.
وكان التوقيت نفسه قد حمل تسجيلين غير مسبوقين في حدة انتقادهما الأسد وزوجته "بل شتمهما"، لرجلين من الساحل اعتُقلا لاحقاً هما أحمد إبراهيم إسماعيل وأيمن فارس. في العموم، كانت الأخبار الآتية من الساحل تشير إلى تذمّر عام غير مسبوق، لا يُستبعد أن يؤدي إلى انتفاضة في نهاية المطاف. ومن المؤشرات على التخوف من هذا الانقلاب عودةُ بعض شبيحة الساحل إلى تأكيد ولائهم، بعدما كانوا قد سبقوا الآخرين ببث تسجيلات حملت انتقادات "جريئة"، وكأنهم بتراجعهم يقولون أن النقد من شؤون البيت الواحد الذي يتعاضد أبناؤه إزاء تهديدات الخارج.
في المحصّلة، خابت التوقعات من حدوث انتفاضة "علَوية"، أو "انتفاضة الساحل" بتعبير يتحاشى فجاجة التعبير السابق، بينما ينتفض الدروز، أما السُنّة فقد سبقوهم، مع احتسابهم بديهياً في موقع المعارضة، سواءً ثاروا أو صمتوا!
مشكلة التوصيف الأخير ليست في الطائفية التي يتعفف عنها البعض، وإنما هي في قلة إدراكه أدواته، وقلة المعرفة بالمسألة الطائفية نفسها. من ذلك أن لا يلقى الانتباه الكافي ما أشرنا إليه في حديث الناشط إذ يقول أن معظم رجال الدين العلويين الحاليين خدموا في أجهزة المخابرات، فسهولة اختراق الحيز الديني بهذه الفجاجة لها دلالة على عدم تجذّر المشيخة واستقلاليتها "ولو نسبياً" بحيث تقاوم تغوّل السلطة عليها، بدل أن تتوسل الأخيرة رضاها كما نرى في حالات أخرى.
على الضد من ذلك إلى حد كبير، فشل الأسدان "الأب والابن" في تطويع مشيخة العقل الدرزية كما يشتهيان، رغم أنها لم تنجُ تماماً من اختراقاتهما. لا يخلو من دلالة أن مشيخات العقل بمعظمها "إن لم تكن كلها" أعرق زمنياً من نصف قرن من حكم الأسدين، ما يجعل اعتدادها بمكانتها ودورها يتفوق على علاقة ظرفية بالسلطة. هذا الاعتداد البارز في خطابات الشيخ الهجري والشيخ الحناوي، وصولاً إلى أناس عاديين في ساحة الكرامة، مبعثُ معظمِه أن الطائفة حافظت على استقلاليتها وتماسكها رغم استهدافها في العديد من مفاصل التاريخ.
نحن لا نعرف اسماً لشيخ علَوي يضاهي اسم الشيخ الهجري، ولم نسمع بشيخ له هذه المكانة حتى قبل حكم البعث أو الأسد. هذا ليس تفصيلاً عابراً، ونضيف إليه أننا في الحقبة نفسها لم نشهد شيخاً سُنياً له مثل هذه المكانة التمثيلية الواسعة، على كثرة هؤلاء المشايخ في ركاب السلطة وفي معارضتها، وهذا الانقسام طاول الكبار منهم والصغار فقهياً، مع أرجحية إعلامية للذين في جهة السلطة الممسكة بوسائل الإعلام. أيضاً، سهولة اختراق السلطة مشايخَ السُنّة ليست بالتفصيل العابر، وانتهازية الذين قبِلوا بها لا تفسّر وحدها الأمر.
لعلنا نجد تفسير ذلك في أن العلويين غير منتظمين كطائفة، وكذلك هو حال السُنة وحال الإسماعيليين إلى حد كبير. لا يوجد لدى الأخيرين مطرانيات أو مشيخات هي بمثابة عنوان للطائفة، وقانون الأحوال الشخصية "بمرجعيته السُنية" هو المعمول به لدى المجموعات الأخيرة التي لم يكن أبناؤها يشهدون حضوراً لرجال الدين في حيواتهم الشخصية ما لم يبادروا إلى استحضارهم، والدراج أن ذلك مرتبط تقليدياً بمناسبات الوفيات أو إيفاء النذور، حيث لا يصحّ احتساب كل ما هو تقليدي على ما هو ديني.
