لوحة جدارية على أنقاض منزل مدمر شمال غربي سوريا للرسامة سلام حامض- 15 شباط 2023 (سلام حامض/ فيس بوك)
راكم الزلزال المدمر، إلى جانب أنقاض المنازل التي تركت أهلها دون مأوى، الاحتياجات الإنسانية في مناطق شمال غربي سوريا، التي لم تكن بأفضل حالاتها ما قبل الكارثة، جراء تراجع الدعم والتمويل الدولي للمنظمات الإنسانية والطبية العاملة على الأرض تحت ذرائع مختلفة.احتياجات الإنقاذ والمأوى والمأكل والطبابة اجتمعت في وقت ضيق بما يتطلب استجابة إنسانية استثنائية، تختلف عن تلك التي تقدّمها المنظمات في الأوضاع الطبيعية، عبر فتح باب التبرعات التي أدارت عجلة الاستجابة ضمن حدود.
وبعد تدرّج مستوى الكارثة، والانتقال من بحث متواصل ومضنٍ لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، إلى البحث وانتشال الجثث على يد “الدفاع المدني السوري” ومدنيين، دونما كفاية معدات وآليات، تكشّفت الأزمة الإنسانية بوضوح أمام فقدان العائلات منازلها بكامل ما تحتويه، إلى جانب انتقال القطاع الطبي من الإسعافات الأولية إلى التعامل الجراحي مع الحالات التي خلقها الزلزال.
وأمام كل تلك التحديات وغياب الفعالية الحكومية، تولت المنظمات إدارة المرحلة الإسعافية الانتقالية بين كارثة الزلزال واستيعابها، بالاعتماد على ما جمعته أو ما ستجمعه لاحقًا من تبرعات بهدف إعادة إعمار ما دمره الزلزال.
تسلّط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على طبيعة الاستجابة الأولية لكارثة الزلزال المدمر في مناطق شمالي غربي سوريا، حيث تتعدد السلطات والمنظمات الإغاثية والإنسانية، كما توضح عبر متخصصين حجم الاحتياجات خلال الفترة القليلة المقبلة، وطبيعة الاحتياجات للمرحلة “ما بعد الحادة”، وسبل تأمينها، بهدف تعويض المتضررين من الزلزال جزءًا من خسارتهم.
إنقاذ الأرواح..
إمكانيات محدودة أمام “كارثة القرن”
بعد ساعات من الزلزال الذي كان مركزه ولاية كهرمان مرعش التركية بشدة 7.7 درجة على مقياس “ريختر”، في 6 من شباط الحالي، ملحقًا الضرر بأربع محافظات سورية، تبعه زلزال آخر في الولاية ذاتها، بشدة 7.6 درجة، في ظهيرة اليوم نفسه، أعلن كل من فريق “الدفاع المدني السوري” و”الحكومة المؤقتة” وحكومة “الإنقاذ” الشمال السوري منطقة “منكوبة”.كانت الفرق التطوعية والأهالي والجهات المحلية شمال غربي سوريا تسابق الزمن لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، بعد الزلزال الذي أسفر عن 2274 حالة وفاة و12400 مصاب بالمنطقة، في حصيلة غير نهائية.
“الدفاع المدني السوري” وفرق تطوعية ومنظمات ومجالس محلية وفصائل عسكرية وحكومتان شمال غربي سوريا، استجابت بمتطوعيها وعناصرها وآلياتها لأكثر من 550 مبنى مدمرًا بشكل كامل، وأكثر من 1570 مبنى مدمرًا بشكل جزئي، في أكثر من 60 مدينة وبلدة وقرية، وسط ضعف الإمكانيات وتأخر وصول المساعدات من معدّات وآليات بذريعة وجود عوائق لوجستية.
“الخوذ البيضاء” تواجه الكارثة
مرت الساعات الأولى من الزلزال مسرعة على متطوعي “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، الذين وصلوا الليل بالنهار لإنقاذ الضحايا، في حين كانت الساعات بطيئة جدًا على حيوات تحت الأنقاض كانت تبحث عن حياة فوقها.نائب مدير فريق “الدفاع المدني السوري”، منير مصطفى، أوضح لعنب بلدي أن الاستجابة بدأت مع اللحظات الأولى لحدوث الزلزال، مع إعلان مباشر لحالة الطوارئ والعمل بالطاقة القصوى، وبلغ عدد المتطوعين الذين بدؤوا العمل بشكل مباشر في عمليات البحث والإنقاذ 2900 متطوع ومتطوعة من جميع الاختصاصات، الإنقاذ المائي والإطفاء والإسعاف وغيرها، وبجميع الآليات والمعدات الثقيلة المتوفرة.
