وعليه، فإن لبنان الرسمي، وخلافًا لإرادة المجتمع الدولي والجهات المانحة، سيمضي في خطته بالتنسيق المباشر مع دمشق، وعلى قاعدة أن لبنان لن يرضخ للابتزازات والضغوط الدولية بهدف إبقاء اللاجئين السوريين لديه. كما أن واضعي الخطة الحكومية غير المنجزة منذ نحو عام، والتي أثبتت فشلها في أكثر من محطة وتجربة، يتسلحون راهنًا بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، بعد نحو 12 عامًا من المقاطعة ومن حرب بقي فيها بشار الأسد رئيسًا للنظام.
ماذا عن لبنان؟
عمليًا، عبّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، عن استياء الاتحاد من مسار تطبيع علاقة معظم الدول العربية مع النظام السوري، وخشيته من أن يمنع تنفيذ قرار الأمم المتحدة 2254 الخاص بحل أزمة سوريا.
وفي الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية والمغتربين، عبد الله بو حبيب، طالب بزيادة دعم المؤسسات الحكومية والمجتمع المضيف الذي يتحمل منذ أكثر من عقد كلفة تجاوزت الـ5 مليار دولار لعام 2023، وحذر من تحويل الملف إلى قضية شبيهة بقضية اللاجئين الفلسطينيين، الذين لا يزالون ينتظرون الحلول منذ 75 عاما. وقال: "هناك خطر من توترات بين اللبنانيين والنازحين السوريين وارتفاع العنف بسبب الأزمة والصراع للحصول على وظائف".
في المقابل، يترقب لبنان الزيارة غير الرسمية التي سيقوم بها وزير المهجرين عصام شرف الدين الأسبوع المقبل إلى دمشق، لإعادة البحث بالخطة التي سبق أن أعدها واشتعلت الخلافات حولها من داخل الحكومة، قبل أن توافق عليها بصورة نهائية.
180 ألف نازح كل دفعة
وزيارة شرف الدين التي ستمهد الطريق لزيارة وفد حكومي لبناني رسمي إلى دمشق، مؤلفٍ من سبعة وزراء، سيبحث في ثلاثة مسائل عالقة:
- ملف مكتومي القيد السوريين الذين ولدوا في لبنان.
- ملف الخدمة العسكرية السورية.
- ملف الترحيل الآمن كبديل عن العودة الطوعية.
وهنا، يقول شرف الدين لـ"المدن"، بأن الجانب السوري وافق على عودة 180 ألف لاجئ كل دفعة بدل 15 ألفاً، إلى القرى والبلديات حيث جرى تجهيز أكثر من 480 مركز إيواء لتأمين الخطة، وقال: "إن الأمن مستتب في الدولة السورية، على نحو 90% من أراضيها، ما عدا شمال شرق سوريا حيث الوجود الأميركي غير الشرعي. أما توفر الأمن الاقتصادي، فهو مسؤولية الدول المانحة والدول العربية والمفوضية".
ورغم عدم وجود أي معلومات حسية وميدانية حول مراكز الإيواء التي يتحدث عنها شرف الدين، وهي على الأغلب في ريف دمشق وريف حلب، يقول إن سلامة العائدين إليها مضمونة؛ "سيما أن اللوائح التي سنرسلها إلى سوريا من خلال الترحيل الآمن، ترسل أولًا إلى الأمن الوطني السوري، ومن لديه أي مشكلة قضائية أو جزائية لا نرحله".
ما "الترحيل الآمن"؟
اللافت في كلام شرف الدين هو التركيز على مصطلح "الترحيل الآمن"، كبديل عن مصطلح "العودة الطوعية". ويبدو أن هذا المصطلح المستجد، يشكل اعترافًا ضمنيًا باستحالة تحقيق عودة طوعية تشمل مختلف اللاجئين، ويكونون هم أصحاب القرار فيها. ورغم أن مفهوم "الترحيل"، فعل يمارسه الأقوى على الأضعف، فهو يتنافى مع مفهوم "العودة الطوعية" كليًا. وهنا، تؤكد مصادر ميدانية متابعة في سوريا لـ"المدن"، أن معظم السوريين وعائلاتهم لا يشجعون اللاجئين على العودة، بسبب تخلف معظم الشباب عن الخدمة العسكرية، إضافة إلى الهواجس الأمنية من فكرة العودة للإقامة في مناطق سيطرة النظام، ناهيك عن فقدان معظم الناس لمنازلها، أو مصادرتها من قبل ميلشيات متعددة والفرقة الرابعة الشهيرة.
