بنتْ بنيانا لم يُعرف مثله في لندن ونيويورك فخرا وعلوا، ليس جهلا من هذه الحواضر العظمى بالعمران، أو عجزا من مهندسيها عن غزو الكواكب من غير سلّم. أبراجها شاهقة، ليس احتيالا على ضيق المكان، فالمكان فيه سعة وبه مفازات، والدول الأوروبية هي التي طعنت هذه القرون الإسمنتية في بطن السماء، والفرنجة لا يتطاولون كل هذا الطول كسلا أو عجزا، إنما خوفا على الساكنين من قلة الأوكسجين، أو الزلازل. يستطيع مسلحان منع سكان ناطحة سحاب من الخروج وتعطيشهم وقتلهم جوعا، أما إن سكنوا في منطقة أفقية، فيحتاجون إلى كتائب مثل فاغنز لحصرهم وأسرهم.
قبل الأسد -على بخله بالظهور- بمقابلة على قناة "عربية" ، غير روسية أو فارسية، فهم الأشقاء الآن، وحزب البعث الاشتراكي لو صدق لغيّر اسمه إلى حزب البعث الروسي الفارسي، أما الاشتراكية التي كانت شعارا، فصارت رجسا من عمل الشيطان، ولم تعد تذكر قط في الإعلام السوري، كأن الأسد يجتث البعث من غير إعلان. وقد حاورت سكاي نيوز أبو نوفة (الاسم مقتبس من حبِّ أسرة الأسد للرياضيات والأرقام، وعلى رأسها التعبير العددي "نيف").
التقى أبو نوفة في بداية الثورات بعشرات النشطاء والغطاريف، ولم يدر بخلد أحد أن يشترط محاورته على الهواء، أو أنهم طلبوا فرفض طلبهم. كان المحاورون مذهولين برؤية الأسد لحما ودما، وقد نقلوا لنا ما دار بينهم، لكن الأسد لا يعترف بما دار من أحاديث وما عهد من عهود، فكأنها لم تكن، بل إن دار الأسد محروسة، محروزة بالجنود والكلاب، ولا يستطيع أحد اللحاق به إلى باب الدار.
لم يُخترع سحرٌ حتى الآن مثل سحر الكذب، الكذب والكفر توأمان.
أراد مالك قناة سكاي نيوز أن يقدم فقرة سيرك، فهي دولة تحب العروض والزينة، وكان السيرك قد قضى عهده واندثر، فلم يعد الأسد مثيرا. والمروّضون الجدد لا يدرّبون الأسود والفيلة وإنما الأسماك والحشرات، وقد رأى كاتب هذه السطور فيديو لصيني درب أسماكا من أسماك خيار البحر تخوض مباراة كرة قدم، يشوط فيها ميسي السمك، فيسجل هدفا. ورأى نحلا يفتح سدادة قارورة، ونأمل أن نسمع بخبر ذبابة مثل ذبابة النمرود وليس ذلك على الله بعزيز.
وكان المروّض الإماراتي قد أدّى عرضا أفضل مع الشيتلاند المصري في قمة الرؤساء العرب. سترت وسائل الإعلام الإماراتية ذلة الرئيس المصري في حضرة الرز الإماراتي بحبه للمزاحة، فقالت إنه مازحَ المذيع الإماراتي فيصل بن حريز في "الاستجواب"، قائلا: "سيبني يا فيصل دنا ما صدقت"، وذلك بعد استطراده في الإجابة على السؤال الأول!
استطراد يا حبة عيني؟ الرئيس كله استطراد؛ استطراد بحري واقتصادي وبشري، فسَابَه المذيع الكريم، كما تسيب البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقتها سأله الفتوة الإماراتي، عن المدينة الإدارية إن كان هناك فلسفة جديدة لإدارة الدولة المصرية في هذا النطاق. فكان رجاء رئيس مصر، الذي يحكم مصر بنيلها وأهرامها وأزهرها وأقنيتها التلفزيونية، أن يسيبه لأنه يظهر للمرة الأولى على تلفزيون!
جاء صاحب قناة سكاي نيوز بزعيمين عربيين يقودان حاضرتين من أهم حواضر العرب، وهما دمشق والقاهرة، أسَرَتْ إحداهما لويس، وقهرت جيش هولاكو، ودكّت الثانية أسوار القسطنطينية، وبلغت سنابك خيولها كاشغر في أدنى الصين، ليؤديا نمرة في الشو التلفزيوني، عرض تحطيم الحاضرتين العربيتين، ممثلتين برئيسيهما.
وانتظرنا أن يؤدي المذيع نمرة غير نمرة قيادة سلوقيين بساجورين مذهبّين، وفي حكايات ألف ليلة وليلة الكلاب بشر ممسوخة، وخاب ظننا، فالأسئلة طرية، منقوعة في الماء، حتى يمضغها عقل الرئيس الأدرد، كأنها أسئلة من أسئلة مجلة الشبكة والصياد الغابرتين.
ليس للمروّض الإماراتي بلاغة أحمد سعيد ولا جهارة صوته، ولا ذكاء مروان صواف، ولا عناد أحمد منصور. لم يسأل المذيع الأسد عن علاقة الكبتاغون بالقومية العربية، لم يذكّره بسعادته بالتجانس بعد نزوح نصف الشعب السوري، لم يعبْ عليه تعييره أردوغان بانتخاباته التي حرص على الفوز بها، فلم يفز إلا بشق النفس، لم يقتطع له تصريحات من خطاب له عن فشل الدولة في كل شيء، لم يذكّره بالبراميل، لم يذكره بتصريحات له قديمة عن عدد المتظاهرين وشعارات المظاهرات. النيّف علامة الفصاحة، أكبر ناطحة سحاب "منيفة" هي برج خليفة، لم يكن المذيع يريد منه سوى أن يشتم حماس، أو يغضب من السعودية، ومن علاقات العرب الشكلية، العلاقات غير الشكلية هي مع الأشقاء الروس والأشقاء الفرس.
أغلب الظن أن عرض سكاي نيوز مع الشيتلاند كان أجود من عرضها مع الأسد، من غير أن تقصد ذلك، لأن الشيتلاند معتاد على تقديم العروض وفقرات السيرك.
شدّ حيلك يا فيصل في المرة القادمة مع قيس سعيد، كنت تستطيع أن تجعل الشيتلاند يعرق، كما عرق في برنامج "ستون دقيقة"، وتقدر أن تلسع الأسد كالنحلة، وترفرف فوق أذنه كالبعوضة، لكنك لم ترد سوى الظهور مع كلب سلوقي مجرورا بسلسلة ذهبية.
---------
عربي ٢١