وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لا يُبدي السوريون أي مظهرٍ للهلع أو الخشية الجدّية من أن تنجر سوريا إلى حرب شاملة على وقعِ تطورات الهجمة الإسرائيلية الشرسة على غزة. أو أن تتفاقم المناوشات “الإيرانية – الأمريكية” في شرق البلاد، بحيث تتجاوز السقوف المعتادة على مدار سنوات. ولا يمكن رصد أي علامات لتخزين مواد غذائية أو أدوية، أو أي خضات نوعية في النشاط الاقتصادي، توحي بذلك. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار الآثار الواضحة لهذه الحرب، على الاقتصاد السوري، وإن كانت محدودة، حتى الآن.
قبل أيام، نشرت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام تقريراً طغت على مقدمته نبرة اتهامية للتجار، بوصفهم يبحثون عن أية ذريعة لرفع الأسعار، وها قد استجدت لديهم ذريعة جديدة. إنها الحرب في غزة، والتوترات المرافقة لها في الإقليم. والتي تسببت بارتفاع أسعار معظم السلع في الأسواق السورية. ونقلت الصحيفة عن عضو في لجنة مصدّري الخضار والفاكهة بدمشق، نفيه لأي أثر للحرب أو التوتر الأمني على الأسعار. لكن ارتفاعات الأسعار لم تنحصر بالخضار والفواكه، بل طاولت أيضاً اللحوم، خاصة الدجاج. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل من المعقول مطالبة التاجر بعدم التحوّط في وضع ضبابي مفتوح على احتمالات عديدة؟ هل رفض هذا التحوّط، ينسجم مع منطق الاقتصاد، ومنطق الربح والخسارة، الذي يحكم عقل التاجر؟
في إعلام النظام، وخطاب مسؤوليه، يسود الانفصال عن الواقع، كالعادة. أكثر ما يتضح ذلك، في نفي وزير السياحة بحكومة النظام، قبل أسبوع، أن يكون الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمطارَي دمشق وحلب، قد أثّر في الوضع السياحي والقدوم إلى سوريا، بذريعة أنه تم تأمين البدائل بشكل فوري، إما عن طريق مطار اللاذقية، أو عبر المعابر البرية. تصريحات وزير السياحة تلك، جاءت بعد يوم واحد فقط من إعلان “منظمة الحج والعمرة” الإيرانية، تعليق “رحلات زوار المراقد” إلى سوريا، حتى إشعار آخر، جراء الاضطرابات الناجمة عن الحرب في غزة. ورغم إنكار النظام، فإن السياحة “الدينية” المتأتية من الزوّار الشيعة القادمين من إيران والعراق ولبنان، توفّر أكبر مصدر دخل متأتي من السياحة الخارجية إلى سوريا. ووفق أرقام وزارة السياحة، فقد زار البلاد في النصف الأول من العام الجاري، 96 ألف زائر ل”المواقع المقدّسة”.
لكن انعكاسات الحرب في غزة على الاقتصاد السوري، لا تقف عند “السياحة الدينية”. بل تتعداها إلى أثر ارتفاع السعر العالمي للنفط، على أسعار المحروقات في البلاد، والتي أصبحت معوّمة، أو شبه معوّمة. إذ من المرتقب أن ترفع وزارة التجارة الداخلية أسعار البنزين والمازوت والفيول والغاز، على وقع ارتفاع السعر العالمي للنفط، في نشرة الأسعار القادمة، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر. وهو ما سيعطي دفعة جديدة للأسعار النهائية للسلع والبضائع في الأسواق.
أما أبرز أثر للحرب على الاقتصاد السوري، فيتمثّل في سعر الصرف. إذ تراجعت الليرة بنسبة 7% خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة. لكنها لم تتجاوز سقوفاً غير مسبوقة، وبقيت ضمن هامش سبق أن وصلته قبيل الحرب، مما يؤشر إلى محدودية الأثر، حتى الآن. لكنه أثرٌ يمكن قياسه. وله انعكاساته على أسعار السلع والبضائع في الأسواق، أيضاً.
وبناء على ما سبق، فإن خطاب النظام القائم على تجاهل الآثار النفسية للحرب والتوتر الأمني الإقليمي، على معيشة السوريين، بل وإدانتها، واعتبارها، جشع تجار لا أكثر، تبدو انفصالاً غير مسؤول عن الواقع. وبدلاً من ذلك، على السلطات المعنية في البلاد، اعتماد تدابير طوارئ للاحتياط من احتمال خروج الصراع في المنطقة -بل وعلى التراب السوري ذاته- عن السيطرة. ويجب الإعداد لكل السيناريوهات، حتى أسوأها، وأقلها احتمالاً. لذا يجب توفير مخزون من الأدوية والأغذية والمحروقات، استعداداً لذلك. والعمل على تجهيز المرافق العامة لهذا الاحتمال أيضاً. ونحن هنا لا ندعو للهلع، أو لاندفاع الناس لتخزين السلع، ونرجّح ألا تنخرط سوريا بأي صراع يتجاوز السقوف المعتادة، لكننا في الوقت نفسه، نتفهم دوافع التجار للتحوّط، ونقول إن هذا المنطق الاقتصادي السليم، يجب أن ينعكس على أداء السلطات المعنية، بدلاً من إدانته.
المدن