رمضان، سيصل أغلبها إلى خزينة المركزي. ربما بنسبة تصل إلى 70%، كما كان يحصل زمن حاكم المركزي الأسبق، أديب ميالة.
لكن رابحين آخرين سيكونون منخرطين بقوة في نشاط القنص، بهذا الموسم. فتجار العملة سيستبدلون سيولة الليرة المتاحة بين أيديهم، بدولارات رخيصة. ومن ثم، سيعاودون بيعها للمضطرين لاحقاً، بأسعار أعلى، حال انتهاء هذا الموسم، بعد عيد الفطر. حينما يحلّق الدولار مجدداً. كما يحدث في كل سنة، قبيل وخلال، وبعيد شهر رمضان.
ولا شيء يميّز هذه السنة عن سابقاتها. فقد انخفض الدولار في السوق السوداء، بشكل متسارع، مع اقتراب شهر الصيام. وظهر هذا الانخفاض بصورة خاصة، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بشمال غربي سوريا. إذ تراجع "دولار إدلب" بنسبة 3.33%، خلال يومٍ واحد. مما يؤشر إلى بدء صرف الحوالات المضاعفة الواردة إلى السوريين من الخارج.
وكان يمكن القول إن المشهد في سوق العملة بسوريا، طبيعي. إذ ازداد عرض الدولار، بحكم زيادة وارداته، فتراجع سعر صرفه. وازداد الطلب على الليرة السورية، لتأمين الحاجة المطلوبة من السيولة للإنفاق على متطلبات شهر الصيام، فتحسّن سعر صرفها. وهي حركة طبيعية تنسجم مع آليات العرض والطلب المعروفة في أية سوق. لكن انفصال واقع أسعار السلع عن سعر الصرف، وما ينتج عن ذلك، من انخفاض في القدرة الشرائية لليرة السورية، في الوقت ذاته، الذي تؤشر فيه منصات رصد العملات إلى تحسّن سعر صرفها، هو ما يجعل المشهد غير طبيعي. وهو ما يجعلنا نقرأ سعر الصرف في السوق السوداء، بوصفه، مؤشراً مصطنعاً، ومُتلاعباً به، ولا يعبّر عن القيمة الحقيقية لليرة.
ولتقديم مؤشرٍ أكثر موثوقية، لنقارن تغير سعر الصرف بتغيرات أسعار السلع، بين رمضانين. فاليوم، يُباع "دولار دمشق" بنحو 14500 ليرة. أما قبل أسبوع من رمضان 2023، فكان "دولار دمشق" بنحو 7500 ليرة. أي أن الليرة خسرت من قيمتها نحو 93.33%، خلال سنة. بينما ارتفع سعر كيلو لحم الخروف، خلال الفترة نفسها، بنسبة 200%. وارتفع كيلو لحم العجل بنسبة 142%. وارتفع سعر كيلو الفروج الحي بنسبة 122%. حتى طبق البيض، ارتفع بنسبة 129%. أما البندورة، فارتفعت بنسبة 207%. فيما ارتفعت البطاطا بنسبة 300%. ومعنى ذلك، أن الليرة التي فقدت نحو 47% من قيمتها وفق مؤشر سعر الصرف، فقدت نحو 92% من قيمتها، وفق مؤشر القدرة الشرائية.
وحتى في بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، ولا تنفيها، كحالة سعر طبق البيض الذي انخفض في الأسواق السورية، بالآونة الأخيرة، يتضح لنا أن سبب هذا الانخفاض يرجع إلى تهريب البيض "اللبناني"، الأرخص ثمناً، إلى الداخل السوري. وهو ما يهدد بخروج المزيد من مُربي الدواجن من قائمة المنتجين، جراء الخسائر الناجمة عن هذا الانخفاض في الأسعار. وهكذا، لم تعد تكاليف الإنتاج المرتفعة في سوريا، تُضعف قدرة المُنتَج السوري على المنافسة، فقط، في حالة التصدير إلى أسواق دول الجوار، بل أصبحت تُضعف قدرته على المنافسة مع مُنتجَات دول الجوار، داخل السوق السورية نفسها. إذ تذهب تقديرات إلى أن السلع ذات الإنتاج السوري، والتي لها نظير من إنتاج لبناني، أغلى بنسبة 20 إلى 30%، مقارنة بالسلع اللبنانية. أما أسباب هذه المفارقة، فترجع إلى تكاليف الوقود المرتفعة، والقيود على حركة السلع والسيولة داخل الأراضي السورية، والضرائب والإتاوات الباهظة والعشوائية، ناهيك عن أثر العقوبات الخارجية.
وفيما سيتقاسم المركزي السوري، وتجار العملة في السوق السوداء، حصيلة دولارات هذا الموسم الرمضاني، ستخسر غالبية السوريين "دولاراتها" بليرات أقل، في مقابل أسعار سلع أعلى. وفي الوقت الذي سيعزّز فيه المركزي احتياطياته من القطع الأجنبي، سيرفع راية النصر، بأنه خفّض الدولار لصالح الليرة، لأربعة أو خمسة أسابيع، قبل أن يعكس السوق اتجاهه، ويبدأ موسم بيع الدولار بسعر أعلى، وجني مكاسب لعبة "لمّ" الدولار هذه.
كتاجر عملة، يبدو المركزي جديراً بالتقدير. أما كراسم لسياسات نقدية غايتها دعم اقتصاد بلد، يكدح غالبية سكانه قرب خط الفقر أو تحته، لا يمكن إلا النيل منه، بأقذع الصفات.
-------
المدن