حين اعتُقل رياض الترك عام 1980، بعد أن أصدر بياناً يدين عنف السلطة في المعركة مع الإخوان المسلمين، لم يكن يتوقّع أنه سيقضي 18 عاماً في زنزانة انفرادية من زنازين سجون حافظ الأسد، فقد سبق له أن اعتُقل لمدة خمسة أشهر، خلال عهد الرئيس أديب الشيشكلي، وسبق أن اعتُقل وتعرّض للتعذيب، خلال فترة الوحدة بين مصر وسورية عام 1959.. لكن سجن حافظ الأسد كان مختلفاً. لم يعد السجن السياسي في عهده عقوبة تُقضى، أو حالة من حالات السجال – غير الديمقراطي – بين السلطة والمعارضة، بل أضحى حالة من حالات الإذلال المطلق، والتحطيم واغتيال الأعمار والمشاريع والأحلام، حتى لو لم تُدفن تحت التراب. قلّة قليلة ممّن خرجوا من سجون حافظ الأسد قادرون على استكمال حياتهم، والانغماس في الحلم، والمشروع الذي سُجنوا من أجله، كان رياض الترك على رأس هؤلاء القلّة. قابلته في دمشق، بعد أن خرج من السجن في عهد بشار الأسد. كنت قد سمعته، حين تحدث هاتفياً على قناة الجزيرة، بعد موت حافظ الأسد من قلب دمشق، وقال: مات الديكتاتور. كانت الجملة صادمة لنا، رغم ما أشاعته من فرح، ونشوة، وانتصار داخلي. فهاهو أوّل صوت سوري من قلب دمشق يخرج؛ ليُسمي الطغاة بأسمائهم، وعندما سجن عجبنا لسلطة تقتصّ من رجل سبعيني قضى سنوات طويلة في سجون الديكتاتور الذي سمّاه بما يليق، من أجل عبارة خرقت فيض المدائح الإلهية، والتحليلات التهويلية التي تجعل من القاتل قائداً تاريخياً، ومن بائع الجولان الرجل الذي “رحل ولم يوقّع”، كما عنونت جريدة (النهار)، في لحظة دفق عاطفي شعاراتي مبتذل!
حين وقف أحد المحامين مدافعاً عن رياض الترك، قبل إصدار الحكم بسجنه وقال: إن الرفيق رياض لا يقصد ما فُهم من هذه العبارة. وقف رياض الترك بشجاعته الهازئة بالمحكمة، والدفاع معاً: وهل شققت على قلبي يا رفيق؟ شخص سجنني 17 – 18 سنة ماذا سأقول عنه؟!
حين التقيت رياض الترك في بيت أحد الأصدقاء، سحرني صمته، وسط صخب وجدال الجلسة.. حين سألناه لاحقاً عن سرّ هذا الصمت قال: إنه كان غائباً عن العالم، ويريد أن يفهم ماذا حلّ بالناس والمجتمع والمعارضة، قبل أن يتكلم. فيما بعد أدرك هذا الرجل الذي حرص أن يتأمل، ويرى ويفهم ما حلّ بسوريا، خلال سنوات سجنه، أن في المجتمع أغلبية صامتة أهمّ من المعارضة الورقية الهشّة، لابدّ ستنفجر يوماً، وأن المواجهة إن حدثت لا بدّ أن تكون بين الأغلبية الشعبية الصامتة والنظام، لا المعارضة المهزومة التي مازالت تحبو، وقد جعلها النظام على شاكلة القالب الذي قولبها به أو كاد.
