الماضي بعين الرضا
حين نشر صباح قباني جانباً من مذكراته وسيرته المهنية والعائلية عام 2008 تحت عنوان (من أوراق العمر) كتبتُ في إحدى الصحف العربية، انطباعاً عاماً عن تلك المذكرات أقول فيه: «يخرج القارئ لمذكرات صباح قباني الإعلامي والدبلوماسي السوري، التي صدرت في دمشق تحت عنوان (من أوراق العمر: مسيرة حياة في الإعلام والفن والدبلوماسية) يخرج بانطباع مهم، هو أن سوريا التي يتحدث عنها صباح في مذكراته، غير سوريا التي نعيشها الآن. فلا شيء مما أورده في الكتاب يمت بصلة إلى سوريا اليوم سوى أسماء المدن والأمكنة التي بقيت على حالها. كل شيء تراجع وارتبك، وفقد حيويته وبريقه، خصوصاً على الصعيد الفني، حيث كان صباح قباني أول مدير للتلفزيون السوري لدى إنشائه في عهد الوحدة بين مصر وسوريا، وكان بذلك واضع اللبنة الأولى التي أسست لكل ما أتى بعده». أذكر أن صباح اتصل بي يومها ليقول بصوته الهادئ الرصين: «أشكرك لأنك قرأت ما بين السطور. إنها سوريا غير التي نعيشها الآن فعلاً». فقد كان صباح قباني الذي نشر كتابه الأول وهو في الثمانين من العمر، كاتباً متأنقاً مترفعاً، ينظر إلى الماضي نظرة رضا مشبعة بالحنين، فلا يرى فيه سوى الجمال والألق وحمى التنافس على العطاء بين شبان مؤمنين بما يكتبون وما يبدعون، ثم يغمض عينيه بصمت كي يشيح عن حاضرٍ صار بعيداً عن مسار البدايات الناهض، المترع بالآمال الكبيرة والأحلام الكبيرة.
سيرة دمشقية ناصعة
ينتمي صباح قباني المولود في حي مئذنة الشحم في دمشق عام (1928) إلى عائلة دمشقية عريقة، كان هاجسها التأسيس والابتكار. وقد اختصر صباح ذلك في كلمات قالها له أحد الأصدقاء ذات مرة: «إن هاجس التأسيس يتملككم جميعاً جيلا بعد جيل؛ جدك (أبو خليل القباني) أسس المسرح الغنائي العربي، ووالدك أسس أول معمل للملبّس والشوكولاته في دمشق، ونزار أسس مدرسة شعرية حديثة كانت نسيج وحدها بلغتها وتراكيبها وموضوعاتها، وجئت أنت في نهاية المطاف لتؤسس التلفزيون السوري بعد مرور مئة عام تماماً على تأسيس أبي خليل مسرحه». وكان والد صباح (توفيق قباني) قد أسس ورأس في ثلاثينيات القرن العشرين أول نقابة تعنى بشؤون المهنة التي كان رائداً من روادها، تحت اسم (نقابة عمال السكاكر) ورغم أنه كان في تلك الفترة صاحب أهم وأكبر معمل بينها، إلا أنه ظل يعتبر نفسه واحداً من العمال. وقد استطاع بفضل شعبيته الواسعة في الأوساط التجارية والاجتماعية أن يوظف تلك الشعبية في خدمة النشاط الوطني الذي كان يمارسه ويموله خلال الانتداب الفرنسي، وحين رحل توفيق قباني عام 1954 صدرت جميع الصحف السورية في العهد الديمقراطي السوري، وقد خصصت افتتاحياتها الطويلة للإشادة بجهاده وتضحياته في سبيل استقلال وطنه، ويعلق صباح على ذلك بالقول: «كان ذلك تكريماً لم ينله أي مواطن آخر لا يشغل منصباً رسمياً»، لكن خلف تلك العبارة المقتضبة، ثمة صورة تستحق التوقف. صورة سوريا التي كانت تعتز بتاريخ أبنائها بعيداً عن المناصب الرسمية وعن الانتماء للحزب الحاكم والسلطة والجاه. صورة سوريا التي تنطوي صحافتها على هامش واسع من الحيوية والحرية وتقديم الصورة الحقيقية للناس والحياة.
