لكنّ فردمان، في عدد من تعليقاته الأخيرة التي أعقبت فوز بنيامين نتنياهو وتشكيل الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً وعنصرية وتشدداً دينياً في تاريخ الكيان، بدا أشبه لنافخ في قربة مثقوبة اسمها «الليبرالية الإسرائيلية» التي توشك على الاضمحلال؛ حتى أنه لم يتورّع عن مناشدة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يتدخل لإيقاف «تحوّل تاريخي» تشهده دولة الاحتلال: «من ديمقراطية تامّة إلى شيء أقلّ، ومن قوّة توازن في المنطقة إلى قوّة مزعزعة له. وقد تكون الوحيد القادر على منع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف من تحويل إسرائيل إلى معقل غلوّ غير ليبرالي». وهذه فقرة واحدة من مشروع «مذكّرة» افتراضية كان فردمان سيرفعها إلى بايدن لو قُيّض له هذا، وسيقول أيضاً إنّ دولة الاحتلال التي عرفها بايدن «تضمحلّ» وتنبثق بدلاً عنها أخرى «جديدة» حيث العديد من الوزراء في حكومتها «معادون للقِيَم الأمريكية، وجميعهم تقريباً معادون للحزب الديمقراطي».
مضحكة، في المقابل، تلك الذريعة البائسة التي حرص فردمان على استرجاعها (أنّ نسبة محدودة من الإسرائيليين هي التي منحت نتنياهو وتحالفه تفوّقهم العددي في الكنيست) وكأنه تناسى أنّ قواعد هذه «الواحة الديمقراطية» لا تعترف بنسبة ضئيلة أو كاسحة؛ ما دام الرقم السحري لـ 62 مقعداً مؤيداً للحكومة قد تحققت في الكنيست، وما دام الناخب الإسرائيلي، وليس الأرواح غير الليبرالية، هي التي صنعت هامش الفارق. ليس أقلّ إضحاكاً حرص فردمان، في مقالة/ مذكّرة المناشدة إياها، على تذكير بايدن بأنّ نتنياهو «تآمر» مع الجمهوريين لـ«هندسة» خطبته أمام الكونغرس في سنة 2015، على النقيض من إرادة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ونائبه بايدن؛ وأنّ رجال نتنياهو يحبون رؤية جمهوري في البيت الأبيض، ويفضّلون دعم المسيحيين الإنجيليين على اليهود الليبراليين.
أيّ قربة مثقوبة هذه التي يخال فردمان أنّ نفخه فيها كفيل بدفع الرئيس الأمريكي إلى «إنقاذ» دولة الاحتلال، بل الأحرى التساؤل المشروع هكذا: هل يضحك على القارئ أم على نفسه، حين يفترض أنّ بايدن (أو أيّ رئيس أمريكي في الواقع، منذ تأسيس الكيان الصهيوني إلى اليوم وحتى إشعار آخر) يمكن بالفعل أن يتدخل لـ«منع» حكومة، منتخَبة وفق قواعد «الواحة» إياها، من تنفيذ التعهدات التي على أساسها أتى بها الناخب الإسرائيلي إلى سدّة الحكم؟ للمرء، هنا، أن ينصح فردمان بالعودة إلى معلّق آخر، إسرائيلي هذه المرّة، سبق أن ناشد رئيساً أمريكياً إنقاذَ دولة الاحتلال؛ مع فارق جدير بالاستذكار. ففي تعليق على واحدة من زيارات نتنياهو إلى واشنطن، كتب جدعون ليفي متمنياً على أوباما الاقتداء بالرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نكسون في إنقاذ إسرائيل، مع تمييز حاسم: الاخير أنقذها من الجيوش العربية سنة 1973، والأوّل ينبغي أن ينقذها من… نفسها!