هذا بالطبع ليس مديحاً لفئة دون أخرى، فالذين يفتقرون إلى انتظام طائفي بقوا ممنوعين رسمياً طوال حكم البعث والأسد من الانتظام في جماعات مدنية معاصرة وحرة، كالأحزاب والنقابات والجمعيات، شأنهم في ذلك شأن الطوائف المنتظمة. ولم يكن خطاب البعث "ثم الأسد" يخفي نية تحطيم المجتمع الذي انقلب عليه تحت شعارات القومية الاشتراكية، ليأتي استثمار الأسد في الطائفية ويظهر كأنه المحتوى "الباطني" لشعارات العروبة، أو هكذا سيُقرأ باستعجال.
من المعلوم أن الأسد الأب، في سعيه إلى احتكار السلطة والثروة والفضاء العام، كان بحاجة إلى تحطيم البنى الأهلية والاقتصادية والمدنية السابقة، وإقامة تحالفات مع ما يتعذر تحطيمه أو من المفيد الإبقاء عليه. في هذا السياق، كان لا بد أن يلحظ استثمار الأسد لدى العلويين أمرين؛ تحطيم الوجاهات العائلية القديمة، وتحطيم فئة المشايخ على ضعفها الذي يزداد ما لم تكن متصلة بالفئة الأولى. هذا يعني منع تحوّل العلويين إلى طائفة، بقدر ما يعني تحوّل جزء إلى طائفة سلطة، بالاستفادة الفعلية المباشرة من مزاياها، أو من وهم امتلاكها أحياناً.
بعبارة أخرى، هناك استثمار طائفي، عصبُه السلطة، ولا وجود له خارجها، بل هو كان دائماً على العكس تماماً من فكرة الطائفة، وذلك بالسعي إلى ربط الوجود بالسلطة فقط. هذه الوضعية منعت وتمنع بروز "حكمت الهجري" علوي، ففئة مشايخ المخابرات غير مؤهلة لتمثيل اجتماعي، ولا تحضر "ضمن المنظور" شخصيةٌ ذات تاريخ عائلي جامع وتمثيلي تقليدياً. هذا هو حال السُنّة أيضاً إلى حد كبير، وتكاثرُ تنظيمات الإسلام السياسي والعسكري "المختلفة والمتنازعة على احتكار التمثيل" في العشرية الأخيرة ينطوي على العجز عن التحول إلى طائفة، إذا لم نأخذ في الحسبان السُنة الذين بقوا على موالاتهم من فئة المشايخ ومن البقايا الاقتصادية والاجتماعية لـ"أعيان" ما قبل البعث. في الواقع، كان لدينا فائض من الطائفية مع عجز عن التحوّل إلى طوائف!
في الثورة على الأسد، وهذا ليس بجديد، نحن في مواجهة نتائج عملية تصحير مديدة للفضاء العام، ما يجعل الثورة بحاجة إلى سند لا تجده "للمفارقة" إلا في الروابط التقليدية. عطفاً على هذه المفارقة، كانت فكرة ثورة السويداء تبدو مستحيلة، إذ كان نشطاء السويداء ينظرون إليها كثورة مركَّبة، سياسية واجتماعية، ولا يندر في واقعنا أن تكون الثورة المركّبة ضرورية ومستحيلة في آن.
ما سبق كله لا يقفل الباب نهائياً على احتمال ظهور شخص ما في الساحل، ليكون بمثابة الشرارة المنتَظرة لإشعال انتفاضة. الدافع إلى الانتفاضة لا يقتصر على الفقر أو الجوع كما هو متداول، بل ثمة أيضاً حيّزٌ معتبرٌ لمن شعروا وسيشعرون بالإهانة مع تردي سلطة الأسد وابتذالها المتواصلين. هذه الإشارة ليست من ضرورات التفاؤل أو الحيطة من إطلاق الأحكام، بل هي نابعة من قناعة سورية عامة بأن الأسد سيتسبب في اندلاع الثورة في مكان ما، كلما ساعده الخارج والظروف على إخمادها في مكان اخر.
