قبلها، حوّلت الشعارات الوطنية، التي رفعها الانقلابيون، دمشقَ نقطةً جاذبةً للبنانيين كانوا مصابين بداء الحنين إلى الوطن الواحد، أي جزء من اللبنانيين. دمشق صارت قِبلَتَهم عندما اتّحدت سورية مع مصر، وزحفوا إليها لاستقبال زعيم هذه الوحدة؛ جمال عبد الناصر. وهؤلاء أنفسهم تمرّدوا عندما شعروا بأنّ رئيس جمهوريتهم كميل شمعون يميل نحو التحالف مع المحور الغربي ضدّ المحور العربي، المُتشكّل حديثاً. خلال هذه العقود، كانت الطبائع اللبنانية تتشكّل، وتختلف عن الطبائع السورية. أبناء “سويسرا الشرق”؛ لقب لبنان في تلك الأيام، يترهّفون، يتأنّقون، يدخلون المدارس المسيحية، أو المدارس الإسلامية التي تُقلّد المسيحية في جودتها. ويختلف تطوّر “الشخصية السورية” في هذه الأثناء، فيأخُذ الاستبداد طريقه نحو نحت معالمها، ويترك بصماته عليها، فيكون السوري الفرد أمام نظيره اللبناني مُختلفاً: مُكفهرّاً، مُنغلقاً، أقلّ انطلاقاً منه، أقلّ كلاماً، أقلّ بشاشة. وكانت صورة السوري في أولى مراحل ارتسامها، وسوف “تتطوّر” هذه الصورة في المستقبل، وتفرز تناقضاتها، وفيها يبدو السوري البسيط، قليل المهارة والتعليم، والإلمام باللغات الأجنبية، التي يعتزّ بها اللبنانيون، ضليعاً بالعربية، ولكن من يهتمّ بالعربية ومدارس “راقية” كثيرة تعلّمها لغةً ثانية؟
وإذا استثنيتَ العائلات الواحدة، الموزّعة بين سورية ولبنان، التي تلتقي في الأعياد ورمضان والمناسبات الأخرى، وهي علاقات تخسر مع الوقت انتظامها، ولا يعود أولئك الأبناء يتعرّفون إلى أقرانهم، في هذه أو تلك من المدن اللبنانية أو السورية… إذا وضعت هذا الاستثناء جانباً، فإنّ بقية السوريين، الذين يحتكّ بهم اللبنانيون، هم من أهل الريف، هاجروا إلى لبنان للعمل في البناء والزراعة وأعمال التنظيف، فكانت صورتهم هي الأقلّ جاذبية من بين العرب الآخرين، الأبعد عنهم. ثم الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، ومنظّمات فلسطينية سورية، مثل الصاعقة أو القيادة العامة، ودخول الجيش السوري إلى لبنان في العام الثاني من بعدها، لوقف تقدّم القوى اللبنانية – الفلسطينية. ومن وقتها، وحتّى نهاية هذه الحرب، اكتسب الجيش السوري مهاراتٍ “قيادية ولوجستية” مكّنته من السيطرة على كامل لبنان، عبر كيانٍ سُمّي “قوّات الردع العربية”، قوّات كانت “مختلطة” في البدء، ولكنّ “القائد” حافظ الأسد نجح في سحب العرب منها بهدوء. لا يمكن التعويل مع نهاية الحرب على رأي لبناني خاصّ في هذه القوات، فاللبنانيون لم يُصدّقوا أنّ الحرب انتهت، فاسترخوا أشدّ الاسترخاء، وكانت سماحتُهم عالية مع كلّ بنود اتفاق وقف الحرب، ينظرون إلى السوريين منقذين، أصحاب ساعة دقيقة، مكلَّفين من القوى الكبرى بإدارة مصيرهم.