ويبلغ عدد متطوعي “الدفاع المدني” 3300، وضعت إدارة المنظمة 2900 منهم في استجابة مباشرة بعمليات البحث والإنقاذ، وبقية المتطوعين بين عمل إعلامي وإداري ولوجستي وتأمين إمداد للفرق التي تعمل، وفق مصطفى، مضيفًا أن الفرق لم تعمل بشكل تناوبي (أو ورديات)، إذ رفض قسم كبير منهم مغادرة أماكن عملهم في أول 48 ساعة.
وقال مصطفى، إن الفرق توزعت وفقًا للأولويات ونوع الإدارة، فقائد الفريق هو من يحدد الأولوية للعمل ويوزع الفرق إلى المنطقة التي تعاني نقصًا وفيها دمار كبير، ويوجه الكوادر من أجل مؤازرة المناطق الأكثر تضررًا، وكانت هناك عملية إشراف مباشرة على توزيع الفرق.
وحدد مصطفى نوعين من العقبات التي واجهها متطوعو “الدفاع المدني”، طبيعية وتقنية، الأولى متعلقة بالمساحة الواسعة المدمرة جرّاء الزلزال، إذ امتدت النقاط التي تعرّضت لأضرار من مدينة جرابلس بريف حلب الشمالي الشرقي إلى ريف إدلب الغربي والجنوبي، بشريط يمتد لنحو 200 كيلومتر، وضم أكثر من 60 قرية وبلدة ومدينة مدمرة.
ومن العقبات الطبيعية، الهزات الارتدادية التي شكّلت خطرًا على حياة المتطوعين من إصابات وجروح رغم أنهم مدربون، وكذلك العوامل الجوية كالمطر والبرد، التي كان لها أثر سلبي، وزادت احتمالية انهيار المباني.
وتمثلت العقبات التقنية بنقص المعدات والآليات التي لا تكفي للاستجابة لهذا الكم الهائل من الدمار، وكذلك عدم قدرة هذه المعدات على التعامل مع الكارثة، وشكّل غياب المجسّات والكاميرات الحرارية عائقًا كبيرًا أمام الإسراع في عمليات الإنقاذ.
بعد 108 ساعات على الزلزال، أعلن “الدفاع المدني” أن عملياته في سوريا بدأت تأخذ مسار البحث والانتشال، بعدما صارت فرص العالقين تحت الأنقاض بالبقاء على قيد الحياة نادرة جدًا، دون وصول أي مساعدات من معدات وآليات لإنقاذ العالقين.
وحمّل مدير “الدفاع المدني”، رائد الصالح، الأمم المتحدة مسؤولية تأخر وصول المساعدات، مؤكدًا أن نقص المعدات الفعالة كان سببًا كبيرًا في العجز عن إنقاذ الكثيرين، وذلك خلال مؤتمر صحفي أجراه، في 10 من شباط الحالي، بعد مناشدات كثيرة لتأمين المعدات الثقيلة والمحروقات اللازمة لتشغيلها.
فرق تطوعية.. حلول “مؤقتة”
منذ اليوم الأول للزلزال، خلق بقاء عشرات آلاف الناس في العراء الحاجة لتحرك سريع لتأمين مراكز إيواء مؤقتة تحميهم من انخفاض درجات الحرارة، ومن تصدع بيوت يُحتمل وقوعها جراء أكثر من أربعة آلاف هزة ارتدادية حدثت منذ 6 من شباط الحالي.وفي منطقة لم تعتد سابقًا على الكوارث الطبيعية بهذا الحجم، لم تكن سلطات الأمر الواقع أو المنظمات المعنية العاملة في المنطقة، تمتلك الخبرة أو الإمكانيات المادية واللوجستية الكافية للتعامل السريع مع تداعيات الزلزال، التي تسارعت بشكل كبير يفوق قدرة الاستيعاب في الساعات الأولى منه.
