اللواء السابق استغل معاناة أهالي المعتقلين في واحدة من أكثر القضايا حساسية في الذاكرة السورية. وبحسب التفاصيل، فإن عائلة الشقيقين حسن وأنس صعب، من بلدة السماقيات في ريف حمص، كانت من بين ضحاياه، حيث وعدهم بإطلاق سراح ولديهم مقابل مبالغ مالية ضخمة، مقدماً أوراقاً رسمية موقعة من جهات عسكرية. ليتبيّن لاحقاً أن الشقيقين كانا قد فارقا الحياة منذ سنوات داخل المعتقلات.
ورغم نجاح الأمن العام السوري في القبض على محمود عمار، فإن القاضية هناء علي الأغا أصدرت قراراً مفاجئاً بالإفراج عنه في 17 نيسان/ أبريل، تحت ذريعة "تقدمه في السن"، متجاهلة الكم الكبير من الشكاوى ضده، واعترافه المباشر بالوقائع.
"المال لا يهم، بل وجع القلوب"
في سياق متصل، نشرت "أم عبد الله السعود"، والدة أحد المعتقلين من مدينة معرة النعمان، شهادة مؤلمة وثّقت فيها تفاصيل تعرضها للنصب من قبل اللواء عمار، واصفة ما جرى بـ"الاستهانة بآلام الأمهات والتلاعب بمشاعر من ينتظرون أبناءهم في ظلمة الفقد".
تقول أم عبد الله إنّ القصة تعود إلى شهر رمضان عام 2014، حين أخبر أحد أبناء مدينتها زوجها، الطبيب مازن السعود، أنه على صلة بضابط في القصر الجمهوري يمكنه المساعدة في إطلاق سراح ابنهما المعتقل عبدالله، مقابل مبلغ مالي.
"بدأ زوجي يتسلّق تلال كفرنبل بحثاً عن إشارة هاتف ليتواصل مع المجرم أبو حيدر، الضابط محمود عمار، الذي طلب دفعات مالية متتالية، أرسلناها عبر مكاتب تحويل في الغدفة... وكل مرة كنا نتلقى وثائق رسمية تؤكد انتقال ملف ابننا من محكمة الإرهاب إلى المصالحة، ثم إلى العفو، وأخيراً إلى البراءة"، تروي الأم.
مع كل وثيقة، كانت العائلة تستعد لاستقبال عبدالله. "اشتريت له ملابس جديدة، نظّفنا المنزل، وانتظرناه أيام العيد على أمل أن يطرق الباب في أية لحظة"، تقول أم عبدالله بصوت متكسر، قبل أن تضيف: "لكن الأمل تلاشى. بدأ الضابط بالمماطلة، ثم انقطع التواصل. مرت شهور ونحن على هذا الحال، إلى أن وصلتنا شهادة وفاة عبدالله بتاريخ 15 نيسان 2014، أي قبل 4 أشهر من بداية عملية النصب".
قضاء متواطئ ومتهمون بلا محاسبة
قضية اللواء محمود يونس عمار فتحت مجدداً ملف العدالة في سوريا، ومدى تورط بعض القضاة في حماية المتهمين وتبرئتهم رغم الأدلة. القاضية هناء علي الأغا، بحسب نشطاء حقوقيين، معروفة بسجلّها المثير للجدل في ملفات تتعلق بمعتقلين سياسيين، وقد وُجهت إليها اتهامات سابقة بالتغاضي عن قضايا فساد وتجاوزات أمنية.
وفي تعليق لأهالي الضحايا، قال الطبيب أسعد حسن الشيباني، أحد ذوي المعتقلين: "نحن لا نطالب فقط بمحاكمة الضابط محمود عمار، بل نطالب أيضاً بمحاسبة القاضية التي أخلت سبيله، وكل من تستر على جرائمه".
ويطالب أهالي الضحايا الحكومة السورية الجديدة بإعادة النظر بشكل جذري في بنية القضاء، وتطهيره من "القضاة الشبيحة"، الذين كانوا جزءاً من منظومة الاستبداد والفساد، مؤكدين أن أي عملية عدالة انتقالية لا يمكن أن تكتمل دون محاسبة عادلة لكل من تورط، ولو بطريقة غير مباشرة، في تعذيب المعتقلين أو المتاجرة بآلام أهاليهم.
تأتي هذه القضية لتعيد إلى الواجهة واحدة من أكثر القضايا حساسية في مسار العدالة السورية، وهي استغلال المأساة الإنسانية من قبل عناصر أمنية سابقة ومسؤولين سابقين في مؤسسات الدولة، لتحويل معاناة المعتقلين إلى مصدر كسب غير مشروع، تحت أنظار قضاء وُصف طويلاً بأنه أداة بيد النظام السابق.
ورغم صدور تقارير وشهادات متعددة من ضحايا وشهود حول انتهاكات عمار، لا يزال هذا الملف بحاجة إلى تحقيق جنائي شفاف وشامل، يكشف شبكة الفساد التي امتدت لعقود تحت مظلة النظام الأمني، والتي لم تنتهِ بزواله، بل تتطلب تفكيكاً ومساءلة قانونية شاملة.