-----
المدن
وكان التوقيت نفسه قد حمل تسجيلين غير مسبوقين في حدة انتقادهما الأسد وزوجته "بل شتمهما"، لرجلين من الساحل اعتُقلا لاحقاً هما أحمد إبراهيم إسماعيل وأيمن فارس. في العموم، كانت الأخبار الآتية من الساحل تشير إلى تذمّر عام غير مسبوق، لا يُستبعد أن يؤدي إلى انتفاضة في نهاية المطاف. ومن المؤشرات على التخوف من هذا الانقلاب عودةُ بعض شبيحة الساحل إلى تأكيد ولائهم، بعدما كانوا قد سبقوا الآخرين ببث تسجيلات حملت انتقادات "جريئة"، وكأنهم بتراجعهم يقولون أن النقد من شؤون البيت الواحد الذي يتعاضد أبناؤه إزاء تهديدات الخارج.
في المحصّلة، خابت التوقعات من حدوث انتفاضة "علَوية"، أو "انتفاضة الساحل" بتعبير يتحاشى فجاجة التعبير السابق، بينما ينتفض الدروز، أما السُنّة فقد سبقوهم، مع احتسابهم بديهياً في موقع المعارضة، سواءً ثاروا أو صمتوا!
مشكلة التوصيف الأخير ليست في الطائفية التي يتعفف عنها البعض، وإنما هي في قلة إدراكه أدواته، وقلة المعرفة بالمسألة الطائفية نفسها. من ذلك أن لا يلقى الانتباه الكافي ما أشرنا إليه في حديث الناشط إذ يقول أن معظم رجال الدين العلويين الحاليين خدموا في أجهزة المخابرات، فسهولة اختراق الحيز الديني بهذه الفجاجة لها دلالة على عدم تجذّر المشيخة واستقلاليتها "ولو نسبياً" بحيث تقاوم تغوّل السلطة عليها، بدل أن تتوسل الأخيرة رضاها كما نرى في حالات أخرى.
على الضد من ذلك إلى حد كبير، فشل الأسدان "الأب والابن" في تطويع مشيخة العقل الدرزية كما يشتهيان، رغم أنها لم تنجُ تماماً من اختراقاتهما. لا يخلو من دلالة أن مشيخات العقل بمعظمها "إن لم تكن كلها" أعرق زمنياً من نصف قرن من حكم الأسدين، ما يجعل اعتدادها بمكانتها ودورها يتفوق على علاقة ظرفية بالسلطة. هذا الاعتداد البارز في خطابات الشيخ الهجري والشيخ الحناوي، وصولاً إلى أناس عاديين في ساحة الكرامة، مبعثُ معظمِه أن الطائفة حافظت على استقلاليتها وتماسكها رغم استهدافها في العديد من مفاصل التاريخ.
نحن لا نعرف اسماً لشيخ علَوي يضاهي اسم الشيخ الهجري، ولم نسمع بشيخ له هذه المكانة حتى قبل حكم البعث أو الأسد. هذا ليس تفصيلاً عابراً، ونضيف إليه أننا في الحقبة نفسها لم نشهد شيخاً سُنياً له مثل هذه المكانة التمثيلية الواسعة، على كثرة هؤلاء المشايخ في ركاب السلطة وفي معارضتها، وهذا الانقسام طاول الكبار منهم والصغار فقهياً، مع أرجحية إعلامية للذين في جهة السلطة الممسكة بوسائل الإعلام. أيضاً، سهولة اختراق السلطة مشايخَ السُنّة ليست بالتفصيل العابر، وانتهازية الذين قبِلوا بها لا تفسّر وحدها الأمر.
لعلنا نجد تفسير ذلك في أن العلويين غير منتظمين كطائفة، وكذلك هو حال السُنة وحال الإسماعيليين إلى حد كبير. لا يوجد لدى الأخيرين مطرانيات أو مشيخات هي بمثابة عنوان للطائفة، وقانون الأحوال الشخصية "بمرجعيته السُنية" هو المعمول به لدى المجموعات الأخيرة التي لم يكن أبناؤها يشهدون حضوراً لرجال الدين في حيواتهم الشخصية ما لم يبادروا إلى استحضارهم، والدراج أن ذلك مرتبط تقليدياً بمناسبات الوفيات أو إيفاء النذور، حيث لا يصحّ احتساب كل ما هو تقليدي على ما هو ديني.