استجابت عشرات الفرق التطوعية والمنظمات والجمعيات لكارثة الزلزال، وساعدت على حسب وظيفتها الإغاثية أو الطبية أو الإنسانية وغيرها، رغم تأثر كوادرها أيضًا سواء في تركيا أو سوريا بالكارثة.
وعملت العديد من المنظمات خلال الساعات الأولى على تأمين المأوى للمتضررين، عبر نقلهم إما إلى قرى سكنية سبق أن أنشأتها، وإما إلى مخيمات مؤقتة.
مدير البرامج في جمعية “عطاء للإغاثة الإنسانية” العاملة في تركيا والشمال السوري، صهيب طليمات، قال لعنب بلدي، إن جهود الجمعية كمعظم المنظمات الإغاثية خلال الأسبوع الأول لكارثة الزلزال انصبت على عدة أقسام، وكانت الاستجابة الأولى هي دعم “الدفاع المدني” بإنقاذ الضحايا العالقين، بينما كانت الاستجابة بعدها متعددة القطاعات عبر تأمين مراكز إيواء، وتزويد المتضررين بمواد غير غذائية لها علاقة بالمأوى والتدفئة، من مدافئ وألبسة وفحم وبطانيات، وتوزيع وجبات جاهزة، ولاحقًا توزيع السلال الغذائية.
ولفت طليمات إلى أن تنفيذ البرامج والمشاريع القائمة التي تعتمد على التوزيع ركّزت جهودها على المتضررين من الزلزال كـأماكن ومواد، في حين توقفت بشكل مؤقت البرامج والمشاريع التي لها علاقة بالجانب التنموي وليس الإغاثي أو الاستجابة، لأجل إنشاء مراكز استقبال متضررين وتجهيزها، وبعد إنشاء المراكز عادت البرامج للعمل وفق المخطط له.
وأوضح طليمات أن التنسيق بين المنظمات العاملة خلال ساعات الاستجابة الأولى لم يكن غائبًا بالكامل، إنما اقتصر على المستوى الميداني فقط عبر المشاريع الميدانية ومديري المكاتب الميدانيين، وذلك بهدف تنسيق الجهود لتفادي حرمان مناطق معيّنة من الخدمات، على حساب تكرارها في مناطق أخرى.
مدير قسم حملات الاستجابة في فريق “ملهم التطوعي” العامل في الشمال السوري وتركيا، فيصل الأسود، قال لعنب بلدي، إن استجابة الفريق شملت جميع القطاعات التي يعمل بها، الطبية والإغاثية والمواصلات والإخلاء، إذ أعلن حالة الطوارئ بجميع مناطق انتشاره في سوريا وتركيا.
وأضاف الأسود أن فريق “ملهم” أوقف العمل بجميع الأقسام وجميع المشاريع للاستجابة بشكل كامل للكارثة في سوريا وتركيا.
الناطق الإعلامي باسم منظمة “إنسان الخيرية” العاملة في مناطق ريف حلب، عبد الحميد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن المنظمة عملت على تجهيز مراكز إيواء مؤقتة للمتضررين من الزلزال في بلدة جنديرس التي كانت أكثر المناطق تضررًا في الشمال.
وأوضح العبد الله أن استجابة المنظمة مؤقتة في الوقت الحالي، وطالما أن الاحتياجات موجودة ستبقى الفرق التابعة لها تستجيب لها بقدر الإمكانيات، إذ تعمل على تقديم الإسعافات الأولية للجرحى والمصابين، وتستقبل المرضى في عيادات متنقلة، كما توزع بعض السلال الغذائية والوجبات اليومية.
السلطات حاضرة
منذ الساعات الأولى للزلزال، تحركت أيضًا السلطات في المنطقة، وفق إمكانياتها، وكمرحلة أولى قدمت المساعدة في دعم “الدفاع المدني” بمحروقات وآليات من جهة، وأمّنت وصول المصابين إلى المستشفيات بأسرع وقت ممكن، عقب انتشالهم من تحت الأنقاض، وتأمين مراكز إيواء مؤقتة لهم.حكومة “الإنقاذ”، التي تسيطر على محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب، استجابت خلال الأيام الأولى للكارثة عبر 20 ألف عامل في مؤسساتها المدنية والأمنية والعسكرية، لتقديم المساعدة في إنقاذ العالقين وتأمين مراكز إيواء مؤقتة بلغ عددها نحو 40 مركزًا.
