الوقت ليل، والحرارة دون الصفر، ومصدر الإضاءة الوحيد هواتفنا النقالة التي قارب شحنها على الانتهاء. فبعد مضي نحو أسبوع على وقوع الزلزال، كانت مدينة أنطاكيا ومحيطها لا يزالان غارقين في ظلام دامس مع غروب الشمس. لم نلحظ سريعا ماهية الكيس الأسود أو ربما تعمدنا تجاهله وإشاحة النظر عنه تفاديا للإقرار بما عرفناه. إنه جثة ألقيت على طرف الرصيف، مقابل المبنى الذي وجدت فيه، تنتظر من يأتي ويتعرف عليها فيحملها الى مثوى أخير.
لم نلحظ سريعا ماهية الكيس الأسود أو ربما تعمدنا تجاهله وإشاحة النظر عنه تفاديا للإقرار بما عرفناه: إنه جثة ألقيت على طرف الرصيف
التعثّر بالجثث
ومع التقدم بالمسير في حي زبيدة هانم والأحياء المجاورة التي سويت بالأرض، رحنا نتفادى التعثر بالمزيد من الجثث. مع ساعات الصباح الأولى، بدأ مشهد الأكياس السود والرمادية الملقاة على جوانب الطرقات فرادى أو مجموعات، يزداد باضطراد بمحاذاة عائلات متحلّقة حول النار بانتظار أي خبر. كان الأمل بإيجاد أحياء قد تضاءل أو انتفى وانصبت الجهود على انتشال الأموات في تجاور غريب للحياة والموت حدّ التماس والالتحام. فهنا لم يعد للأحياء مساكن ولا للأموات مقابر، بل مجرد انتظار وصمت.
ولعلّ العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة قبل الزلزال بيوم أو اثنين وجاءت كاللعنة على من نجوا وباتوا لياليهم في العراء، ساهمت إلى حد ما في حفظ جثث من قضوا تحت الأنقاض لخمسة أيام أو أكثر كما حمت المدينة نسبيا من كارثة انتشار القوارض والأوبئة في وقت خرجت فيه غالبية المستشفيات وبرادات حفظ الموتى فيها عن الخدمة….
 
معضلة مزدوجة
ومع استخراج العدد الهائل من الضحايا، ظهرت معضلة مزدوجة. فمن جهة امتلأت المدافن الرسمية سريعا منذ اليومين الأولين للكارثة على رغم توسعتها، ومن جهة أخرى ليس من يتعرف على الجثامين المستخرجة حديثا ويطالب بها لإصدار شهادات وفاة.
معضلة إضافية وقد تبدو في هذا السياق رفاهية، تمثلت في إيجاد الأكفان. فالمحال التي تبيع لوازم الدفن في المدن القريبة استنفدت مخزونها من الأقمشة وانتشرت على مجموعات التواصل الاجتماعي المناشدات للتبرع بها لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
سيارات الجنازات التابعة للبلديات لا تستطيع بدورها الوصول إلى كافة أحياء المدينة لانسداد الطرقات بالركام والأنقاض، فاصطفت على مداخل الأزقة تنتظر وصول الجثامين إليها كيفما تيسّر لنقلها فوق بعضها البعض إلى مدافن ارتجلت على عجل في الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة. أراض، تعود ملكيتها إما للبلديات وإما لمزارعين تبرعوا بها لهذه الغاية.
جاءت العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة قبل الزلزال بيوم أو اثنين كاللعنة على من نجوا وباتوا لياليهم في العراء، لكنها ساهمت إلى حد ما في حفظ جثث من قضوا تحت الأنقاض
أعواد خشبية مرقّمة
على الطريق المؤدّي إلى بلدة الريحانية (40 كلم شرقي أنطاكيا)، في سهل نارليجا انهمك حفارو القبور بالعمل إلى جانب الآليات الثقيلة لتجهيز المدفن مع ساعات الصباح الأولى. حفرت أثلام طولية بعمق نحو مترين ألقيت فيها الجثامين، لا يميزها عن بعضها البعض إلا شواهد من أعواد خشبية مرقمة انتزعت من الأنقاض أو من ورش الأخشاب وصناديق الفاكهة وكدست جانبا. فرق الطب الشرعي عملت على جمع أدلة من كل جثة، وعينات من الحمض النووي لإكانية الاستدلال على صاحبها أو صاحبتها، في حين لم تتضح لنا آلية لتسجيل الوفاة أو الدفن ولم يكن قد أعلن بعد عن آلية للمطالبة لاحقا كما لم يكن ممكنا التحدث إلى عناصر الشرطة والأمن الموجودين في المكان
  
الطريق الأسفلتي المرتفع والذي يطل على السهل ازدحم بسيارات الإسعاف وسيارات الجنازات وسيارات الأفراد المحملة أيضا بجثث تبحث عن مثوى ولو مؤقت. طلب أحدهم مساعدتنا فاعتذر محمد بلباقة قبل أن يعرف ماهية الطلب: “لا أقوى على نقل المزيد من الجثث بالسيارة، لن أفعل ذلك مرة أخرى. في الأيام الأولى نقلت ما يكفي”.
على رغم الازدحام الشديد إلا أن الصمت رهيب. وقف بعض الفضوليين يراقبون حيث وقفنا واسترقنا صورة بعيدا من أعين الشرطة التي منعت التصوير. الجموع تدخن بشراهة. البعض بكى والبعض الآخر تمتم صلاة. علمنا فيما بعد عن مقابر أخرى زارها رجال دين لإحياء الشعائر الدينية قبل الدفن. أما حيث كنا، فـ “لم يصلّ عليهم أحد”، مثلما يشير عنوان إحدى روايات الكاتب السوري خالد خليفة
----------.
 مجلة المجلة