غير أن فصول الأزمة لا تنتهي هنا، ولا تتوقف عند جهود إنقاذ الناس من تحت الركام، ولا عند جهود حمايتهم من البرد وتأمينهم بالمسكن والغذاء والعلاج، إنّها أزمة تدوم تداعياتها شهوراً طوالاً في الحالات العاديّة، لكنّها في مثل حالة سوريا قد تمتدّ لسنين، أو ربما لعقود.
في ظلّ أجواء الفشل المستمرة هذه لابد من التفكير بشكل خلّاق من خارج الدوائر المعتادة. تستدعي الاحتياجات الإنسانيّة بحدودها الدنيا، مثل توفير الأمان وسبل العيش والسكن والتعليم والصحّة، وجود إدارة أو تنظيم من نوع ما، وهذا يمكن توفيره بالحدّ الأدنى حتى مع غياب هياكل ومؤسسات الدولة، وتستطيع قوى الأمر الواقع أن تقوم به بكفاءة تتراوح بين حد الكفاف وحد الجودة. لكنّ الحال في سوريا أصبح خارج قدرات سلطات الأمر الواقع كلها، سواء سلطات النظام أم غيرها.
منطقة شمال شرقي سوريا بوصفها الأكثر تميّزاً عن غيرها من المناطق السورية، لما يتوفر فيها من موارد وحماية ودعم وخبرات، مازالت تعتمد بشكل كبير على التحالف الدولي وعلى الولايات المتحدة بتأمين الحماية، كما أنها تعتمد بشكل كبير أيضاً على توظيف السكان المحليين في جهاز إدارتها، أي أنّها تعتمد من حيث تدري أو لا تدري على مواردها المتاحة محلياً وخارجياً لسدّ الحاجة الاقتصادية لشرائح واسعة، وهذا واحد من أشكال البطالة المقنّعة.
أمّا منطقة الشمال الغربي؛ فتعتمد بشكل كبير أيضاً على المساعدات من المجتمع الدولي في مجالات عديدة، وكذلك على الحماية التركية العسكرية والسياسية وعلى التوافقات الدولية. مناطق النظام ليست أفضل حالاً، فهي تعتمد سياسياً على الحليف الروسي الذي يمنع انهيار السلطة، وتعتمد عسكرياً على الدعم الإيراني والروسي، كما تُرغم المجتمعات المحلية على الاعتماد على ذاتها في تأمين كفافها من مستلزمات الحياة، وهذه المجتمعات تقوم بذلك مجبرةً، بعد أن أفقدت الحربُ والنهبُ المستمر والفسادُ المستشري الدولة مواردها، وأُفرغت الخزينة وجيوب معظم السوريين.
يستدعي هذا كلّه التفكير بشكل جديد للحل، يفضي إلى ابتداع طريق ثالث يتجاوز سلوك النظام والمعارضة معاً ومصالحهما، ويبني آليات جديدة للتفكير والمقاربة والعمل. وهذا الطريق يحتاج إلى توليفة من التقاطعات التي تصبّ بمصلحة السوريين أصحاب الأرض بالدرجة الأولى، والأتراك الراغبين بالخلاص من المشكلة السورية برمّتها وإغلاق هذا الملف الشائك نهائياً بالدرجة الثانية، ويريح المحيط العربي الذي بات يرى في استدامة الأزمة السورية خطراً محدقاً يهدد أمنه القومي بالدرجة الثالثة، والمجتمع الدولي الذي سئم الأزمة السورية برمتها وبات لديه أولويات أخرى أكثر تقدماً على جدول أعماله بالدرجة الرابعة. لكنّ ابتداع طريق جديد يبدو أمراً عسيراً ومليئاً بالعوائق، ليس أولها القبول السياسي من الفواعل الدولية وليس آخرها التمويل اللازم، وما بينهما معارضة الروس والإيرانيين لهذا الحل.