عمدت إذاعة دمشق في تلك الفترة إلى استحداث هيكلية جديدة للبرامج، تعتمد في عناصرها على الإيقاع السريع والتناول الجذاب، وعلى استحداث عشرات الزوايا اليومية، التي تتضمن أحاديث فكرية واجتماعية وفلسفية وقانونية وطبية بلغة مبسطة وعذبة، وبما لا يتجاوز الدقائق الخمس.
بصمات تأسيسية في إذاعة دمشق
اجتاز صباح قباني وهو الابن الأصغر في العائلة، مخاضاً صعباً بين دراسة الطب نزولا عند رغبة والدته، والاتجاه إلى كلية الحقوق لدراسة القانون، حيث انتقل وتابع دراسته في جامعة دمشق، ثم سافر إلى باريس أواخر عام 1949 لينال شهادة الدكتوراه في الحقوق الدولية ويعود إلى سوريا عام 1953. لكن قبل السفر إلى باريس كانت موهبته الفنية قد أخذته مرة إلى الرسم بدافع من حب شقيقه نزار للرسم في فتوته الأولى، وأخرى إلى فن التصوير الضوئي، الذي ظل ملازما له في ما بعد كهواية، فضلا عن حبه للعمل الإذاعي الذي بدأ أثناء دراسته الجامعية، وتحول إلى نشاط رسمي حين أصدر مدير إذاعة دمشق الأديب فؤاد الشايب قراراً في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1947 بتعيين صباح قباني مذيعاً رسمياً في إذاعة دمشق. وقد عاد صباح قباني للعمل في الإذاعة بعد عودته من باريس، بدعوة من مديرها اللامع آنذاك الصحافي أحمد العسة، الذي جعله ينحي الالتحاق بالعمل الدبلوماسي جانباً، ويشترك معه في بلورة ملامح العهد الذهبي لإذاعة دمشق، وجعلها مركز إشعاع ثقافي وفني محلي وعربي، استقطب كبار الأدباء والفنانين في تلك الفترة، حيث صدر مرسوم بتعيينه مديراً لبرامج الإذاعة عام 1954. واللافت أن مجلة «الآداب» الأدبية اللبنانية المرموقة، كتبت مستبشرة بهذا القرار فقالت: «عيّن صباح قباني مديراُ للبرامج في المديرية العامة للإذاعة السورية، فتفاءل الفنانون والأدباء لما يأملون من توجيه البرامج المذاعة توجيهاً عربياً فنياً، وكان واضحاً أن البرامج السابقة لم تكن تخلو من انحلالية، خاصة في مادة الغناء».
عمدت إذاعة دمشق في تلك الفترة إلى استحداث هيكلية جديدة للبرامج، تعتمد في عناصرها على الإيقاع السريع والتناول الجذاب، وعلى استحداث عشرات الزوايا اليومية، التي تتضمن أحاديث فكرية واجتماعية وفلسفية وقانونية وطبية بلغة مبسطة وعذبة، وبما لا يتجاوز الدقائق الخمس. وكانت إذاعة دمشق أول من تبنى إنتاج الأخوين رحباني وفيروز وعبد الحليم حافظ، وأول من أطلق فكرة الموجز الإخباري كل ساعة، كما أحدثت برامج أصبحت في ما بعد ركنا ثابتا في الإذاعات الأخرى كبرنامج (حدث في مثل هذا اليوم) الذي كانت إذاعة دمشق أول من أطلقته قبل أكثر من خمسين عاماً كما يقول صباح قباني.