فإذا أبى فردمان الاستئناس برأي ليفي، ربما لأنّ الأخير يساري مناصر للحقوق الفلسطينية، ففي وسعه الذهاب إلى مواطنه الأمريكي دانييل بايبس؛ الليكودي الذي لم يوفّر جهداً في تأثيم أوباما أثناء أطوار الترشيح والحملات الانتخابية، وفي رؤية العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية من زاوية خاصة تماماً هي مآثر الصهيونية المسيحية، ذاتها التي يبغض فردمان ما يجمعها من علاقات حبّ مع متشددي نتنياهو. ولقد اعتبر بايبس أنّ هذا الطراز من الصهيونية هو «أفضل أسلحة» دولة الاحتلال، بالنظر إلى أهمية نهج اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف، وكيف يتبنى مواقف متشددة تبدو خيارات ساسة إسرائيليين «حمائمية» تماماً إلى جانبها. تفسيره البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ـ الفلسفي، الذي عبّر ويعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند، يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا؛ وتحديداً إلى عام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون بأن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين؛ هذا فضلاً عن أنّ اللورد شافتزبري (شقيق زوجة بالمرستون وزعيم حزب الإنجيليين) هو الذي كان، في العام 1853، قد نحت العبارة الشهيرة البذيئة في وصف فلسطين: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
يتناسى فردمان، إذْ لا يعقل أنه نسي، ما انطوت عليه زيارة نتنياهو إلى واشنطن سنة 2015 من وقائع أخرى ليست أقلّ دراماتيكية من خطبة الأخير أمام الكونغرس؛ بينها، على سبيل المثال، عدم اكتراث ران باراتز، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بأيّ لباقة بروتوكولية أو تهذيب دبلوماسي حين وصف موقف أوباما من الاتفاق النووي مع إيران بأنه «الوجه الحديث للعداء للسامية في الغرب والبلدان الليبرالية». أمّا جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة يومذاك، فقد خصّه باراتز بهذه الأمنية: أن يفلح في رؤية العالم بعقلية فتى عمره أكثر من 12 سنة! الأهمّ، بالطبع، كانت ملفات تتجاوز بكثير أقوال باراتز، مثل تدعيم «القبّة الفولاذية» التي تستقبل وتدمّر الصواريخ قصيرة المدى؛ و«مقلاع داود» للصواريخ متوسطة وبعيدة المدى؛ وأنظمة «سهم» المضادة للصواريخ بدورها؛ ومقاتلات F-35A التي تُمنح، للمرّة الأولى، إلى أيّ حليف؛ ومقاتلات V-22، التي تحلّق كطائرة وتهبط كحوّامة، والقادرة على بلوغ إيران؛ فضلاً، بالطبع، عن اتفاقية مساعدة سنوية بقيمة 30 مليار دولار كانت تنتهي في سنة 2017 وتوجّب تجديدها… إلى أجل غير مسمى!
فهل تجاسر فردمان يومئذ على التفكير في أنّ ملفات مثل توسيع الاستيطان الإسرائيلي، أو الإمعان في تهويد القدس، أو مصادرة الأراضي، أو عربدة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في المناطق ذاتها التي تخضع للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، أو وضع معظم بنود اتفاقيات أوسلو في سلّة المهملات الإسرائيلية… يتوجب أن تُبحث خلال زيارة نتنياهو تلك؟ وهل كانت «الليبرالية الإسرائيلية» في أحسن حال حينذاك، فما استدعت من فردمان تسطير مقالة/ مذكّرة إلى أوباما، أو إلى نائبه بايدن؛ تناشد الإدارة إنقاذ دولة الاحتلال؟ الثابت، الذي يتجاهله فردمان عامداً، هو أنّ سلسلة التطوّرات السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (اغتيال رابين، وانتخاب نتنياهو في غمرة تحقير شمعون بيريس، وانتخاب إيهود باراك ضمن تحقير نتنياهو، وانتخاب شارون على قاعدة تحقير باراك، ثمّ انتخاب نتنياهو وتحقير «كاديما» وباراك معاً…)؛ لم تكن إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أنّ نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة العتيقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب.
عُزفت أبواق مديح «الواحة الديمقراطية» في دولة الاحتلال، أم نُفخ في قِرَب مثقوبة ترثي «ليبرالية» موشكة على اضمحلال؛ سواء بسواء، في هذه أو تلك!
القدس العربي
مضحكة، في المقابل، تلك الذريعة البائسة التي حرص فردمان على استرجاعها (أنّ نسبة محدودة من الإسرائيليين هي التي منحت نتنياهو وتحالفه تفوّقهم العددي في الكنيست) وكأنه تناسى أنّ قواعد هذه «الواحة الديمقراطية» لا تعترف بنسبة ضئيلة أو كاسحة؛ ما دام الرقم السحري لـ 62 مقعداً مؤيداً للحكومة قد تحققت في الكنيست، وما دام الناخب الإسرائيلي، وليس الأرواح غير الليبرالية، هي التي صنعت هامش الفارق. ليس أقلّ إضحاكاً حرص فردمان، في مقالة/ مذكّرة المناشدة إياها، على تذكير بايدن بأنّ نتنياهو «تآمر» مع الجمهوريين لـ«هندسة» خطبته أمام الكونغرس في سنة 2015، على النقيض من إرادة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ونائبه بايدن؛ وأنّ رجال نتنياهو يحبون رؤية جمهوري في البيت الأبيض، ويفضّلون دعم المسيحيين الإنجيليين على اليهود الليبراليين.
أيّ قربة مثقوبة هذه التي يخال فردمان أنّ نفخه فيها كفيل بدفع الرئيس الأمريكي إلى «إنقاذ» دولة الاحتلال، بل الأحرى التساؤل المشروع هكذا: هل يضحك على القارئ أم على نفسه، حين يفترض أنّ بايدن (أو أيّ رئيس أمريكي في الواقع، منذ تأسيس الكيان الصهيوني إلى اليوم وحتى إشعار آخر) يمكن بالفعل أن يتدخل لـ«منع» حكومة، منتخَبة وفق قواعد «الواحة» إياها، من تنفيذ التعهدات التي على أساسها أتى بها الناخب الإسرائيلي إلى سدّة الحكم؟ للمرء، هنا، أن ينصح فردمان بالعودة إلى معلّق آخر، إسرائيلي هذه المرّة، سبق أن ناشد رئيساً أمريكياً إنقاذَ دولة الاحتلال؛ مع فارق جدير بالاستذكار. ففي تعليق على واحدة من زيارات نتنياهو إلى واشنطن، كتب جدعون ليفي متمنياً على أوباما الاقتداء بالرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نكسون في إنقاذ إسرائيل، مع تمييز حاسم: الاخير أنقذها من الجيوش العربية سنة 1973، والأوّل ينبغي أن ينقذها من… نفسها!