مع ذلك، يبقى أن نبحث عن أصحاب المصلحة من المجتمع الدولي في هذا الطريق، وهم بالتأكيد كثر إن فصّلنا في احتياجاتهم وظروفهم الداخلية وأمنهم القومي. لكن أولاً علينا طرح فكرة هذا الطريق وإخراجها للعلن، رغم الخشية من التُهم الجاهزة المعلّبة:
تقوم الفكرة على ما سبق وتمّ طرحه بين النظام والأتراك برعاية أو بضغط روسيّ، أي بناء مناطق قادرة على استيعاب عدّة ملايين من السوريين، وتأمين فرص العيش الكريم لهم. لكن هذه المرّة بمبادرة عربية وغربية، بحيث تقدّم الولايات المتحدّة الدعم السياسي وتضمن الحماية وتساهم بالتمويل، وتقدّم الدول العربية المال اللازم على شكل منحٍ وهباتٍ وقروض استثمارية، ويشارك الاتحاد الأوروبي بالتمويل والإشراف والرقابة. العرب سيكون من مصلحتهم عدم تهجير السوريين من بلدهم، ومنع المخطط الإيراني الرامي لإفراغ سوريا من أهلها وتغييرها ديمغرافياً، وهذا يشكّل جدار صدّ بالغ الأهمية للأمن القومي العربي مستقبلًا. كما سيكون من مصلحة الأوروبيين الخلاص من تهديد التطرّف اليميني المرتبط بشكل لا بأس به بملف اللجوء، وهكذا يمكن نزع أحد الأسلحة الروسية ضدّ المجتمعات الغربية. أمّا الأميركيون فستكون هذه العملية عنصر توازن يبقيها صاحبة اليد العليا في الملف، خاصّة إذا ما تمّ دمج الشمَالين بمنطقة واحدة.
تبقى معضلة التغيير الديمغرافي المحتمل، إذا ما استطال أمد هذا الحل المؤقت قبل حصول انتقال سياسي شامل في سوريا، باعتبارها قد تتعارض مع القرارات الدولية التي تنصّ على أن تكون العودة آمنة وطوعية وتربطها بالحل السياسي، خاصّة وأن كتل سكانية وازنة من السوريين في الشمال تخشى ذلك لأسباب جديرة بالاعتبار، مثل سكان عفرين وغيرها من المدن والقرى المختلطة إثنياً/قومياً. ولا بدّ من اتخاذ الإجراءات القانونية الكفيلة بعودة سكّان هذه المدن إلى مناطقهم التي هجّروا منها أساساً، وعودة سكان المدن والقرى العربية والكردية التي تأثرت بالصراع المسلح إلى مدنهم وقراهم في الشمال. وقبل ذلك، لابد من أخذ موافقة مسبقة من أهالي المناطق التي سيتمّ بناؤها، وضمان عدم حصول تجاوزات على حقوقهم أو ملكياتهم. ثم تأمين أشكال من التمثيل السياسي لهؤلاء السكان الجدد، وتأمين أسباب الاستمرار الاقتصادي بالتشارك مع المجتمعات المحليّة لا بالتنافس والتضاد مع مصالحها. وربما ينبغي وضع هذه المنطقة تحت شكل من أشكال الإدارة الدولية المشتركة كي يتمّ ضمان عدم سيطرة دولة ما عليها، بحيث تأخذ مع الوقت فرصتها لإنتاج إدارتها الخاصّة من بين أهلها، وبحيث تشكّل مستقبلاً أنموذجاً لبقيّة المناطق السورية، وبحيث تكون قابلة لإعادة الدمج مع بقية التراب السوري المقسّم الآن.
لقد أثبتت المجتمعات المحلّية السورية قدراً كبيراً من المسؤولية والتضامن وقت الأزمات، وهي بكل تأكيد قادرة على إنجاح هذه الفكرة، أو سواها من أفكار، في حال توفّرت العناصر السابقة المحكي عنها وغيرها.