تنقل صباح قباني في العمل الإعلامي والثقافي. وحين أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في عهد الرئيسين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر، كان على صباح قباني أن يستعد للسفر إلى القاهرة، التي أصبحت مقراً لوزارة الخارجية في الجمهورية المتحدة، إلا أن تأسيس وزارة الثقافة والإرشاد القومي في الإقليم الشمالي (سوريا)، جعلته يعدل عن السفر ويلتحق بالوزارة الجديدة مديراً للفنون فيها. وها هنا استفاد من حصيلة اطلاعه على الفنون والمسارح في باريس أثناء دراسته للدكتوراه فيها، وكانت له بصمات واضحة في تأسيس معارض الفنون التشكيلية، ومعارض للتصوير الضوئي، وتأسيس المسرح القومي السوري الذي أنشئ في عهد الوحدة وكان الفنان نهاد قلعي أول مدير له.
مغامرة تلفزيونية صعبة
إلا أن ذلك كله رغم صعوبته، يبقى أشبه بالسير على اليابسة، قياساً لمغامرة تأسيس التلفزيون السوري، التي تحدث عنها صباح في مذاكراته، وكأنها تحليق في الفضاء؛ وهو محق في ذلك، دون شك، حين نعلم أن قرار إنشاء التلفزيون، صدر قبل ثمانية أشهر فقط من تحديد موعد انطلاق بثه في الثالث والعشرين من تموز/ يوليو عام 1960 متزامنا مع احتفالات أعياد ثورة يوليو، ومع انطلاق شارة بث التلفزيون المصري في القاهرة في الوقت ذاته. وحين نقول (قرار الإنشاء) فإن ذلك يشمل إنشاء الموقع، وتركيب الأجهزة التقنية والهندسية وهوائيات الإرسال، وتدريب العناصر، وإرسالهم في بعثات تدريبية ليتعرفوا على التقنية التلفزيونية من ألفها إلى يائها، كما حدث مع صباح وبعض زملائه الرواد أمثال: تماضر توفيق وهيام طباع، الذين ذهبوا في دورة اطلاعية مكثفة إلى نيويورك وبوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية قبل سبعة أشهر من افتتاح التلفزيون، وكان عليهم خلال مدة لا تتجاوز الأربعين يوماً، أن يتفهموا جميع المراحل التي يمر بها العمل التلفزيوني، بما في ذلك التعامل مع الأجهزة الفنية اللازمة لهذا العمل، والتي كانت غير معروفة في المنطقة العربية تماما!
على أعلى قمة في جبل قاسيون، جبل دمشق الشهير، وعلى ارتفاع 1200 متراً عن سطح البحر، أقيم استوديو الإرسال التلفزيوني الذي سيبث التلفزيون منه كل برامجه. كان ذلك خياراً هندسياً كي تغطي شارة البث التلفزيوني أكبر مساحة ممكنة من دمشق وضواحيها، لكن الصعود إلى الجبل في طريق شاهقة ووعرة وغير ممهدة جيداً، كان معاناة يومية شاقة للعاملين فيه، وكان تحدياً مربكاً للعمل الإعلامي، ويشير صباح في هذا السياق: «أذكر أن الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس عبد الناصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 1960 وصلنا تسجيله إلى مطار دمشق قبل نشرة الأخبار بفترة قصيرة، وكنا نحرص على أن يذاع من تلفزيون دمشق في الوقت ذاته الذي يذيعه فيه تلفزيون القاهرة، ولكي نضمن وصوله إلى قمة الجبل في موعد النشرة، عمد رئيس مرآب التلفزيون الأخ أبو أحمد إلى وضع رتل من عدة سيارات على جانب الطريق الصاعد، لتكون بمثابة احتياط للسيارة التي تحمل الشريط، فإذا ما أصابها عطل أو تلكأت في الصعود فإن إحدى السيارات الاحتياط تستلمه منها وتكمل المشوار». لكن تحدي الطريق لم يكن هو المعضلة وحدها، فقد كان كل شيء ضبابياً لا ملامح ولا أشكال معروفة له، كان عليهم أن يبتكروا كل شيء من العدم، بدءا من طريقة تقديم تلاوة القرآن الكريم في افتتاح الإرسال وحتى نشرة الأخبار.
