لكنّها واحدةٌ من التي خلّدها التاريخ بسبب تسجيلها من أشخاصٍ كانوا يتابعون المشهد لحظة وقوعه، وساهم في انتشارها تركيز القنوات الإعلامية العربية عليها، وخصوصا قناة الجزيرة. هذه المشهديّة التي تختزل غضب سنين طوال، وهذه الرمزيّة التي أخذتها الصرخة بعد أن تردّد صداها في مصر وليبيا واليمن وسورية، ولاحقًا في العراق ولبنان والسودان، هذا كله وغيره أيضًا غير قابل للنكران، ولا للزوال، بل هو إرثٌ ينتقل مع الأجيال ليبقى شاهدًا على عظمة الصرخة الحرّة إذ تزلزل عروش الطغاة.
أين بات التونسيّون الآن بعد 12 عامًا من صرخة العويني؟ لماذا لا نرى حشودهم في شوارع تونس وساحاتها بمواجهة الرئيس قيس سعيّد، كما كانت من قبلُ بمواجهة زين العابدين بن علي؟ ماذا اختلف في عمق القناعة الشعبية خلال هذا الزمن الممتد؟ الحقيقة أنّ الإجابة عن هذا السؤال ستقود، كما العادة، إلى مقاربةٍ تسرد تطوّر الصراع السياسي بين القوى التي حرّكت الثورة وتلك التي ساهمت فيها، بالإضافة إلى غيرها ممن استفاد منها ووصل إلى سدّة الحكم على إثرها، وتداخله مع الأوضاع الاقتصاديّة وعدم تحقيق الثورة بشعاراتها البرّاقة جزءًا من المأمول في تحسين الأوضاع المعيشية للناس العاديين، سواءٌ من الذين شاركوا بالثورة أم الذين وقفوا على الحياد أم من الذين حاربوها. وهذا وحدَه لا يفسّر حالة الانكفاء الراهنة عن المشاركة الشعبية الموجبة (عكس سالبة كي لا نطلق حكم قيمة باستخدام عبارة إيجابية مقابل سلبية)، فصحيحٌ أنّه "لا يُنسب إلى ساكتٍ قول، لكنّ السكوت في معرض الحاجة بيان"، والامتناع عن المشاركة في التصويت ضمن الانتخابات البرلمانية التي جرت بين ديسمبر/ كانون الأول 2022 وديسمبر/ كانون الأول 2023، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركين في الدورتين 11% من عدد الناخبين المسجّلين، وهو أدنى مستوى مشاركة على صعيد العالم وليس تونس فقط، هو بيانٌ من التونسيين رجالهم ونسائهم، وإنْ في معرض السكوت عن البيان.
ليس صحيحًا أن التونسيين لم يدركوا، في غالبيتهم، طبيعة الانقلاب الذي قاده قيس سعيّد
تتبدّل وسائل الاحتجاج باستمرار، وليس صحيحًا أنّ التظاهرات والاعتصامات في الشوارع والساحات هي الأساليب الوحيدة لذلك، لكنّها قد تكون الأكثر مباشرةً ووضوحًا وتعبيرًا عن المكنون. ثمّة وسائل كثيرة يعبّر بها الناس عن غضبهم، ومنها مثلًا تركُ السلطة تقضُمُ السياسيين الذين أخلفوا وعودهم. مصر وتونس أقرب مثالين عربيين نراهما أمامنا بتتالٍ زمني، وتقارب في المآل، مع اختلاف في الظروف والخلفيات. لقد شعر المصريّون بالخديعة عندما لم يلتزم الإخوان المسلمون بما أطلقوه هم أنفسهم من وعودٍ قبل استلامهم السلطة. لذلك انقسم الشارع المصري قبل الانقلاب وبعده، وبغضّ النظر عن المسؤولية المباشرة للانقلاب عن هدم أسس الديمقراطيّة الهشّة التي ما كادت تستقرّ في مصر، إلا أنّ القاعدة الشعبية كانت الأكثر تأثيرًا في معاقبة "الإخوان"، لأنها ببساطة وقفت تتفرّج على مأساتهم الرهيبة والتنكيل غير المحقّ بهم أبدًا، بعد أن فقدت الثقة بهم، وهذا هو الحال في تونس.
