في المقابل؛ وكما هو حال الأقليات المذهبية دائما، فإن الدفاع عن الوجود يقتضي دائما التركيز على نسف مقولات الغالبية. ولذلك انشغل الشيعة دائما باستهداف الصحابة الذين “سرقوا” برأيهم؛ حق الإمام علي بالخلافة، والاستدلال على ذلك بأحاديث “منتقاة” وقابلة للتأويل أو فيها نظر، من كتب السنّة، مع ترويج روايات بائسة تكرّس مشاعر الحقد والثأر، كحال ضرب عمر بن الخطاب للسيدة فاطمة وكسر ضلعها وإسقاط حملها، ثمّ استغلال قضية سياسية وصراع لا صلة له بأصل الدين، ممثلا في واقعة كربلاء المأساوية التي أثارت حزن كل المسلمين، وصارت ركنا للحشد المذهبي، بل تحوّلت إلى دين جعل الحسين يتفوّق في حضوره على النبي عليه الصلاة والسلام، إذ هو الذي من أجله “خلق الله الخلق”؛ كما في بعض رواياتهم.
هنا يجدر التأكيد على أن شيوع المذهب السنّي على مدى القرون لم يكن نابعا من شروط السياسة والتغلّب؛ كما يحلو لبعضهم القول، بل من تماسك روايته، وانسجامها مع العقل والمنطق، وروح الدين، ومعجزته الخالدة (القرآن الكريم).. طبعا بتفسيراته المنطقية، وليس الباطنية؛ هو الذي وصفه رب العزّة بأنه “كتاب مبين”، و”آيات بيّنات”.
في المقابل كانت الوراثة هي عنوان “التشيّع”، بجانب الحفاظ عليه بالطقوس الغريبة، وقصص المظلومية، والسبب أن الركن الأهمّ الذي قام عليه لم يكن متماسكا أبدا، وشهد جدالا عنيفا طوال القرون؛ أعني نظرية “الإمامة الإلهية” التي تتناقض مع روح الإسلام في تركيزه على الحرية والمدنية، وليس الطقوس الأقرب للوثنية وجعل الناس مراتب من أسياد إلى أتباع، والتي دخلت في مأزق لاحقا، فتمّ ترميمها بأسطورة الإمام الغائب.
من وفاة إسماعيل بن جعفر الصادق في حياة أبيه، والتي أنتجت طائفة الإسماعيلية، وتمّ تبريرها عند الاثني عشرية بنظرية “البداء”؛ أي تغيير الله عز وجل لرأيه! وتحويل الإمامة إلى أخيه موسى الكاظم، ومرورا بأخيه عبد الله الأفطح (الثاني بين أبناء جعفر الصادق)؛ والذي تمّ نسخه لاحقا من قائمة الأئمة الـ12، وصولا إلى عدم ولادة ابن للإمام العسكري (الـ11)، واختراع قصة الطفل الذي وُلد واختفى خوفا من العباسيين، وصار “الإمام الغائب”، وما زال غائبا منذ 12 قرنا (ويحتارون في تبرير استمرار غيبته).. كل ذلك يؤكد الأبعاد الأسطورية للركن الأهم للمذهب، والتي لا يمكن أن تقنع أيّ أحد لا يأخذه بالوراثة.
فاصل: (من شاء أن يعرف كيف تشكّلت المنظومة الشيعية برمّتها، فعليه بكتاب العراقي “أحمد الكاتب”: (تطوّر الفقه السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)، مع العلم أنه شيعي يؤمن بمذهب آل البيت (الجعفري)، ولكن من دون أسطورة الإمام الغائب (يستخدم التعبير دائما)، وهو ما زال حيّا، وجاهزا لمناظرة أيّ أحد في الأمر، وله فيديوهات بلا حصر في نسف النظرية، وينشر الجديد يوميا).
لقد سيطر الفاطميون على مصر لأكثر من قرنين، ولم ينجحوا في تشييع أهلها، وحدث ذلك في مناطق عديدة أخرى، وها إن سنّة إيران ذاتها دليل على عبثية مخاوف التشييع، وتأكيد على أننا أمام مذهب متماسك يعتمد على النصّ الأصلي العابر للزمان والمكان (القرآن الكريم)، وليس على حوادث سياسية جاءت بعد ذلك، ولا شأن لها بدين اكتمل قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
ما نريد الوصول إليه ليس إقناع شيعي بأن يصبح سنيّا، وإنما القول إن حديثنا عن “مشروع التمدّد المذهبي” لا ينطوي على خوف على مذهب الغالبية، وإنما هدفه التحذير من صراع جوهره السياسة والهيمنة بأبعاد مذهبية لا تخلو من أحلام قومية، وهو لون من الصراعات كان الأكثر قسوة وتدميرا عبر التاريخ.