كان عدد العاملين في إطلاق التلفزيون يوم افتتاحه ستة وخمسين شخصاً، من مخرجين ومذيعين ومهندسين وإداريين ومحررين وعمالا وسائقين، وقد وقف صباح قباني ليلقي كلمة الافتتاح على الهواء مباشرة في الثالث والعشرين من يوليو عام 1960، في لحظة تاريخية شهدتها دمشق بدهشة بالغة.
كان على السوريين أن يواجهوا رعب منافسة الشقيقة الكبرى، بتاريخها الفني العريق، سينمائيا ومسرحياً وتشكيلياً، لكن كل ذلك الخوف، انقلب حماساً وإبداعاً وتحدياً رابحاً، سمته الصحافة المصرية نفسها (المعجزة) في أول تحقيق نشر عن تلفزيون دمشق في العدد الثالث عشر من مجلة «الإذاعة والتلفزيون» الصادر في آب/أغسطس عام 1960 وثمة ملاحظة مهمة يوردها صباح عن ظروف انطلاق التلفزيون من نقطة الصفر في سوريا يقول: «سرعان ما وجدت أنا وزملائي في هذا الصفر مزيّة كبرى. فبينما كان زملاؤنا في القاهرة، الآتون من المسرح والسينما مكبلين بما حملوه معهم من أنماط هذين الفنين، فإننا في دمشق وجدنا أنفسنا نتوجه إلى الفن التلفزيوني مباشرة، ولعل الصيغ التي أطلقناها هي التي شدت انتباه إخوتنا في مصر، حين وجدوا فيها نكهة مختلفة عما ألفوه من أساليب مسرحية وسينمائية، راحت تتكرر هي نفسها من جديد على شاشة التلفزيون القاهري». كان عدد العاملين في إطلاق التلفزيون يوم افتتاحه ستة وخمسين شخصاً، من مخرجين ومذيعين ومهندسين وإداريين ومحررين وعمالا وسائقين، وقد وقف صباح قباني ليلقي كلمة الافتتاح على الهواء مباشرة في الثالث والعشرين من يوليو عام 1960، في لحظة تاريخية شهدتها دمشق بدهشة بالغة. وقد لخص الرؤية التي صاغت انطلاقة التلفزيون في كتابه بالقول: «اعتبرنا أن الشاشة التي ستدخل إلى بيوت الناس، هي نافذة انفتحت أمامهم على العالم. عالم الثقافة والحضارة والمعرفة، لذلك كان اهتمامنا الأول بذلك القطاع الأكبر من المواطنين والمواطنات، ممن لم تتح لهم ظروفهم الاجتماعية أن يتزودوا بمختلف أنواع العلم والمعرفة، وهي ما يتعين أن يتزود بها الإنسان في هذا العصر»
مثالية سياسية
انطلق تلفزيون دمشق قوياً معافى رغم محدودية إمكاناته، فتح ذراعيه واسعاً للجميع من كتاب وفنانين وإعلاميين، بلا لوائح سوداء أو موافقات أمنية، اكتشف مواهب جديدة، وتم تأسيس فرقة للفنون الشعبية تابعة للتلفزيون، قدمت أرقى لوحات التراث الشعبي للشاشة الصغيرة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى انطلق إنتاجه الدرامي، مؤسساً على هذا المناخ الحيوي الذي أشاعه الدكتور صباح قباني ورفاقه، الذين يذكرهم جميعاً في مذكراته بكثير من التقدير والوفاء.