صورة رياض الترك الشيوعي، هي ملمح إشكالي آخر من ملامحه، جرى تمييز حزبه بإرفاقه على الدوام بعبارة – المكتب السياسي لتمييزه عن الحزب الشيوعي الأساس الذي تزعمه تاريخياً خالد بكداش. كان رياض الترك النقيض تماماً لصورة خالد بكداش في الوجدان السوري العام. رجل هادن النظام، حين أدرك أن حافظ الأسد، وأجهزة مخابراته أمّموا السياسة بلا أية هوامش، فقرر ألّا يخرج من المشهد، وأن يلعب سياسة مع الديكتاتور الذي يكره الشيوعية، بلغة التأييد المطلق للسلطة، والاحتماء التكتيكي بالاتحاد السوفييتي الصديق في الأزمات. كسب خالد بكداش البقاء تحت الأضواء، وخسر الدور والفعالية والأثر، أمّا رياض الترك، فظلّ في سجنه محتفظاً بالأثر الشخصي على الأقل. ظلّ قضية مشتعلة وحاضرة، لا في وجدان أسرته ورفاقه، ومن عرفوه فحسب، بل في وجدان قوى سياسية خارج الحدود. ولهذا عندما دعي حافظ الأسد، لزيارة فرنسا عام 1998، وكانت الأولى منذ 22 عاماً، تحرّك اليسار الفرنسي، وطالب الرئيس جاك شيراك بإلغاء الزيارة، ما لم يتمّ الإفراج عن المناضل الشيوعي رياض الترك. التقارير التي وصلت إلى حافظ الأسد، والتي أكّدها كلام الرئيس شيراك شخصياً، أكّدت أن الأمر ليس مجرد ضغوطات على السلطة وحسب، بل قد يشمل الأمر نشاطات مزعجة أخرى قد تُفسد هذه الزيارة التاريخية. قرّر حافظ الأسد أن يقطع الطريق على هذا كلّه، ويفرج عن رياض الترك، مدركاً أن الرجل الذي كان يقترب من حيطان السبعين، سيخرج محطماً، وسيكون على هامش مجتمع قضى على كلّ حراكه الفاعل أحزاباً، ونقابات وجامعات، وقوى يمين ويسار.
حين يتحدّث رياض الترك عن التعذيب الذي تعرّض له في سجون حافظ الأسد، يصف ما تعرّض له بـ “السَّلَطَة”، أما التعذيب الذي نال الإسلاميين. شهادة يساري في الألم الإنساني لخصومه الأيديولوجيين. وعلى الدوام علّمنا رياض الترك أن لا خصوم أيديولوجيين له في المعركة ضد الاستبداد، إلا الاستبداد نفسه.
رحل رياض الترك، بعد أن شهد ثورة، طالما تنبّأ بها، وبعد أن عايشها من الداخل، لمدة سبع سنوات، قبل أن يخرج من سورية عام 2018. في ميزان السجال السوري ثمّة الكثير من المآخذ التي يمكن أن تُساق على أداء رياض الترك، وخصوصاً بعد أن غيّر اسم حزبه إلى حزب الديمقراطي السوري، وبات هو الزعيم الذي يحرّك، ويزكّي، ويرشّح، لا الأمين العام الذي يتحمّل المسؤولية في الواجهة. لكن في ميزان القيمة السياسية التاريخية، تبدو صورة رياض الترك استثنائية القيمة والمسار. هنا تختفي التفاصيل، والمآخذ والمماحكات السورية الساخطة، ليبرز رجلاً قارع الاستبداد بصلابة لا مثيل لها، رجلاً علّم الكثيرين معنى الثبات في زمن الانهيارات المتتالية، ومعنى قول لا بأشدّ معانيها وأشكالها رفضاً، واحتجاجاً واستمرارية.
يرحل رياض الترك الرجل التسعيني الذي قضى نحو ربع عمره في السجون. يرحل مؤمناً بانتصار السوريين على جلاديهم، رغم إيمانه بأن المعركة ما كانت، ولن تكون سهلة. يرحل رياض الترك الذي رفض في حواراته أن يكون أباً للثورة؛ لأنه وصف مشهد التغيير المُتّقد بروح الشباب: “الثورة في العشرين والمعارضة في السبعين”. يرحل رياض الترك، وقد ترك للسوريين مثالاً، ورمزاً تاريخياً تبحث عنه كلّ الشعوب الحرّة. فالفتى الحمصي الذي ولد عام 1930 ونشأ في دار للأيتام، وبدأ نشاطه السياسي، أثناء دراسته للحقوق في جامعة دمشق، وكان عمره لا يتجاوز الـ22 عاماً… غدا بعد عشرين عاماً قضاها في سجون الأسد الأب والابن، أيقونة الحرية، وسقفها الأعلى والأنبل والأكمل، الذي لن يمحو حضورها تعاقب العهود والعصور. فما كل يوم تُولَد روحٌ عظيمةٌ كروح رياض الترك، تُعلّمنا معنى الشرف العظيم في زمن الخوف والاستبداد.
----------
العربي القديم