اللحظة الأولى هي بداية الثورة، وقد جمعت أطيافا متنوعة من حيث الأصول والمنابت جمعا تجريبيا، إن جاز التعبير، يرث عقودا طويلة من الانعزال وقلة التفاعل السياسي، المحروس بالعنف وبسياسة تمييز نشطة من طرف النظام، ومن تحطم المنظمات السياسية التي كان يمكن أن تكون قوى تقريب وتَشارُك عابرة للأهلي. مواجهة الثورة بعنف تمييزي منذ البدايات قادت في آن إلى تصلب بيئات سنية مشاركة في الثورة في سنيتها، وإلى انكفاء القطاعات الأهلية غير السنية عن الثورة. وهذه هي اللحظة الثانية. العمليتان تغذيان بعضهما، وتتغذيان معا من الاستهداف العازل للبيئات السنية من قبل نظام قامت سياسته طوال عقود على التمييز الطائفي. وفرت السلفية الأرضية العقدية للأشد تطرفا بين السنيين في مواجهة النظام، وهي في الوقت نفسه ذات منزع عدائي حيال غير السنيين (وحيال السنيين غير النمطيين) مع ميل قوي نحو احتكار المعاناة والمظلومية، استمد مسوغاته الواقعية من ذاك الاستهداف التمييزي: البراميل، الكيماوي، صواريخ سكود، صناعة القتل في المقرات الأمنية، الاغتصاب، إلخ. كان هناك مقاومون للنظام بالسلاح من غير السنيين، لكن صعود التطرف السلفي وترسخه عام 2013 أقصى من بقي منهم. وهذا أنسب شيء للحكم الأسدي القائم جوهريا على التلاعب بالنسيج الاجتماعي الديني (والإثني) للبلاد.
نشأت على هذا النحو حلقة شريرة يقود فيها التمييز إلى تفرق السوريين حسب منابتهم الأهلية، ويتعزز فيها موقع قوى التطرف والانعزال، وهي قوى تقوم على التمييز هي ذاتها، فتكمل فعل النظام. وهكذا يعمم النموذج نفسه بإنتاج أشباهه فيصبح من طبائع الأمور، ويدفع في الوقت نفسه أطيافا أهلية واسعة إلى النفور والسلبية.
في اللحظة الأولى كان لدينا توجه استيعابي جامع، بمشاركة حذرة متنوعة من الأطياف السورية المتنوعة. في اللحظة الثانية لدينا التطرف السني وما بين انكفاء الجماعات الأهلية الأخرى على نفسها وبين اقترابها من النظام. اليوم، ثمة لحظة ثالثة، تبني على خبرة أكبر بالنظام وتكوينه التمييزي والنرجسي والعميل لحماته الأجانب، مركز الثقل المتميز فيها هو انتفاضة السويداء، لكنها تحظى باحتضان وتقدير لم يُشهد مثله من قبل، إن في المناطق الخارجة من سيطرة النظام، أو حتى في مناطق أعاد النظام السيطرة عليها، أو في الشتات السوري الكبير.
سوريا لا تتوحد في ظل نظام قائم بنيويا على التمييز، أجّر البلد لمستعمرين أجانب لأنه لا يقبل بحل سياسي مع محكوميه
هناك درس مهم يستخلص من هذه اللحظات الثلاثة: كلما تقارب الموقف من نظام التمييز فوق، اتسعت مساحة التقارب بين سوريين مختلفي المنابت تحت، واتسعت مساحة الاعتدال في الأوساط السنية. بالعكس، تنزع كلمة المتطرفين في هذه الأوساط لأن تعلو كلما وجدت نفسها وحيدة في مواجهة التمييز (وهو ما يفضله المتطرفون أنفسهم) وقلت مساحة التقارب بين السوريين.