ولكن انفصام عرى الوحدة بين مصر وسورية في الثامن والعشرين من أيلول عام 1961، دفع صباح قباني لتقديم استقالته ومغادرة التلفزيون على غير رجعة. كان مؤمنا مثالياً بالوحدة إلى درجة أنه رفض البقاء في موقعه حتى تحت ضغط التهديد المباشر، حيث وصف أحد ضباط الانقلاب استقالته بأنها (عمل تخريبي) لكن الدكتور صباح رد بالقول:
«أنا رجل أحترم نفسي وأحترم سمعتي أمام الناس. كيف لي بعد أن كنت مسؤولا عن جهاز إعلامي ظل يشيد بالجمهورية العربية المتحدة ورئيسها على مدى 14 شهراً، أن أصبح بغمضة عين مسؤولا عن إعلام يوجه الشتائم إلى جمهورية الوحدة ويجرّح صورة رئيسها».
رحلة ديبلوماسية
طوى الانفصال صفحة العمل الإعلامي والثقافي المثمر في حياة صباح قباني، الذي عاد أواخر العام 1961 إلى وزارة الخارجية وانتقل للعمل قنصلا لسورية في مدينة نيويورك الأمريكية بين عامي 1962-1966 وكان أول ما انصب اهتمامه عليه، رعاية مئات الطلاب والمواطنين السوريين المنتشرين في أنحاء أمريكا، والذين أصبحوا بحاجة –بعد الانفصال- إلى إصدار جوازات سفر جديدة ووثائق يبروزنها لمكتب الهجرة الأمريكي ضماناً لاستمرار إقامتهم القانونية أو دراستهم في الولايات المتحدة. وقد حرص الدكتور صباح أن يدون المعلومات في الجوازات بخط يده، خشية أن يرتكب أي موظف خطأ ما في كتابة الأسماء بالحروف اللاتينية، فيتسبب بمشكلة لمواطن سوري مع مكتب الهجرة الأمريكي، فأي إخلاص وتواضع ووطنية كان يعمل بها هذا الرجل، والمغتربون السوريون يعرفون اليوم كيف يعاملون في سفاراتهم وقنصلياتهم. وأي حس إنساني راق، سنلمسه عندما يتحدث عن طريقة تواصله مع السوريين الذين هاجروا في أوائل القرن العشرين وضاعوا مع سماسرة البحار في الجزر النائية، ثم كتبوا له يطلبون وثيقة أو جواز سفر تعيدهم إلى وطنهم، وهو ينهمك في الرد على الرسائل وتحضير الأوراق المطلوبة!
ورغم غنى المرحلة الديبلوماسية في حياة الدكتور صباح قباني، وقدرته على تحقيق حضور فاعل في أمريكا، وخصوصاً أنه أصبح سفيرا لسورية فيها لمدة سبع سنوات بدءاً من عام 1974، ثم عمله مديراً لإدارة أمريكا في وزارة الخارجية السورية أكثر من مرة؛ إلا أن أهم ما في هذه المرحلة، تلك الخبرة النظرية والعملية التي يقدمها للقارئ حول تطور مفهوم العمل الديبلوماسي، وخصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي تطورت فيه وسائل الاتصال، ولم يعد السفير كما في القرون الخوالي، يتمتع بحرية كاملة في أداء عمله، وبصلاحية مطلقة في التصرف والتفاوض بسبب بعد المسافات وبطء الاتصالات والمواصلات.
