منذ قمة بيروت في 2002 التي صدرت عنها المبادرة العربية للسلام (بغض النظر عن الاتفاق معها أو الاختلاف) لم تتخذ أيّ قمة عربية موقفا سياسيا محترما أو قرارا استراتيجيا علق في ذاكرة العرب. لا في اتجاه ثوري ولا في اتجاه «انبطاحي».
لقد تحوّلت القمم شيئا فشيئا إلى مجرد نادٍ موسمي يلتقي فيها القادة لتبادل الأخبار والتحايا. وللرأي العام العربي أصبحت فرصة للاستمتاع بقفشات القذافي من هنا أو حسني مبارك من هناك. ومع مرور السنوات وتتالي القمم وتشابهها فقدَ الحدث بريقه وتراجع أمل العرب، قادة وشعوبا، في أن تأتي أيّ قمة بجديد. ثم اختفت القفشات باختفاء أصحابها فأصبحت القمم عديمة اللون والرائحة.
وعلى الرغم من ذلك لا أذكر خلال العقدين الماضيين قمة واحدة لم يُقل عنها إنها هامة وتُعقد في سياق استثنائي. ولم توصف قمة واحدة بالفاشلة على الرغم من أنها جميعا فاشلة من حيث المضمون ومن حيث نوعية المشاركة وحجمها، إذ لم يحدث أن التقى جميع القادة العرب في قمة واحدة تحت سقف واحد منذ أكثر من ثلاثين سنة. لقد كان لكل قمة نصيبها من الخلافات الثنائية بين العرب، وظروفها الإقليمية التي تُعمِّق الانقسامات وتجعل الحديث عن النجاح نكتة. وكان لكل قمة غائبون عنها لأسبابهم الشخصية أو الموضوعية.
منذ الاحتلال العراقي للكويت وتقسيمه الصف العربي المشتت أصلا بشكل غير مسبوق، إلى اليوم، عُقدت القمم العربية في سياقين: الاحتلال الأمريكي للعراق وأحداث الربيع العربي.
وقد أسهمت كل مرحلة من المرحلتين في تراجع القمم العربية من حيث الأهمية والتأثير، وذلك بسبب وجود دول عربية لعبت أدوارا رئيسية في أحداث كلٍّ من المرحلتين، وأخرى مستاءة من تلك الأدوار. الاحتلال الأمريكي للعراق صنيعة عربية فما كان له أن يتحقق لولا تحريض عربي خطير، وأحداث الربيع العربي كانت فعلا عربيا نادت به الشعوب وتبنّته دول عربية فما كان ليحدث لولا دعمها واحتضانها له.
ولأن المرحلتين قسّمتا القادة العرب بوجود مؤيدين ومعارضين في الحالتين، كان منتظرا أن تتأثر القمم وتتراجع إلى درجة أن أصبح مجرد التئامها نجاحا في حد ذاته.
لا تخرج قمة جدَّة المنعقدة يوم الجمعة عن هذا السياق.. سياق الخلافات القديمة المُطعَّمة بأخرى أملتها الظروف الجديدة. من هذه المستجدات أن قمم العقد الماضي، أو بعضها على الأقل، كانت تلتئم في أجواء من الثورة الشعبية على الحكام، بينما تنعقد قمم العقد الحالي على أنقاض تلك الثورات المتمثلة في بلدان محترقة وأخرى مرشحة للحريق.
من المستجدات أيضا أن القمم العربية «الجديدة» تنعقد ومركز الثقل العربي قد انتقل في السنوات الماضية من الدول الكبرى جغرافيا وديمغرافيا، إلى أخرى في الخليج أقل حجما لكنها أكثر ثراءً وقدرة على التأثير وطموحها جامح يتجاوز هموم المنطقة العربية وحساباتها. وكان لهذا الانتقال تبعات أبرزها اضمحلال الجامعة العربية أكثر وأكثر، وبسط عواصم خليجية هيمنتها على الأمانة العامة للجامعة وسط خنوع الأخيرة وصمت الأعضاء الآخرين.
لم تأت قمة جدَّة بجديد باتجاه حل مشاكل العرب وتخفيف مآسيهم وأزماتهم. ولا تحمل في طياتها أيّ اختلاف عن القمم الماضية مهما مُجَّد فيها. واهمٌ مَن يعتقد أن القمة استثنائية لمجرد أن بشار الأسد حضرها، أو لأنها استضافت زيلنسكي.
لكن مَن أراد أن يراها أمَّ القمم يستطيع ذلك، ومَن أراد أن يراها أتعس القمم فله ذلك أيضا وسيجد لنفسه ما يكفي من مسوغات. في حقيقة الأمر لا هي ناجحة ولا هي فاشلة ولا هي استثنائية. هي مجرد نسخة أخرى لها ظروفها الخاصة، لكن تنطبق عليها مقولة Déjà-vu التي تُستعمل في علم النفس البشري.
كان هناك فقط لعب على الشكل بمتناقضات على رأسها حضور الأسد وزيلنسكي، وملابسات دعوة الأخير لحضور القمة دون موافقة الأعضاء الآخرين، بل ليس واضحا هل استشارت السعودية الأمانة العامة للجامعة في هذه الاستضافة (صحف عالمية نقلت عن مصادر دبلوماسية عربية أن بعض الأعضاء اعترضوا لكنهم لم يستطيعوا منع الأمر الواقع). وحدث أن غطى حضور زيلنكسي على الأسد وحرمه من الحفلة التي كان يأمل أن تُخصص لعودته.
المشكلة المزمنة للقمم العربية، سابقا ولاحقا، تكمن في غياب الجدية وانعدام الثقة فيها من منظميها والمشاركين قبل غيرهم. وهذا ترتَّب عنه أن أغلب المشاركين يحضرون رفعا للعتب أو لإرسال رسائل معيّنة لا صلة لها بمستقبل الشعوب وطموحاتها.
-----------
القدس العربي
كاتب صحافي جزائري