بينما تركّز عملها خلال المرحلة الثانية على تسهيل دعم ودخول وحماية الفرق الطبية والإغاثية من معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وإخلاء المباني المتصدعة وترحيل الأنقاض، وتقييم الأبنية المتضررة، وتأمين الإيواء، ومحاربة الاحتكار، وصرف مساعدات نقدية وإغاثية بقيمة تتجاوز 20 مليون ليرة تركية مبدئيًا لجميع العائلات المتضررة، وفق ما أعلن عنه القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام” صاحبة النفوذ العسكري في المنطقة، “أبو محمد الجولاني”.
مدير العلاقات العامة في حكومة “الإنقاذ”، جمال الشحود، قال لعنب بلدي، إن وزارة الداخلية في “الإنقاذ” استنفرت ما يزيد على 2600 من الوحدات الشرطية والمهام الخاصة وجميع الآليات التابعة لوزارة الداخلية من رافعات وسيارات لنقل الجرحى والمصابين وسيارات شرطة المرور، منذ الساعات الأولى للزلزال، وعملت على تأمين الحماية ومنع وقوع السرقات وحماية ممتلكات المتضررين، وتسلّم جميع الأمانات التي أُخرجت من الأبنية المهدمة وتوثيقها وحفظها لتسليمها لأصحابها ولذوي الضحايا.
وفي ريف حلب حيث تسيطر “الحكومة السورية المؤقتة”، طلبت وزارة الدفاع من جميع الوحدات والتشكيلات العسكرية في “الجيش الوطني السوري” تقديم المساعدة لعناصر “الدفاع المدني” والآليات المطلوبة لإنقاذ وإسعاف المصابين، وتوجيه الحواجز بتأمين مرور عربات الإسعاف بشكل سريع، إلى جانب تأمين المجالس المحلية التابعة لـ”الحكومة المؤقتة” مراكز إيواء للأهالي.
الناطق الرسمي باسم “الجيش الوطني” الجناح العسكري لـ”المؤقتة”، العميد أيمن شرارة، أوضح لعنب بلدي أن الآليات والعناصر في “الوطني” مستمرة بعملها إلى جانب الأهالي والمنظمات بعد مرور أكثر من عشرة أيام على الزلزال، وجرى تشكيل “خلية أزمة” لحماية المناطق المنكوبة لتقديم ما يلزم للأهالي المتضررين وتسهيل عمل المنظمات الإنسانية وحمايتها.
ولم تقتصر الاستجابة لكارثة الزلزال على الجهات المحلية والعسكرية والمنظمات، إذ استجاب الأهالي للكارثة كل حسب قدرته من تبرعات ودعم وآليات وإطعام وجهد جسدي، ووصلت شاحنات وسيارات محمّلة بالمساعدات من أهالٍ وناشطين وعشائر استجابة للمتضررين.
لا هيئة كوارث تدير الاستجابة
توجد في أي دولة هيئة تسمى “هيئة الكوارث الطبيعية”، وهو ما لا تمتلكه المنطقة في شمال غربي سوريا، حيث تغيب أيضًا المرجعية والخبرة والأدوات والمخازن والأجهزة وإدارة المخاطر المجهزة لكارثة طبيعية كهذه، بحسب المختص بإدارة منظمات المجتمع المدني الدكتور باسم حتاحت.
وفي ظل غياب كل ذلك، وحدوث الزلزال بشكل مفاجئ، الأصل أن ينشأ تعاون مع جهتين أساسيتين، أولاهما السلطات التركية التي تشرف على الوضع في الشمال السوري، والهيئات الأممية التي تعمل على تقديم المساعدات.
إلا أن غياب “هيئة الكوارث الطبيعية” يمنع الهيئات الأممية والجهات الدولية ضمن القرارات الأممية من المساعدة، بما في ذلك إيصال الآليات الثقيلة، بحسب حتاحت.
وأجبر ذلك “الدفاع المدني السوري” على استئجار آليات بالإضافة إلى آلياته، لم تكن قادرة على الاستجابة لكارثة من هذا النوع، كون الزلزال كان في مجموعة مناطق مساحتها أكثر من 100 كيلومتر مربع، بما يعني أنه لو وجدت الآليات مسبقًا، فإن توزيعها على كارثة بهذه المساحة سيبقى بطيئًا وناقصًا.