عمليًا، يرفض النظام السوري أن تكون أي عودة مشروطة بطلب الإعفاء من الخدمة العسكرية في الجيش السوري. واللافت أن الوزير شرف الدين يعتبر أن هذه المسألة شأن سوري داخلي، علمًا أنها من أبرز الهواجس التي تحول دون تحقيق أي عملية ترحيل وعودة. ويقول: "قصة الإعفاء من الخدمة العسكرية تعود للدولة، ونحن في زيارتنا سنطالب بتأجيل وقت الخدمة حتى نشجع السوريين على العودة".
وفيما لا يوجد أي معيار واضح ودقيق يمكن أن يحدد فيه لبنان -بالحالة السورية- الفروقات بين اللاجئ السياسي وغير السياسي، يشير شرف الدين إلى أن الحكومة لن ترحل اللاجئين السياسيين، و"لكن سنتعاون مع المفوضية لنقلهم إلى دولة ثالثة". إضافة إلى العمل على ترحيل السوريين المحكومين في السجون اللبنانية.
وسبق أن وعدت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتسليم الداتا الخاصة باللاجئين السوريين، ويقول الوزير إنها ستسلمها في وقت قريب، وطلبت أخيرًا رسالة رسمية من وزارة الخارجية لتسليم المعلومات المطلوبة.
ويضيف: "خلال مؤتمر بروكسل، طلب وزير الخارجية بتشكيل لجنة ثلاثية لبنانية سورية مع المفوضية، لمتابعة مجريات العودة ميدانيًا، وتشكيل لجان فرعية لهذه الغاية". لكن المفوضية رفضت هذا الطلب، خصوصًا أن العودة لا تخضع لرعاية أممية ودولية، ويضعها الوزير في إطار فرلمة العودة لأسباب سياسية بضغط من الدول المانحة.
رغبات الأسد والحدود
وقبل أيام، وضعت الحكومة في اجتماعها الوزاري "ورقة عمل لتنظيم إدارة ملف النازحين السوريين في لبنان". وجاء في هذه الورقة أن لدى الحكومة خطة عمل ثلاثية الأبعاد (رؤية قصيرة المدى، متوسطة المدى وبعيدة المدى)، عبر تقسيم اللاجئين السوريين إلى أربع فئات وهي:
الأولى: تشمل طالبي اللجوء السياسي بين عامي 2011 و2015.
الثانية: تشمل الوافدين السوريين بعد العام 2015.
الثالثة: تشمل الوافدين الذين يعبرون الحدود اللبنانية السورية ذهاباً وإياباً.
الرابعة: تشمل الوافدين الذين دخلوا الأراضي اللبنانية خلسة بعد 24 نيسان 2019. (وهو تاريخ صدور قرار مجلس الدفاع الأعلى، القاضي بترحيل السوريين الداخلين خلسة).
لكن في الفئتين الثالثة والرابعة، يغفل الجانب اللبناني عمدًا مسؤولية النظام السورية المشتركة مع الجانب اللبناني، حول الحدود التي تربط البلدان بأكثر من 120 معبرًا غير شرعي؛ حيث راكم الكثير من النافذين في السلطة وأحزابها وفي النظام السوري وجيشه، أرباحًا طائلة من شبكات التهريب التي استثمرت بحالة الانفلات الحدودي برًا.
ومنذ سنوات، تتولى شبكات اتجار غير شرعية بين لبنان وسوريا، تحظى بحماية أمنية وسياسية في المناطق الحدودية، تهريب السوريين بالاتجاهين، مثلما نشطت على مستوى تهريب البضائع التي بلغت ذروتها بعد انفجار الأزمة في لبنان في خريف 2019.
سياسيًا، يرى كثيرون أن النظام السوري يحصد مكاسب الانفتاح العربي عليه، وأن لبنان الرسمي يساعده عبر ملف اللجوء بتعزيز وضعيته التفاوضية مع العرب والمجتمع الدولي، ولتحقيق مكاسب استدراج المساعدات الأممية لكلا البلدين، على قاعدة أن سوريا آمنة وجاهزة لإعادة الإعمار واستقبال السوريين. مقابل أن لبنان الغارق في أزماته لم يعد يحتمل ثقل وكلفة الوجود السوري.
والسؤال الجوهري الذي يتجاهله لبنان الرسمي والقوى المطالبة بعودة السوريين: هل لدى النظام السوري رغبة فعلية بعودة اللاجئين بعد التحولات التي أصابت خريطة سوريا الديمغرافية؟
-----
المدن