يبقى طرح المشاريع، رغم صعوبة الأوضاع، في الفضاء العمومي السوري، ومناقشتها مع الأطراف الفاعلة داخلياً وخارجياً، علّها تجد طريقه للتنفيذ. وكل ذلك بشرط التأكّد من عدم وضع البلد تحت الوصاية مجدداً، رغم أنها تحته فعلياً.
----------
نورث برس
في ظلّ أجواء الفشل المستمرة هذه لابد من التفكير بشكل خلّاق من خارج الدوائر المعتادة. تستدعي الاحتياجات الإنسانيّة بحدودها الدنيا، مثل توفير الأمان وسبل العيش والسكن والتعليم والصحّة، وجود إدارة أو تنظيم من نوع ما، وهذا يمكن توفيره بالحدّ الأدنى حتى مع غياب هياكل ومؤسسات الدولة، وتستطيع قوى الأمر الواقع أن تقوم به بكفاءة تتراوح بين حد الكفاف وحد الجودة. لكنّ الحال في سوريا أصبح خارج قدرات سلطات الأمر الواقع كلها، سواء سلطات النظام أم غيرها.
منطقة شمال شرقي سوريا بوصفها الأكثر تميّزاً عن غيرها من المناطق السورية، لما يتوفر فيها من موارد وحماية ودعم وخبرات، مازالت تعتمد بشكل كبير على التحالف الدولي وعلى الولايات المتحدة بتأمين الحماية، كما أنها تعتمد بشكل كبير أيضاً على توظيف السكان المحليين في جهاز إدارتها، أي أنّها تعتمد من حيث تدري أو لا تدري على مواردها المتاحة محلياً وخارجياً لسدّ الحاجة الاقتصادية لشرائح واسعة، وهذا واحد من أشكال البطالة المقنّعة.
أمّا منطقة الشمال الغربي؛ فتعتمد بشكل كبير أيضاً على المساعدات من المجتمع الدولي في مجالات عديدة، وكذلك على الحماية التركية العسكرية والسياسية وعلى التوافقات الدولية. مناطق النظام ليست أفضل حالاً، فهي تعتمد سياسياً على الحليف الروسي الذي يمنع انهيار السلطة، وتعتمد عسكرياً على الدعم الإيراني والروسي، كما تُرغم المجتمعات المحلية على الاعتماد على ذاتها في تأمين كفافها من مستلزمات الحياة، وهذه المجتمعات تقوم بذلك مجبرةً، بعد أن أفقدت الحربُ والنهبُ المستمر والفسادُ المستشري الدولة مواردها، وأُفرغت الخزينة وجيوب معظم السوريين.
يستدعي هذا كلّه التفكير بشكل جديد للحل، يفضي إلى ابتداع طريق ثالث يتجاوز سلوك النظام والمعارضة معاً ومصالحهما، ويبني آليات جديدة للتفكير والمقاربة والعمل. وهذا الطريق يحتاج إلى توليفة من التقاطعات التي تصبّ بمصلحة السوريين أصحاب الأرض بالدرجة الأولى، والأتراك الراغبين بالخلاص من المشكلة السورية برمّتها وإغلاق هذا الملف الشائك نهائياً بالدرجة الثانية، ويريح المحيط العربي الذي بات يرى في استدامة الأزمة السورية خطراً محدقاً يهدد أمنه القومي بالدرجة الثالثة، والمجتمع الدولي الذي سئم الأزمة السورية برمتها وبات لديه أولويات أخرى أكثر تقدماً على جدول أعماله بالدرجة الرابعة. لكنّ ابتداع طريق جديد يبدو أمراً عسيراً ومليئاً بالعوائق، ليس أولها القبول السياسي من الفواعل الدولية وليس آخرها التمويل اللازم، وما بينهما معارضة الروس والإيرانيين لهذا الحل.