في الكوارث الطبيعية المشابهة، يجب توفر خمسة أنواع من التجهيزات في المنطقة بهدف الاستجابة المبكرة وضمان الحدّ من ارتفاع عدد الضحايا وهي:
1- آليات ثقيلة.
2- آليات هندسية إلكترونية تحدد إحداثيات سقوط الأبنية.
3- آليات أقل ثقلًا من آليات الحفر، بهدف إزالة وتفريغ الحجارة الكبيرة.
4- أجهزة حرارية، تعمل عبر حساسات خاصة على استشعار التنفس أو جسم الأشخاص العالقين، بالإضافة إلى أجهزة تنصت يمكن سماع الأصوات مكبرة عبرها بعمق 30 مترًا.
5- الكلاب المدربة، التي تعد أسرع بكثير من أي جهاز إلكتروني.
وفي إدارة الكوارث يقسم العمل إلى أربعة أقسام، بحسب الدكتور باسم حتاحت، أولًا البحث، وثانيًا الإيواء الذي يتمثل بإيجاد أماكن بديلة للمتضررين في الكارثة، وهي الحالة التي لا تزال غير موجودة في الشمال، رغم وجود عشرات المنظمات العاملة في قطاعات الإيواء، والتي من المفترض أن تضم قسم إدارة مخاطر يضمن إقامة عشرات المخيمات خلال ساعات.
بينما يجب في القسم الثالث ضمن منهجية العمل في أثناء الكوارث، العمل على مستشفيات ميدانية لاستيعاب أعداد الإصابات الكبيرة، ورابعًا وجود مركز للإحصاء والتوثيق، هدفه الإحصاء المباشر للضحايا والأضرار المادية، ومعالجة المشكلات الآنية الناجمة عن الكارثة والحد من تفاقمها، وإحصاء الاحتياجات بأنواعها (إغاثة، خبراء، آليات) بشكل مركزي للتفاعل مع المنظمات الأممية والدولية.
طبيًا..
العمل حتى النفس الأخير
في القطاع الطبي، لم يكن الوضع بأفضل حال، ولطالما عانى القطاع خلال السنوات الماضية نقصًا كبيرًا في مستهلكاته وكوادره، جراء أسباب عديدة، أبرزها عدم كفاية الدعم المقدّم له، وسبق أن سجّل مع انتشار الأمراض والأوبئة في المنطقة ضعفًا أكبر في إمكانياته.وأجبر تعرض بعض الكوادر الطبية لآثار مباشرة جراء الكارثة، إما بوفاتهم مع عائلتهم وإما ببقائهم تحت أنقاض منازلهم، زملاءهم من الكادر على العمل لساعات متواصلة خلال الأيام الأولى، وسط وصول أعداد الإصابات لأضعاف قدرة المراكز والمستشفيات على الاستيعاب.
كما فقدت معظم المستشفيات احتياطياتها من الديزل والمستهلكات الطبية، إذ امتلأت جميعها بالمرضى خلال الأيام الأولى، ووُضع عدد منهم في ممرات المستشفيات، ما جعل بعض المراكز الطبية تستخدم موارد كانت مدرَجة لاستهلاكها خلال ستة أشهر، في يوم واحد فقط.
واجه القطاع أيضًا عدة عوائق لوجستية، تمثلت أولًا بغياب الكهرباء التي كانت تصل إلى المنطقة بطبيعة الحال من تركيا، ما اضطر المستشفيات والمراكز الصحية للعودة إلى الاعتماد على الديزل لتشغيل المولدات، الأمر الذي لم تُتخذ احتياطات مسبقة له.
واقع غير مبشّر
تتضمن الإصابات جراء الزلزال حالات تستدعي تدخلًا جراحيًا، بعد انتهاء المراكز الطبية من مرحلة الإسعاف، لكن هذه الخطوة رهينة بمعطيات غير واضحة، وفق ما قاله مدير مستشفى إدلب المركزي، الدكتور عادل الدغيم.وركّز الدغيم، في حديث إلى عنب بلدي، على عدم وجود تصور كامل حول عدد العمليات الجراحية المنتظرة في فترة ما بعد الكارثة، مبررًا ذلك بعدم إمكانية التنبؤ بتطور الإصابات الحاصلة جراء الزلزال، من كسور ورضوض متعددة.