هل يتخيّل عاقل أن سيطرة الحوثي بقوة السلاح الإيراني على اليمن، ستفضي إلى تشييع سنّته مثلا؟! كلا بكل تأكيد، بل إن ردة الفعل المناهضة صارت أكبر. ثمّ كمْ سنيّا تشيّع في لبنان، رغم سيطرة حزب الله العملية على الدولة، والإمكانات الهائلة التي يملكها، وهل تغيّر مذهب الغالبية في سوريا بعد عقود من هيمنة العلويين على السلطة؟!
سينطبق ذلك على أقليّات شيعية في دول سنيّة، لم تتسنّن، لأن تغيير العقائد لا يتمّ بالإكراه بشكل عام، وغالبا ما يؤخذ بالوراثة.
من العبث الحديث عن خطاب يمكن أن ينسخ من وعي السنّة جحافل من الصحابة الأبرار؛ يتصدّرهم رجلان (أبو بكر وعمر) تُكال لهما الاتهامات؛ وصولا إلى الشيطنة، وهما من انحازا لروح الدين، ونقلا الحُكم سلميا خارج أسرتيهما، وقدّما نماذج فريدة في الصدق والعدل والنزاهة والشجاعة؟! ومن ذا سينسخ بطلا كخالد بن الوليد، ما زال أيقونة في عالم دراسات الحرب إلى يومنا هذا؟! والقائمة طويلة طويلة.
إن مشروع التمدّد الذي نتحدث عنه هو مشروع سياسي، كحال مشاريع كثيرة في التاريخ لم تؤثر في عقائد أهل البلاد، وإذا اعتقد أصحابه أنهم سيشيّعون السنّة، فهم يطاردون الوهم، لأن ذلك لن يحدث، وما سيحدث عمليا هو صراع مدمّر للأمّة وحسب، ولن يفيد غير أعدائها، كما سينتهي إلى هزيمة لا شك فيها أبدا، لأن هذه أمّة لها تراث عريق في مقاومة المعتدين؛ أيا كانت هويّتهم.
يحدث بالطبع أن يتمّ استقطاب حفنة من الناس هنا أو هناك؛ بطرق معروفة، لكن ذلك لا يغيّر في الحقيقة شيئا، لأن هناك شيعة يتسنّنون أيضا. وعموما، فإن مذهب الغالبية، كان وما يزال الأقوى، ولن يهزّ عرشه أحد، حتى لو تراجعت كيانات السياسة الرسمية، بل إن جماهير الأمّة ستكون (في هذه الحالة) أكثر إصرارا على إنتاج مسارات تردّ الهجمة؛ تماما كما تصدّت لهجمات خارجية لا تُحصى خلال قرون طويلة.
من هنا نقول إن على قادة إيران أن يعيدوا النظر في مسارهم، ولا يورّطوا هذه المنطقة المُتعَبة؛ ومن ضمنها شعبهم مع أقليات شيعية يعتبرونها تابعة؛ في مسار مدمّر، بخاصة مع إصرارهم على اعتبار الأقليات بمثابة جاليات تابعة؛ تماما كحال “إسرائيل” التي تعتبر كل يهودي في العالم واحدا من رعاياها، مع فارق أن العالم يصمت على الأخيرة ويتقبّل منها ذلك.
لكن إصرارهم (قادة إيران) على ذلك لن يفضي إلى كسر الغالبية أو تغيير مذهبها. وإذا حدث تفوّق عابر، فإن استعادة العافية مؤكدة، مهما طال الصراع وكثرت المعاناة.
إن التعايش هو الحل، ولن يكون إلا بترك أحلام التمدّد والهيمنة، أما المذاهب والأديان، فلم تعد تُفرَض بسطوة السياسة أصلا، إذ أننا في زمن الفضاء المفتوح ومواقع التواصل، وبوسع كل أحد أن يستمع لمن يشاء، ويؤمن ويكفر بما يشاء، ويعبد ربّه كما يشاء.
نحن جميعا في حاجة إلى دول العدل والحرية المتحرّرة من الهيمنة الأجنبية (والكيان الصهيوني قاعدة لها)، وفيها يمكن للعقل أن يتحرّر ويقترب الناس من بعضهم، حتى لو اختاروا أفكارا متباينة، فنحن في زمن يختلف أحيانا فيه أبناء الأسرة الواحدة في الأفكار، بل إن حلم التقارب ليس بعيد المنال؛ إذا صدقت النوايا.
فليكن رأي الجماهير هو الحكم، وليس قوة البطش وسطوة السلاح، وهذا ينطبق على كل دولة، وفي الإطار الأوسع أيضا.
---------
الايام ميديا