ليس صحيحًا أن التونسيين لم يدركوا، في غالبيتهم، طبيعة الانقلاب الذي قاده قيس سعيّد، فهم أكثرُ تقدّمًا من الاتحاد العام للشغل وبعض الأحزاب السياسية في القبض على الفكرة وإدراكها، لكنّهم أرادوا تلقين السياسيين الذي عملوا بطريقة بهلوانات السيرك دروسًا لن ينسوها مستقبلًا، ولذلك تركوهم لآلة القمع المتدرّجة تطحنهم واحدًا تلو الآخر، أفرادًا وأحزابًا وتياراتٍ ونقاباتٍ واتحاداتٍ وغيرها. إنّه عقابٌ من نوع خاص، إذ يُدركُ الناس بالضرورة أنّهم يعاقبون أنفسهم من خلاله أيضًا، هو جلدٌ للذات الجمعية التي خذلت نفسها بعدم اختيار الممثلين المناسبين، مثلما خذلتها النخبُ السياسية التي أخذت فرصَتها، لكنها أضاعتها بمهاتراتٍ سياسية حينًا، وبالسعي وراء مكاسب شخصية أحيانًا أخرى، وبقضايا أبعدُ ما تكون عن هموم الناس الذين انتخبوها وسلّموها مقاليد السلطة في بقيّة الأحيان.
تلعب سلطات الحكم في كل التاريخ البشري على عامل الخوف من الفوضى
مع ذلك، لم تكن الحركة الشعبيّة وحدها من خلال التظاهرات والاعتصامات السبب الوحيد في هروب بن علي آنذاك، بل مجمل الظروف التي كانت سائدة، ومن أهمّها عدم وجود طموحٍ سياسي لدى الجيش التونسي مؤسسةً، أو لدى قادته أفرادا، كذلك بُعْدُ تونس الجغرافي عن فلسطين، وبالتالي عدم تهديدها أمن إسرائيل مباشرة، والمناخ الدولي الذي ساعد على ذلك في عزّ نشوته بالطريقة الأوبامية المحتفية بالديمقراطية عالميًا، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، منها عدم انقسام المجتمع التونسي لا قوميًا ولا دينيًا ولا طائفيًا ولا قبليًّا مثل سورية واليمن وليبيا. يعطي هذا للتحليل بعض الموضوعية ويبعده عن خانة تقديس الشعوب التي راجت أيضًا في تلك المرحلة.
وهناك أيضًا عامل الخوف من الفوضى، وهو ما تلعب عليه سلطات الحكم في كل التاريخ البشري، فالناس عمومًا يفضلون الأمان والاستقرار باعتبارهما من المحسوسات الماديّة، على الحرية مثلًا باعتبارها من القضايا المثالية غير المحسوسة بشكل مباشر، طبعًا باستثناء حالات خاصّة كالتي شرح بها عبد الناصر العويني ما مرّ به لحظة نُطقه بالكلمات المذكورة أعلاه حينما قال: "لم أتمالك نفسي، نزلتُ مسرعًا وبشكلٍ تلقائيٍ لشارع الحبيب بورقيبة للاحتفال برحيل بن علي، في المكان نفسه الذي تظاهر الناس ضدّهُ فيه، لم أفكّر في أي شيء سوى الشهداء الذين سقطوا، وبرحيله عاد حقُهم، وظللْتُ أهتفُ وحيدًا هناك 40 دقيقة على أمل أن ينضّم متظاهرون آخرون، لكن لم يأتِ أحد". هذا هو ما يركّز عليه سعيّد في تونس وعبد الفتاح السيسي في مصر حاليا، خوف الناس من الفوضى، فيعيدون نسج شباك الديكتاتورية من جديد، يكرّسون الرعب من المجهول، وفي الوقت نفسه، يستفردون بمن يقاومهم. لكنّهم لم يدركوا على ما يبدو أنّ ما بعد 2011 ليس كما قبله، وإنّ عودة الاستبداد أشدّ وأنكى بعد هزيمة الثورات، تقابله أيضًا عودة أشدّ وأقوى لمقاومة الديكتاتورية، لكنّ الشعوب تحتاج فرصة كي تؤدّب السياسيين، ثم ستقوم مجدّدًا كطائر الفينيق من تحت الرماد، وهذا هو التاريخ.
--------
العربي الجديد