كما أن المصابين لا يزالون في مرحلة الخطر، وقد تتطور لديهم حالات تستدعي بتر أطراف مثلًا، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون حاليًا “متلازمة الهرس” أو القصور الكلوي، ويخضعون لغسل الكلى بشكل مستمر.
و”الهرس” حالة مرضية يحدثها التعرض لصدمة جسدية جراء الضغط المطول على أي جزء من الجسم، وقد تحدث بسبب تأثير مباشر للصدمة أو نقص التروية المرتبط بالضغط، ويمكن أن تسبب فشلًا كلويًا.
وفي السياق نفسه، أوضح الدغيم أن الحلول لأزمات القطاع تتطلب ترميم الكوادر الطبية، وتأمين المستلزمات والأجهزة الطبية في المنطقة المنكوبة.
بينما تتمثل الاحتياجات، في المرحلة “ما بعد الحادة” من حدوث الزلزال، بتأمين المستلزمات الطبية الكافية بأنواعها، بالإضافة إلى المواد الأولية اللازمة لعمليات غسل الكلى، الأمر الذي يتطلب الدعم من قبل منظمات وجهات دولية، بسبب صعوبة تأمينها محليًا من جهة، وصعوبة إدخالها إلى المنطقة عبر تركيا من جهة أخرى.
بعد الصدمة..
الحاجة إلى الإدارة والتنسيق
بعد انتهائه من مرحلة الاستجابة الطارئة للزلزال، التي تجلّت بانتشال العالقين تحت الركام في عمل متواصل على مدار الساعة لإنقاذ الأحياء، انتقل “الدفاع المدني السوري” إلى مستوى آخر من الاستجابة للتعامل مع آثار الزلزال، وهي آثار طويلة الأمد.نائب مدير “الدفاع المدني السوري”، منير مصطفى، أوضح أن هذه المرحلة من الاستجابة تبدأ بفتح الطرقات ورفع الأنقاض من الطرقات الرئيسة والفرعية، ما يشكّل تحديًا كبيرًا، جراء وجود كميات كبيرة جدًا من الركام والأنقاض.
إلى جانب ذلك، يتجه الفريق خلال الفترة الراهنة لإعادة تقييم الأبنية وتحديد ما هو صالح للسكن منها، بالتعاون مع مهندسين ومختصين، وتحديد آلية التعامل مع البناء، عبر الهدم الكلي أو إزالة أجزاء منه، وفق منير مصطفى.
بينما تتركز جهود المنظمات الإغاثية خلال الفترة الحالية والمقبلة على إيجاد أماكن دائمة لمتضرري الزلزال الذين تهدمت منازلهم أو تصدعت ولم تعد مناسبة للسكن.
وبحسب حديث عنب بلدي مع عدد من مسؤولي هذه المنظمات، فُتح باب التبرعات في هذا الخصوص، كما بدأ التنسيق مع مختصين هندسيين لبدء مرحلة التخطيط لأماكن القرى السكنية الجديدة، وتصميمها داخليًا وفق الاحتياجات.
وحتى نهاية الأسبوع الثاني، بعد حدوث الزلزال، جمع فريق “ملهم التطوعي” (وهو من الفرق السورية القليلة التي تعلن حجم التبرعات التي تصلها) ضمن حملة “قادرون” التي أطلقها بهدف إعادة إعمار ما دمره الزلزال، أكثر من 11 مليون دولار أمريكي، المبلغ الذي يكفي تقريبًا لبناء 2247 منزلًا من أصل أربعة آلاف، على اعتبار أن تكلفة تأمين المنزل الواحد تصل إلى نحو خمسة آلاف دولار.
ضعف العدالة يخلّفه غياب التنسيق
مع إعلان العديد من المنظمات عن نيتها بناء منازل دائمة، وغياب دور السلطات في توحيد جهودها للوصول إلى نتائج أفضل بسرعة تضمن احتواء آثار الكارثة في أقرب وقت، لم تصل هذه المنظمات بعد إلى تنسيق بين بعضها حول برامجها وخططها في بناء المنازل وتحديد المستفيدين خلال الفترة المقبلة.نائب مدير “الدفاع المدني”، منير مصطفى، قال لعنب بلدي، إن تعدد الجهات الفاعلة ما دون المحلية، يعد من أبرز معوقات العمل خلال الفترة المقبلة، ما يؤدي إلى غياب جهة حوكمية واحدة تخطط وتنفذ، وهذا يتطلب التعامل وفق خطة تكتيكية أكثر من استراتيجية.