كلام عبر الأيام
عام 2010 أصدر الدكتور صباح كتابه الثاني (كلام عبر الأيام) الذي ضمنه خلاصة كتاباته في (الفن والتراث والسياسية) لكن من يقرأ صفحات الكتاب، سيكتشف أن كتاباته لا تختزن ثقافة ورؤية وانتماء وحسب، بل تختزن أيضاً وجعاً وألماً ولوعة، لا تخفيها تلك الكلمات الاحتفالية التي خطها الدكتور صباح عن دمشق لمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 2008، تحت عنوان: (إنها دمشق عنوان لثقافة باهرة) فكل هذا التغني بأريج الحضارات وقصص المجد والدأب الإنساني المبدع والتاريخ الذي تدرك حين تتجول في أسواق دمشق القديمة «أنه ليس فكرة مجردة بل هو شيء حي تراه وتلمسه وتكاد تسمع إيقاعه ونبضه المتواصلين» كل هذا يستحيل ألماً حقيقياً حين يتحدث عن (التراث بين الحفظ واللامبالاة) حيث يقول الدكتور صباح أنه كان يتساءل كلما دخل العاصمة الفرنسية: «كيف تزداد هذه الباريس الجميلة جمالا سنة بعد سنة؟ فهاهي الأبنية العريقة ذات الزخارف تصبح أكثر تألقاً ونضارة، وهاهي النوافير التي تتوسط الساحات وتغتسل بمائها تماثيل الحوريات الضاحكات قد ازدادت بهاء بتلك اللمسات الذهبية التي أضيفت مجدداً. وهاهو برج إيفل -رمز باريس- الذي عهدته في السنين الخوالي كتلة حديدية صماء قبيحة، قد غدا يتلألأ كما العروس بآلاف المصابيح الكهربائية التي نثرت عليه» وقد اكتشف صباح قباني أن ما يحمي تراث باريس المعماري والفني ويزيد من بهائه وجماله عاماً بعد عام، عشرات المؤسسات العامة والخاصة التي تساندها قوانين صارمة تمنع العبث بكل ما هو تراثي، حتى أن أحد القوانين ينص على أن أي بناء سيشيد على بعد 500 متر من أحد الأبنية الأثرية المسجلة، يجب أن توافق عليه وعلى نمط واجهته وزارة الثقافة، التي من مهامها أيضاً الحفاظ على الأحجار المنتزعة من الأبنية القديمة التي سمح بهدمها.
صرخات ألم!
هذا الحرص الفرنسي على الإاث المعماري والفني لباريس، يستحيل إلى لامبالاة إزاء مدينة أقدم منها بآلاف السنين كدمشق، ويغدو الألم هو عنوان الحديث عن تراثها، حين يتحدث الدكتور صباح قباني عما فعلته وزارة السياحة ببيت جده الرائد المسرحي أبو خليل القباني في منطقة مزة كيوان، يقول:
«استملكته وزارة السياحة قبل عدة سنوات بدعوى أنها ستوظفه في مشروع سياحي مهم، لكن الذي حدث هو أن الوزارة بعد أن طردت حفيدتيْ القباني العجوزين البائستين من البيت ختمت بابه بالشمع الأحمر حتى لا تعودا إليه، ولكن الموظف الذي كلف بهذه المهمة ترك –مثل جحا- باب البيت الخلفي مفتوحاً مشرّعاً أمام الرياح واللصوص. فبعد أن وجد هؤلاء أن الوزارة المذكورة أهملت البيت ونسيت مشاريعها، راحوا ينهبون كل ما تطوله أيديهم: النوافذ، الأبواب، خشب السقوف والحيطان، وبلاط أرضيته، ومن يذهب اليوم ويفتش عن بيت رائد المسرح الغنائي العربي، فلن يجد مكانه إلا كومة من تراب تذروها الرياح «
ومقابل هذا الإهمال الحكومي المشين، يتحدث صباح عما فعله المالك الذي اشترى بيت القباني القديم في مئذنة الشحم السيد عباس نظام، فقد فتح البيت (وهو ملكية خاصة) أما الصحفيين والمصورين وأمام كل زائر يبحث عن البيت الذي ولد فيه الشاعر نزار قباني وعاش وطفولته، وأكثر من ذلك: عندما توفي نزار وكان قد مضى على شراء البيت أكثر من خمسين عاماً، أصر صاحبه أن يفتحه ويقيم فيه العزاء باسم الشاعر لمدة ثلاثة متكلفاً نفقات العزاء من جيبه الخاص!
