هوجمت إدلب في 24 مارس في ذلك العام، وبعد أربعة شهور تماماً، في يوليو، زار قاسم سليماني موسكو، واجتمع مع بوتين لمدة ساعتين، كما قال حسن نصرالله، ونشر خرائطه شارحاً الوضع الحرج لنظام الأسد، الذي يتطلّب تدخّلاً عاجلاً وحاسماً. في الشهر التالي وقعت سوريا اتفاق تسليم مطار حميميم لأجل غير مسمّى، وابتدأت الحشود تتصاعد، حتى بداية انقضاض الطيران الروسي على كلّ ما هو ليس تحت يد الأسد، مع انتشار وعمليات حاسمة على الأرض قام بها الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الملحقة والحليفة.
لم يكتمل طلب الأسد الرسميّ للتدخّل الروسي بالنسبة لبوتين، إلّا عند طلب سليماني، كان ذلك علامة تحوّل في السياسة الروسية في المنطقة، يطمح إلى دور أكبر وأهم فيها، تمدّد إلى ليبيا عسكرياً، ومصر باتفاقيات امتدّت من التعاون النووي السلمي إلى تأمين محطات بحرية. يُقال دائماً إن الحالة بين إيران وروسيا في سوريا تنافسية، وربّما تبطن التناحر، لكنّ الصورة اختلفت، بل حصل تفاعل إيجابي، حتى في شكل العمل على الأرض، حين استخدم بوتين قوات فاغنر مقابل استخدام إيران للميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية القائمة على أساس مذهبي. لا بدّ من أن النجاحات الاستراتيجية المهمة في البحر المتوسّط وحوله، قد أنعشت الشوفينية الروسية، وكان لها فعلها في العزم على محاولة حسم الصراع مع أوكرانيا وعليها؛ فابتدأ بوتين بغزوها في فبراير 2022 من الشمال والشرق والجنوب، لينزع سلاحها ونازيّتها كما قال. وبعد فشل الهجوم من الشمال على محور كييف وخاركيف، اضطرّ للتركيز على الجنوب والشرق في الدونباس وما حولها، وربّما كان مصيباً في ذلك. بعد حشد الغرب ضد ذلك الغزو، لجأ بوتين إلى إيران ومسيّراتها كما لجأ زيلينسكي إلى المسيّرات التركية. وفي حين وضع حلف الناتو ثقله وراء الثاني، كانت إيران الثقل الرئيس وراء الأول، حتى ابتدأ الاعتماد جزئياً على كوريا الشمالية أيضاً، بعد تلكّؤ الصين في تطوير دعمها مادياً. ما يلفت هنا هو دور ذلك في تعميق وتأصيل العلاقة بين الإيرانيين والروس من جهة، ودور الحرب الأوكرانية وأولويّتها بالنسبة لبوتين على غيرها: تناقصت نسبياً قدرات الروس في سوريا مثلاً، وابتدأ الإيرانيون بالحلول مكانهم هناك، حيث تسنح الفرصة، بتسليم روسي، وبالتأكيد ليس عن رغبة أو اندفاع، وإلى حين. باعتبار ذلك، ومع ملاحظة أن روسيا بوتين طرف غير مباشر بالنسبة لإيران في «محور المقاومة»، فقد تملّك الطرفان إحساس مشترك إيجابي مع «طوفان الأقصى»، الهجوم الذي شنّته حماس خارج جدار غزة، والتحوّل العميق الذي أحدثه ابتداءً من حرب إسرائيل الوحشية على غزة، وانتهاءً بمسلسل التأثير على الوضع في أوروبا والولايات المتحدة، وحتّى على انتخاباتها القريبة هنا وهناك.