ولفت مصطفى إلى وجود نية تتعلق بتوحيد الجهود أو التوصل لغرفة عمليات مشتركة، في سبيل توزيع المهام وتتابعها، وعدم حدوث تضارب عمل في مكان واحد.
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن التنسيق والتعاون بين المنظمات من شأنه تحقيق فاعلية مرتفعة في العمل الإغاثي، كما يضمن تحقيق العدالة في الدعم، مشيرًا إلى أن ضعف التنسيق بين المنظمات الإغاثية العاملة في مجال إغاثة المنكوبين ليس بجديد في الشمال السوري، فخلال سنوات الحرب، عانى العمل الإغاثي والإنساني تراجعًا في مستوى التنسيق، وانعكس هذا في العمل الإغاثي بعد الزلزال.
ويرى السيد عمر أن ضعف مستوى التنسيق بين المنظمات الإغاثية والإنسانية العاملة في المناطق المنكوبة، يعود لعدة أسباب، منها أن هذه المنظمات تحصل على تمويلها من جهات مختلفة، فالمنظمات مضطرة لمراعاة شروط المانحين التي قد تكون مختلفة ومتباينة.
كما يؤدي عدم وجود قواعد بيانات محدثة إلى تراجع مستوى التنسيق، بالإضافة إلى تعدد الجهات السياسية المحلية المشرفة على العمل الإغاثي، وقد يؤدي إلى عدم عدالة في الدعم، فقد تحصل مناطق جغرافية محددة مثلًا على دعم من عدة منظمات، بينما تُحرم مناطق أخرى.
مطالب بهيئة إغاثية عليا
وفيما يتعلق بمنطقة الشمال السوري، فإن تحقيق الأهداف المرجوة من العمل الإغاثي يتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين المنظمات، ولتحقيق هذا، لا بد من وجود هيئة إغاثية عليا في المنطقة، تعمل تحت لوائها مختلف المنظمات الإغاثية، وتأتمر بأمرها، فهي الموجه الرئيس للعمل.وعلى هذه الهيئة إعداد قاعدة بيانات ديموغرافية ذات نطاق جغرافي، بحيث يتم تحديد الفئات الأشد حاجة، وتسجيل الفئات التي تم تقديم الدعم لها، وفي ذات الوقت لا بد من ضمان عدم تدخل السلطات السياسية المحلية بالعمل الإغاثي، فحدود تدخلها لا يجب أن تتعدى تقديم الدعم اللوجستي للمنظمات، بحسب السيد عمر.
المختص بإدارة منظمات المجتمع المدني باسم حتاحت، انتقد في حديث إلى عنب بلدي غياب التنسيق بين المنظمات في ظل وجود مثل هذه الكارثة والاحتياجات الكبيرة المرافقة لها، وعدم وجود هيئة إغاثية عليا فاعلة بهذا الدور، بجانب “الدفاع المدني”.
ويؤدي التنسيق بين المنظمات أو وجود هيئة إغاثية عليا إلى توزيع التبرعات وفق أهم الاحتياجات، مثل تأمين آليات ومعدات تساعد في الإنقاذ بالمرحلة الأولى، أو تأمين أماكن لإيواء المتضررين، وتشكيل لجان تكشف عن الأضرار.
وأشار حتاحت، على سبيل المثال، إلى خطورة وضع السدود المتأثرة بالزلزال التي يمكن أن يسبب تهدمها كوارث أخرى.
وأبرز حتاحت أهمية الوصول إلى اتفاق مع الهيئات الأممية للدخول إلى الشمال السوري، موضحًا أن آلية دخول المساعدات للمنطقة هي آلية أممية دورية معتمدة، وبالتالي في حال الوصول إلى اتفاق مع هذه الهيئات يقضي بسماح دخول منظمات المجتمع المدني، يمكن حينها للأخيرة تلقي دعم أممي ضروري يصعب على المنظمات المحلية جمعه.