عاشق جامعة دمشق
ظل صباح قباني حتى أواخر سني عمره، مسكوناً بالتأريخ لزمن البراءة الوطنية، زمن النهوض والمبادرة في بناء مؤسسات وطنٍ، كان السوريون يرون أنها ستكون لهم، وستبقى لأجيال تأتي بعد زمنهم، ولهذا كان آخر ما أصدره قبيل رحيله كتاب: (رضا سعيد مؤسس الجامعة السورية: رجل لكل الأقدار) الذي صدر عن دار جداول ببيروت عام 2011 وروى فيه سيرة رجل ساهم في حفظ الجامعة السورية ولملمة نواة معاهدها في عشرينيات القرن العشرين، لتكون فيما بعد واحدة من الجامعات الرائدة في الوطن العربي.
ربما كان صباح قباني قد عمل على هذا الكتاب، قبل فترة طويلة من صدوره، إذ يلحق صفحاته بمحلق لآراء أدباء قرؤوا – على ما يبدو – مخطوط الكتاب قبل صدوره، وجلهم رحل عن عالمنا كالأديب عبد السلام العجيلي، وشقيقه الشاعر نزار قباني الذي رأى أن الكتاب جعل من رضا سعيد «بطلاً إغريقيا يصارع أقداره واحداً بعد الآخر».
تناول الكتاب سيرة رضا سعيد، منذ مولده وحتى وفاته متتبعا مسار حياته في تركيا والشام وباريس، وعارضا لأهم منجزاته ودوره في تأسيس المعهد الطبي بعد لقائه مع الأمير فيصل بن الحسين عام 1918 في حلب، ثم دروه في الدفاع عن بقاء المعهد حينما رغب الفرنسيون بنقله إلى بيروت، وكيف أقنع الكولونيل كاترو بذلك، ليتطور لاحقا إلى الجامعة السورية التي أسسها رضا سعيد عام 1923، ناهيك عن معركة تعليم الطب باللغة العربية، التي خاضها في غير مرحلة من مراحل الدفاع عن وجود الجامعة وكيانها.
سعى د. صباح قباني لكتابة سيرة هذا الرجل بأسلوب روائي، حول فيه الأشخاص والوقائع والأمكنة والتواريخ إلى مادة لسرد قصصي شيق، تتقاطع فيه السيرة الذاتية لسعيد، مع الفضاء الروائي لمرحلة تاريخية غنية وحافلة بالتحولات، ليقدم لنا وثيقة تاريخية في إطار درامي، تصلح كنواة لمسلسل أو فيلم، ولا تقتصر أهميتها على ما نشر بين دفتي كتاب رغم غناه، ورغم اهتمام الكاتب بإبراز كل محطات سيرة هذه الشخصية الفذة بتسلسلها الزمني المُضني.
صامتٌ لو تكلمّا!
في سيرة حياته كما في مذكراته وفي كتبه الثلاثة التي أصدرها، ومن قبل كتابه الذي أعده من وحي كتابات شقيقه نزار تحت عنوان (دمشق نزار قباني)، كان صباح قباني، تعبيراً حياً وأنيقاً عن عراقة دمشق، فقد عاش حياته مسكونا بهاجس العمل والبناء، وارثاً تقاليد مدينة حفزت أبناءها على العمل والإبداع… حتى إذا ما أزفت شمس حياته على الغروب، كانت دمشق تعيش كما سوريا كلها تراجيديا تحولات مؤلمة، صمت صباح قباني عن الكلام فيها وعنها، آملاً أن يغمض عينيه بسلام، تاركاً ابنته (رنا) في لندن، تكتب عن حلم التغيير في سورية الحرة… بضراوة!
---------------
القدس العربي
كاتب وناقد من سوريا