مساحة التقارب الناشئة اليوم مرشحة لأن تكون أوسع وأمتن من تلك التي بدأت بها الثورة لأنها مبنية على خبرة السنوات الأليمة الماضية. ويصلح هذا الحدث الذي لم يكن متوقعا لأن يكون وجهة سياسية عملية، بل معيارا سياسيا وحقوقيا وأخلاقيا أساسيا، يربط بين معارضة حكم التمييز الأسدي وتقارب السوريين ونمو روح الاعتدال والتقارب فيما بينهم. يشبه الأمر تقارب السوريين ضد الاحتلال الفرنسي، فيما كان يستحيل أن يتقاربوا على أرضية موالاة قوة احتلال كانت تفرق بينهم لتسودهم جميعا. الوطنية السورية تشكلت بمحتوى قومي عربي حول الاستقلال عن الفرنسيين، والفرصة اليوم مناسبة لأن تتشكل بمحتوى مواطني ديمقراطي ضد نظام التمييز الأسدي. يبدو الربط بين مقاومة التمييز واتساع التقارب الوطني ونمو الاعتدال من بديهيات الأمور وأساسا لكل سياسة وطنية ممكنة، لكنه قلما كان كذلك، لا بعد الثورة السورية ولا قبلها. والمهم اليوم هو بلورة هذا المعيار والحكم على سياسة الأطراف المختلفة به.
وظاهر أن الجهة الأشد تضررا من الحدث الجديد والمعيار السياسي الذي يمكن أن يقوم عليه هو النظام الذي بدأ سلفا حملات التخوين والتفريق. ولعل الأشد تطرفا وطائفية في البيئات السنية هم كذلك من الأشد امتعاضا كذلك من التطور الجديد.
ماذا يحتمل أن تكون سياسة النظام إذا استمرت واتسعت نطاقات الاحتجاج الحالية في السويداء؟ انتفاضة السويداء تضرب عصبا باطنا للنظام، وإن يكن معلوما من الجميع: حماية الأقليات (مثل الاحتلال الفرنسي بالمناسبة) وهو لا يستطيع مواجهتها مثلما واجه البيئات السنية دون أن يخسر مبررا أساسيا لوجوده. لكن غريزة النظام الأساسية متجهة نحو بقائه بأي ثمن، وبالتالي تدمير من يعترضون على البقاء. لا ينبغي أن يكون هناك شك في ذلك. ربما يأخذ الأمر شكل حصار واغتيالات وعمليات إرهابية، والمستهدف الأول هو القيادات الاجتماعية وأبرز الناشطين، في ضرب من قطع الرأس السياسي للمجتمع برع فيه الحكم الأسدي على الدوام. وهناك سلفا قصف إيديولوجي تمهيدي يركز على موضوعة الانفصال عن سوريا، وبالتالي معاملة المنتفضين كعملاء وأعداء. ما يقوله النظام عمليا، وما قاله طوال السنوات الاثنتي عشرة ونصف السابقة هو أن سوريا الوحيدة الممكنة هي «سوريا الأسد» وليس هناك أي سوريا ممكنة غيرها. العكس تماما هو الصحيح، وفرص سوريا في البقاء رهن بالتحرر من حكم استعماري في أساليبه، بما يرهن وحدة سوريا بطي صفحته مثلما سبق أن حدث مع الاستعمار الفرنسي. سوريا لا تتوحد في ظل نظام قائم بنيويا على التمييز، أجر البلد لمستعمرين أجانب لأنه لا يقبل بحل سياسي مع محكوميه، وهو ما يسوغ وصفه بالنظام العميل بكل معنى الكلمة.
ومن وجهة نظر حقوق السكان المحليين وأمنهم، ليس من المرغوب انضواء أي من مناطق البلد الخارجة عن سيطرة النظام تحت كنفه، لا مناطق إدلب والشمال السوري (وبينهم ما يقارب مليونين من اللاجئين) ولا مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها قوات الاتحاد الديمقراطي الكردي (وكان النظام، بالمناسبة، هو من سلمها السيطرة على مناطق الكثافة الكردية ضمنها وأمدها بالسلاح في تموز 2012، قبل أن تتسع سيطرتها لمناطق أخرى بفضل الحرب على داعش، ويصير اسمها قوات سوريا الديمقراطية، وتعرض قدرا من الاستقلالية عن النظام الذي صار يتهمها بالانفصالية) ولا السويداء التي تفتقر خلافا للمناطق الأخرى إلى موارد ذاتية مهمة أو إلى سند خارجي، ما حدا بالمنتفضين إلى الدعوة إلى فتح ممر إنساني مع الأردن المجاور.
وما تريد هذه المناقشة الوجيزة الخلوص إليه هو أن «استعمارية السلطة» هي منبع التطرف في المجتمع، وانقسام البلد بدءا من الأطراف. هذه البنية الاستعمارية هي ما يتعين العمل على طي صفحته من أجل وحدة البلد ونمو روح الاعتدال بين السوريين.
-------
القدس