وإذا كان الاندفاع الإيراني بسبب من علاقتها العضوية بالموضوع، فإن الارتياح الروسيّ لتلك الحرب، هو في جذبها لاهتمام وطاقات الخصوم بعيداً عن أوكرانيا، حيث حربها الخاصة والأثيرة؛ وكلا الأمرين نسبي وجانبي في النتيجة، كما ظهر واتّضح لاحقاً، حيث لا يريد خامنئي وحرسه الثوري، مع حزب الله، أيّ تصعيد غير محسوب مع إسرائيل والغرب، بل استمرار المناورة، حتّى لو أدّى الأمر إلى ما يشبه الفضيحة، كما حدث في الرد الضخم/الفارغ على اغتيال قادة من فيلق القدس في قلب دمشق من قبل الإسرائيليين. كذلك ارتفع مستوى الطلب الإسرائيلي من حزب الله في لبنان إلى انسحاب الأخير من الجنوب، وإلّا فسيذهب الأمر إلى تأسيس «منطقة آمنة» من جديد، كما حدث بعد حرب 1978، التي كانت ردّاً بدورها على «عملية طريق الشاطئ» قرب تل أبيب، حين كان لها بالنسبة للإسرائيليين بعض عناصر الشبه بعملية حماس في أكتوبر الماضي، من حيث تهديدها الرمزي للوجود والأمن في العمق. هنالك ظاهرتان جديدتان على كلّ من الاستراتيجية الإيرانية وتلك الروسية في سوريا، لم يجرِ هضمهما بعد:
من الناحية الأولى، لم تستطع الغطرسة الإسرائيلية استفزاز تلك الإيرانية، كما كان متوقّعاً، فما عدا ذلك الردّ الإيراني الذي لم يحقق أهدافه، ولم تستطع كثافته تغطية هزالته؛ واستمرار حزب الله بإطلاق قذائف بين حين وآخر باتّجاه الجليل الأعلى، مع تهديد الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر، وكلّها محدودة محدّدة؛ ابتدأت إيران بتخفيف وجودها في سوريا، وإجراء تغييرات في انتشار قواتها ودرجة كثافتها وحركتها المكشوفة.
ومن الناحية الثانية، ابتدأ انتشار روسي في منطقة الجولان السورية المحاذية لإسرائيل، لغرض قد يكون مزدوجاً. فهو من جهة يبدو محافظة على أمن إسرائيل من» الإرهابيين والمتطرفين»، كما أنه يعزز الوجود الاستراتيجي الروسي شرق المتوسّط، حيث إسرائيل ومصالح الغرب في المنطقة. في خلفية ذلك كلّه، بفوضاه وطموحاته وتغيّراته، تتجه الولايات المتّحدة نحو انتخاباتها الرئاسية في الخريف المقبل، التي تبدو وكأنّها لن تكتفي بما فعلته حتى الآن، بل إنّها ربّما تفرز عوامل ومفاجآت أخرى تجعل الصيف المقبل على الأبواب ملتهباً زائد الحرارة. ذلك الاحتكاك التاريخي بين استراتيجيتين في الولايات المتحدة، بين ترامب وبايدن ومن خلفهما، سوف يزيد من تلك الحرارة، الأمر الذي يتجنّب الكثير من المراقبين الدوليين أيَّ تنبّؤٍ بوجوهه ونتائجه. فبعد أن استطاع بايدن بصعوبة تمرير قرار المساعدات إلى أوكرانيا وإسرائيل وتايوان في الكونغرس، وبعد مناورات ومفاوضات استغرقت وقتاً كان ثميناً للكثيرين.. لن يستطيع فعل شيء آخر، لأن أيّ نقاش سيكون على أعتاب الدخول في مرحلة «البطة العرجاء» قبل الانتخابات. ولهذه أبواب ومؤثّرات أخرى لا بدّ من الاهتمام بها أيضاً. ربّما لن يكون هنالك اختلاف كبير على استراتيجيات الولايات المتحدة في ما يخصّ الشرق الأوسط، وبعض مظاهر ذلك تتجلّى في اعتماد بايدن لسياسة خلفه على اتفاقات أبراهام على سبيل المثال، وذلك نجاح لترامب وسياساته التي قادها في ذلك الوقت صهره ذائع الصيت.
في الخريطة الدولية الراهنة، روسيا وإيران عملياً دولتان مارقتان، وهما تُعاملان بدرجة متدنّية من الاحترام كأنّها اتّقاء لشرّهما إلى هذا الحدّ أو ذاك. وتعطي الحرب الروسية على أوكرانيا أفضلية لموقع روسيا «الطليعي» بين أعداء الغرب، رغم أهمية البرنامج النووي والإسلاموية وأمن إسرائيل ونفط الخليج من الجهة الإيرانية. هما يجتمعان خصوصاً في سوريا، تلك الدولة التي أصبح نظامها بجهد حكامها مطمعاً متهافتاً.. ولا مشكلة في ذلك بالنسبة للبلدين. وما زال من المحتّم أن يكون هنالك صراع بينهما على سوريا، وذلك لا يخفى عن العين المجرّدة. وحالياً، لا يمكن الحكم على مدى حجم الانسحاب الروسيّ بسبب الحرب الأوكرانية، ولا على جديّة الانسحاب الإيراني بتأثير الاستراتيجية المحافظة الراهنة، حين أصبح خامنئي بدوره بطة عرجاء.. بفعل قوانين الطبيعة. لا يمكن الحكم أيضاً على درجة هجومية أيّ طرف بينهما باتّجاه مواقع الطرف الآخر.. لكنّ المشهد سيتّضح في وقت قريب مع انجلاء الغبار نسبياً من سماء غزّة، ولننتظر ونرى!
---------------
– القدس العربي