هذا بالطبع ليس مديحاً لفئة دون أخرى، فالذين يفتقرون إلى انتظام طائفي بقوا ممنوعين رسمياً طوال حكم البعث والأسد من الانتظام في جماعات مدنية معاصرة وحرة، كالأحزاب والنقابات والجمعيات، شأنهم في ذلك شأن الطوائف المنتظمة. ولم يكن خطاب البعث "ثم الأسد" يخفي نية تحطيم المجتمع الذي انقلب عليه تحت شعارات القومية الاشتراكية، ليأتي استثمار الأسد في الطائفية ويظهر كأنه المحتوى "الباطني" لشعارات العروبة، أو هكذا سيُقرأ باستعجال.
من المعلوم أن الأسد الأب، في سعيه إلى احتكار السلطة والثروة والفضاء العام، كان بحاجة إلى تحطيم البنى الأهلية والاقتصادية والمدنية السابقة، وإقامة تحالفات مع ما يتعذر تحطيمه أو من المفيد الإبقاء عليه. في هذا السياق، كان لا بد أن يلحظ استثمار الأسد لدى العلويين أمرين؛ تحطيم الوجاهات العائلية القديمة، وتحطيم فئة المشايخ على ضعفها الذي يزداد ما لم تكن متصلة بالفئة الأولى. هذا يعني منع تحوّل العلويين إلى طائفة، بقدر ما يعني تحوّل جزء إلى طائفة سلطة، بالاستفادة الفعلية المباشرة من مزاياها، أو من وهم امتلاكها أحياناً.
بعبارة أخرى، هناك استثمار طائفي، عصبُه السلطة، ولا وجود له خارجها، بل هو كان دائماً على العكس تماماً من فكرة الطائفة، وذلك بالسعي إلى ربط الوجود بالسلطة فقط. هذه الوضعية منعت وتمنع بروز "حكمت الهجري" علوي، ففئة مشايخ المخابرات غير مؤهلة لتمثيل اجتماعي، ولا تحضر "ضمن المنظور" شخصيةٌ ذات تاريخ عائلي جامع وتمثيلي تقليدياً. هذا هو حال السُنّة أيضاً إلى حد كبير، وتكاثرُ تنظيمات الإسلام السياسي والعسكري "المختلفة والمتنازعة على احتكار التمثيل" في العشرية الأخيرة ينطوي على العجز عن التحول إلى طائفة، إذا لم نأخذ في الحسبان السُنة الذين بقوا على موالاتهم من فئة المشايخ ومن البقايا الاقتصادية والاجتماعية لـ"أعيان" ما قبل البعث. في الواقع، كان لدينا فائض من الطائفية مع عجز عن التحوّل إلى طوائف!
في الثورة على الأسد، وهذا ليس بجديد، نحن في مواجهة نتائج عملية تصحير مديدة للفضاء العام، ما يجعل الثورة بحاجة إلى سند لا تجده "للمفارقة" إلا في الروابط التقليدية. عطفاً على هذه المفارقة، كانت فكرة ثورة السويداء تبدو مستحيلة، إذ كان نشطاء السويداء ينظرون إليها كثورة مركَّبة، سياسية واجتماعية، ولا يندر في واقعنا أن تكون الثورة المركّبة ضرورية ومستحيلة في آن.
ما سبق كله لا يقفل الباب نهائياً على احتمال ظهور شخص ما في الساحل، ليكون بمثابة الشرارة المنتَظرة لإشعال انتفاضة. الدافع إلى الانتفاضة لا يقتصر على الفقر أو الجوع كما هو متداول، بل ثمة أيضاً حيّزٌ معتبرٌ لمن شعروا وسيشعرون بالإهانة مع تردي سلطة الأسد وابتذالها المتواصلين. هذه الإشارة ليست من ضرورات التفاؤل أو الحيطة من إطلاق الأحكام، بل هي نابعة من قناعة سورية عامة بأن الأسد سيتسبب في اندلاع الثورة في مكان ما، كلما ساعده الخارج والظروف على إخمادها في مكان اخر.
-----
المدن