مع ذلك، يبقى أن نبحث عن أصحاب المصلحة من المجتمع الدولي في هذا الطريق، وهم بالتأكيد كثر إن فصّلنا في احتياجاتهم وظروفهم الداخلية وأمنهم القومي. لكن أولاً علينا طرح فكرة هذا الطريق وإخراجها للعلن، رغم الخشية من التُهم الجاهزة المعلّبة:
تقوم الفكرة على ما سبق وتمّ طرحه بين النظام والأتراك برعاية أو بضغط روسيّ، أي بناء مناطق قادرة على استيعاب عدّة ملايين من السوريين، وتأمين فرص العيش الكريم لهم. لكن هذه المرّة بمبادرة عربية وغربية، بحيث تقدّم الولايات المتحدّة الدعم السياسي وتضمن الحماية وتساهم بالتمويل، وتقدّم الدول العربية المال اللازم على شكل منحٍ وهباتٍ وقروض استثمارية، ويشارك الاتحاد الأوروبي بالتمويل والإشراف والرقابة. العرب سيكون من مصلحتهم عدم تهجير السوريين من بلدهم، ومنع المخطط الإيراني الرامي لإفراغ سوريا من أهلها وتغييرها ديمغرافياً، وهذا يشكّل جدار صدّ بالغ الأهمية للأمن القومي العربي مستقبلًا. كما سيكون من مصلحة الأوروبيين الخلاص من تهديد التطرّف اليميني المرتبط بشكل لا بأس به بملف اللجوء، وهكذا يمكن نزع أحد الأسلحة الروسية ضدّ المجتمعات الغربية. أمّا الأميركيون فستكون هذه العملية عنصر توازن يبقيها صاحبة اليد العليا في الملف، خاصّة إذا ما تمّ دمج الشمَالين بمنطقة واحدة.
تبقى معضلة التغيير الديمغرافي المحتمل، إذا ما استطال أمد هذا الحل المؤقت قبل حصول انتقال سياسي شامل في سوريا، باعتبارها قد تتعارض مع القرارات الدولية التي تنصّ على أن تكون العودة آمنة وطوعية وتربطها بالحل السياسي، خاصّة وأن كتل سكانية وازنة من السوريين في الشمال تخشى ذلك لأسباب جديرة بالاعتبار، مثل سكان عفرين وغيرها من المدن والقرى المختلطة إثنياً/قومياً. ولا بدّ من اتخاذ الإجراءات القانونية الكفيلة بعودة سكّان هذه المدن إلى مناطقهم التي هجّروا منها أساساً، وعودة سكان المدن والقرى العربية والكردية التي تأثرت بالصراع المسلح إلى مدنهم وقراهم في الشمال. وقبل ذلك، لابد من أخذ موافقة مسبقة من أهالي المناطق التي سيتمّ بناؤها، وضمان عدم حصول تجاوزات على حقوقهم أو ملكياتهم. ثم تأمين أشكال من التمثيل السياسي لهؤلاء السكان الجدد، وتأمين أسباب الاستمرار الاقتصادي بالتشارك مع المجتمعات المحليّة لا بالتنافس والتضاد مع مصالحها. وربما ينبغي وضع هذه المنطقة تحت شكل من أشكال الإدارة الدولية المشتركة كي يتمّ ضمان عدم سيطرة دولة ما عليها، بحيث تأخذ مع الوقت فرصتها لإنتاج إدارتها الخاصّة من بين أهلها، وبحيث تشكّل مستقبلاً أنموذجاً لبقيّة المناطق السورية، وبحيث تكون قابلة لإعادة الدمج مع بقية التراب السوري المقسّم الآن.
لقد أثبتت المجتمعات المحلّية السورية قدراً كبيراً من المسؤولية والتضامن وقت الأزمات، وهي بكل تأكيد قادرة على إنجاح هذه الفكرة، أو سواها من أفكار، في حال توفّرت العناصر السابقة المحكي عنها وغيرها.
يبقى طرح المشاريع، رغم صعوبة الأوضاع، في الفضاء العمومي السوري، ومناقشتها مع الأطراف الفاعلة داخلياً وخارجياً، علّها تجد طريقه للتنفيذ. وكل ذلك بشرط التأكّد من عدم وضع البلد تحت الوصاية مجدداً، رغم أنها تحته فعلياً.
----------
نورث برس