فإذا أبى فردمان الاستئناس برأي ليفي، ربما لأنّ الأخير يساري مناصر للحقوق الفلسطينية، ففي وسعه الذهاب إلى مواطنه الأمريكي دانييل بايبس؛ الليكودي الذي لم يوفّر جهداً في تأثيم أوباما أثناء أطوار الترشيح والحملات الانتخابية، وفي رؤية العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية من زاوية خاصة تماماً هي مآثر الصهيونية المسيحية، ذاتها التي يبغض فردمان ما يجمعها من علاقات حبّ مع متشددي نتنياهو. ولقد اعتبر بايبس أنّ هذا الطراز من الصهيونية هو «أفضل أسلحة» دولة الاحتلال، بالنظر إلى أهمية نهج اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف، وكيف يتبنى مواقف متشددة تبدو خيارات ساسة إسرائيليين «حمائمية» تماماً إلى جانبها. تفسيره البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ـ الفلسفي، الذي عبّر ويعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند، يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا؛ وتحديداً إلى عام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون بأن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين؛ هذا فضلاً عن أنّ اللورد شافتزبري (شقيق زوجة بالمرستون وزعيم حزب الإنجيليين) هو الذي كان، في العام 1853، قد نحت العبارة الشهيرة البذيئة في وصف فلسطين: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
يتناسى فردمان، إذْ لا يعقل أنه نسي، ما انطوت عليه زيارة نتنياهو إلى واشنطن سنة 2015 من وقائع أخرى ليست أقلّ دراماتيكية من خطبة الأخير أمام الكونغرس؛ بينها، على سبيل المثال، عدم اكتراث ران باراتز، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بأيّ لباقة بروتوكولية أو تهذيب دبلوماسي حين وصف موقف أوباما من الاتفاق النووي مع إيران بأنه «الوجه الحديث للعداء للسامية في الغرب والبلدان الليبرالية». أمّا جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة يومذاك، فقد خصّه باراتز بهذه الأمنية: أن يفلح في رؤية العالم بعقلية فتى عمره أكثر من 12 سنة! الأهمّ، بالطبع، كانت ملفات تتجاوز بكثير أقوال باراتز، مثل تدعيم «القبّة الفولاذية» التي تستقبل وتدمّر الصواريخ قصيرة المدى؛ و«مقلاع داود» للصواريخ متوسطة وبعيدة المدى؛ وأنظمة «سهم» المضادة للصواريخ بدورها؛ ومقاتلات F-35A التي تُمنح، للمرّة الأولى، إلى أيّ حليف؛ ومقاتلات V-22، التي تحلّق كطائرة وتهبط كحوّامة، والقادرة على بلوغ إيران؛ فضلاً، بالطبع، عن اتفاقية مساعدة سنوية بقيمة 30 مليار دولار كانت تنتهي في سنة 2017 وتوجّب تجديدها… إلى أجل غير مسمى!
فهل تجاسر فردمان يومئذ على التفكير في أنّ ملفات مثل توسيع الاستيطان الإسرائيلي، أو الإمعان في تهويد القدس، أو مصادرة الأراضي، أو عربدة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في المناطق ذاتها التي تخضع للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، أو وضع معظم بنود اتفاقيات أوسلو في سلّة المهملات الإسرائيلية… يتوجب أن تُبحث خلال زيارة نتنياهو تلك؟ وهل كانت «الليبرالية الإسرائيلية» في أحسن حال حينذاك، فما استدعت من فردمان تسطير مقالة/ مذكّرة إلى أوباما، أو إلى نائبه بايدن؛ تناشد الإدارة إنقاذ دولة الاحتلال؟ الثابت، الذي يتجاهله فردمان عامداً، هو أنّ سلسلة التطوّرات السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (اغتيال رابين، وانتخاب نتنياهو في غمرة تحقير شمعون بيريس، وانتخاب إيهود باراك ضمن تحقير نتنياهو، وانتخاب شارون على قاعدة تحقير باراك، ثمّ انتخاب نتنياهو وتحقير «كاديما» وباراك معاً…)؛ لم تكن إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أنّ نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة العتيقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب.
عُزفت أبواق مديح «الواحة الديمقراطية» في دولة الاحتلال، أم نُفخ في قِرَب مثقوبة ترثي «ليبرالية» موشكة على اضمحلال؛ سواء بسواء، في هذه أو تلك!
القدس العربي