وكانت الوصاية السورية على لبنان منذ نهاية هذه الحرب. وكلمة “وصاية” ألطف من الواقع الذي تحاول وصفه، الذي كان تدخّلاً تدريجياً في مناحي الحياة اللبنانية كافّة. السياسيون اللبنانيون “الناجحون”، أي الذين يتوقون إلى بلوغ هذه الغنيمة أو تلك، تحوّلوا مُريدي مندوبَي سورية في لبنان؛ الأول، كان غازي كنعان، ولحقه رستم غزالة. والاثنان أقاما في مجدل عنجر (البقاع)، يأمرون، يخطّطون، يستقبلون الطموحين والأقلّ منهم طموحاً، يُنظّمون الانتخابات، ويفرضون رؤساء للجمهورية، يسهرون على الاسترزاق والمحسوبيات، يهددون، يأمرون بقتل أو ترهيب أو حرق أو هجوم.. وكلّه، تحت كلام أخذ مداه من التكرار والتفسير والدفاع، ومظلّته الكُبرى “العلاقات الأخويّة”، تلك الصفة التي نجهل من فرضها، أو أيّ قوّة واقعية سمّتها، تحتها غيوم من الغموض والالتباسات والارتكابات، والتستّر على الجرائم، والحبكات المشبوهة… إلخ. ولكن، ثمّة من حاول أن يثري هذه “الأخوّة” بمعانٍ تريد لنفسها أن تكون مُحدّدة. فكان شعاران آخران متفرّعان، يشبهان الملهاة؛ “تلازم المسارين” السوري – اللبناني، و”شعب واحد في بلدين”. والأخير، كان له نصيب في الأخذ والردّ، والصيغ الأخرى السُفِسْطائية؛ “شعب واحد في بلدين أو دولتين” و”دولة واحدة لشعبين أو لشعب واحد”، تغذّيها أدبيات القوميين السوريين الوكلاء شبه الحصريين لمشروع “سورية الكبرى”.
رسمت الوصاية صورةً سوريةً لدى اللبنانيين ملؤها الخشية والاحترام والخوف. ولكنّها لم تمحُ صورة سوريين آخرين، أي العمّال السوريين في لبنان. بالعكس ربّما، توسّعت هذه الصورة وتعمّقت، فكان التناقض؛ سوريون يبطشون باللبنانيين، ينظر إليهم اللبنانيون بدونيّة، وسوريون يستغلهم اللبنانيون بصفتهم يداً عاملة رخيصة، يتعالون عليهم، يرمونهم بالأوصاف “سوري؟!” و”الأخ سوري؟!”، وأوصاف هي بذور عنصرية نضجت معالمها مع الوقت. ثمّ الانسحاب السوري من لبنان (2005)، وإشارات أوّلية لما سوف يكون عليه مصير الفئة الأخرى من السوريين. والانسحاب كما نعلم كان على إثر اغتيال رفيق الحريري، والسوريون مُتّهمون بارتكاب الجريمة، فكانت حملات ثأر مُتفرّقة، غير مُنظّمة، ضدّ أفراد من هذه الفئة من السوريين، غضباً وانتقاماً.
في الشهر الثاني من الانتفاضة السورية ضدّ بشّار الأسد (2011)، وفي الجو الاحتفالي للربيع العربي، خرجت تظاهرات لبنانية تنادي بـ”إسقاط النظام الطائفي”، أسوةً بالتي تطالب بإسقاط بشّار لدى الجيران، وغيره من حُكّام تونس ومصر. ثلاث تظاهرات انطلقت كلّها من أحياء شعبية يقطنها عمّال سوريون. كان عليكَ أن تستمع يومها إلى تعليقاتهم، إلى إعجابهم، إلى تحفّزهم، إلى الحماسة التي دبّت فيهم. عن تلك اللحظات، كتب أحدهم أنّ “اللقاء بين الشعبين السوري واللبناني لا يصلح إلا على هذه الصورة”. وكانت الحرب التي سمّوها عُنوة “أهلية”، تبريراً للإمعان في قتل السوريين، وتدخّل حزب الله فيها، ومعارك غير معلنة في البداية، ثمّ الاضطرار إلى الإعلان عنها تحت وطأة معلومات قادمة من جهات أخرى. وكانت نتيجتها أن تهجّر أكثر من مليون سوري إلى لبنان، إلى دولة اللادولة، واللاقانون؛ يد عاملة رخيصة أخرى تُسخَّر في آلة الاستغلال اللبناني المُنْفلِتة من كلّ قانون. فتخرج نغمة أنّهم يُدمّرون الاقتصاد ويحتلّون وظائف اللبنانيين. أو بلدية ما، جيرانها من السوريين سكّان الخيم، ترفع تعليمات بالأوقات المسموحة لـ”نازحين السوريين” (لا اللاجئين) بالتجوّل في الساعات كذا أو كيت. أو جريمة موصوفة يرتكبها زوج إحدى نجمات الغناء، ولا يعود يُسمع عنها شيئاً. أو تزايد الحوادث الأمنية، ودائماً، ثمّة سوري من بين مرتكبيها. أو اقتحام خيم اللاجئين من قبل الأمن أو الجيش. أو التقاعس عن القيام بالمعاملات الرسمية، ثمّ القبض بعد ذلك على المحرومين منها. سوريون يملأون السجون، سوريون يتسلّلون، سوريون يُبحرون من المرافئ غير الشرعية، سوريون هم سبب انهيارنا الاقتصادي، سوريون يزدادون عدداً، يخلّفون كثيراً من الأولاد، يُخلّون بالتوازن الطائفي، سوريون يحرموننا من أموال الأمم المتّحدة، ومن هنا وهناك، أو… أو… كان هذا في البداية. كانت وجهات مُتفرّقة للتعامل المُخزي تجاه اللاجئين السوريين. ولكن، الآن، اتّحدت الجهود، اتّحدت الطوائف كلّها تحت بند واحد: كيف نعيدهم إلى سورية؟ والجميع يعلم أنّ بشّار لا يريدهم، يخفيهم، أو يعيدهم إلى الحدود.
قبل شهر، وفي أثناء الحرب على غزّة، يشذّب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، هذا “المناخ”، ويدعو “الدولة” اللبنانية إلى “فتح البحر” أمام اللاجئين السوريين، بهدف الضغط على الغرب. ويتابع: “لنكن أمام قرار وطني يقول فتحنا البحر، أيّها النازحون السوريون، أيّها الإخوة كلّ من يريد أن يغادر إلى أوروبا، إلى قبرص، هذا البحر أمامكم. اتّخذوه سُفناً واركبوه”. نصر الله حقّق بذلك “الوحدة الوطنية” المطلوبة، وحول بندٍ واحد: المزيد من الفتك في حقّ اللاجئين السوريين. وصرِتَ إذا تكلّمتَ مع أهل أو أصحاب بشأن هذه “الوحدة المُقدّسة”، وهم أناس طيّبون يشعرون بالغير، يتعاطفون بمقدار مع السوريين من النازحين، تسمع منهم الكلام نفسه، لا نريد سوريين في لبنان (!) ولكن، كما في كلّ مرّة، هناك سوريون آخرون. سوريو بشّار الأسد، الذين بدأوا يحجّون إلى لبنان بزيارات بروتوكولية، نصف بروتوكولية، صريحة، يستعيدون أيام الوصاية الذهبية، يُرسلون إلى بشّار كلّ مشاعر الحُبّ، يقيمون المهرجانات لمغنّيات ذوات مواقف الفخر ببشّار والجيش السوري؛ ميادة الحناوي، صاحبة القول المأثور من نوع “أحبّ بشار والّي مشْ عاجْبو يِضرَب”، وفايا يونان، التي تشيد بالجيش السوري، ببشّار، بـ”الانتخابات” التي نظّمها أثناء قتله السوريين.
وجاءت حادثة إطلاق نار على السفارة الأميركية، أخيراً، وبطلها السوري، وداعشيّته المُفترضة، ودوافعه. كلّها أنعشت الثرثرات بشأن “مجرم” سوري يُضاف إلى اللائحة “السوداء”، تتغذّى بها وحدة وطنية ذات بوصلة مُعطّلة. هذا، ولم نتكلّم عن “مكْرَمة” من الأمن اللبناني، الذي تديره دويلة حزب الله. وهذه المرّة، تجاه اللاجئين الفلسطينيين السوريين. أخيراً، فرض هذا “الأمن” رسوماً باهظة على معاملاتهم وأوراقهم، في وقت تحارب هذه الدويلة من أجل “الطريق إلى القدس”.
-------------
العربي الجديد