-
- هذا المقال هو الثالث ضمن ملفّ «جدل المقاومة: أسئلة من حرب غزة»، يكتبه لاجئٌ فلسطينيٌ سوريٌ في ألمانيا باسمٍ مُستعار هو أمجد علي، واضطراره لاستخدام اسم مستعار في بلد لجوئه جزءٌ من الحكاية. نُشِرَ قبله في الملفّ مقال صادق عبد الرحمن «الطغيان ومقاومته: في سؤال المسؤولية »، ومقال شكري الريان «من المقاومة إلى المقاولة ».
*****يعرض المسلسل البرازيلي «3%» وضعاً بائساً لا يمكن تَخيُّلُ وجوده في الواقع، حيث يعيش أغلب السكّان في فقر مدقع وقمع مستمر، مع فرصة ضئيلة للخروج من هذا الوضع بالانتقال إلى منطقة الوفرة، وذلك عن طريق اختبار صعب يتجاوزه فقط 3 بالمئة من المتقدمين. لكن الواقع في غزة يتجاوز تَخيُّلات المسلسل، والحديثُ هنا عن ما قبل السابع من أكتوبر؛ إذ واجه السكان حياةً تحت الحصار والفقر والقصف المتكرر، مع شبه انعدام لفرص تغيير هذا الواقع المرير. في غزة، عانى الناس من نقص في الموارد الأساسية والخدمات، ما دفعهم للبحث عن أي فرصة لتحسين حياتهم، حتى لو تطلَّبَ ذلك مُخاطرة كبيرة. وكما في مسلسل «3%»، حيث يتمسّكُ الناس بالأمل ويحاولون بكل جهدهم الانتقال إلى حياة أفضل، نجد سكان غزة يبحثون عن مخرج من ظروفهم الصعبة، سواء عن طريق الهجرة أو عن طريق محاولات مستحيلة لتغيير واقعهم.
في هذا السياق جاءت عملية طوفان الأقصى، حتى أنه لا معنى للحديث عنها دون وضع هذا السياق في الاعتبار، وهي بالتأكيد غيَّرت الواقع في قطاع غزة والكلّ الفلسطيني، وتختلف الآراء والتحليلات اليوم بشأن ما إذا كان هذا التغيير سيحمل مستقبلاً أفضل أم أسوأ للفلسطينيين وقضيتهم.
هل كانت العملية التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر مغامرة غير محسوبة؟ هل كان يمكن أن تكون محسوبة تماماً أصلاً؟ وهل يمكن لما يجري على فظاعته أن يفتح باباً للشعب الفلسطيني للخروج من وضع «3٪»؟هل بدأت الإبادة في سبعة أكتوبر؟
كنتيجة لسياسات استقدام المستوطنين الجُدد ذوي الميول الدينية الصهيونية، بهدف إسكانهم في مستوطنات الضفة الغربية، استطاع هؤلاء تنظيم أنفسهم مُعطين للصهيونية الدينية دفعة سياسية قوية، جعلتها قادرة على تَصدُّر المشهد السياسي بعد تحالفها مع حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو.
لم يُخفِ هذا التيار أجنداته حتى بعد الوصول رسمياً إلى السلطة وتَسلُّم مقاعد وزارية في 2022، حيث بقي يُطالب علناً بضرورة ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن وفلسطينيي غزة إلى سيناء. وكانت هذه المطالبات تأتي في سياق من الحصار الشامل على قطاع غزة وتدمير شروط الحياة فيه، وخنق شروط الحياة في مناطق الضفة ومصادرة المنازل والأراضي الزراعية، وحصار الفلسطينيين في منعزلات منفصلة عن بعضها بعضاً بشبكة من المستوطنات والطرق التي يُمنَع الفلسطينيون من استخدامها، وبالتالي تحويل الضفة إلى مكان يصعب العيش به.
علينا أن نتذكَّرَ هنا أنه رغم انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، إلا أن القانون الدولي بقي يعتَبر القطاع محتلاً، بسبب استمرار السيطرة الإسرائيلية المُطلَقة على كل منافذ القطاع البرية والبحرية والجوية، إضافة إلى سيطرته الكاملة على شبكات الاتصال وأجزاء مهمة من البنية التحتية أهمها المياه النظيفة والوقود. تضمّنت الممارسات الإسرائيلية في غزة حصاراً طويل الأمد، عمليات عسكرية دورية، وقيوداً شديدة على الحركة والاقتصاد، ما أدّى إلى معاناة كبيرة للسكّان. وقد وصفت منظمات حقوقية هذه الممارسات مراراً بأنها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وفي الواقع، تتطابق ممارسات إسرائيل، منذ ما قبل السابع من أكتوبر، مع البنود الثلاثة الأولى من المادة الثانية لاتفاقية «منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»:
«في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المُرتكبَة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى».
هذا كلّه قبل السابع من أكتوبر، وقد كان مَردُّ التردُّدِ في وصف الممارسات الإسرائيلية بأنها إبادة جماعية هو أنها تتطلّبُ إثباتَ نية الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة معينة، وهو ما يُشكّل تحدياً قانونياً وسياسياً كبيراً، وذلك رغم وجود سياسة قتل متكرر إسرائيلية مُعلَنة يسميها كثيرون من بينهم مسؤولون إسرائيليون «جزّ العشب»، التي يمكن اعتبارها عملية إبادة بطيئة وطويلة الأمد.
خلاصة القول إن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومحاصرته لم يَكُن إلّا احتلالاً بتكاليف أقلّ، مكّنَ الاحتلال من التحكم بحياة الفلسطينيين، ومن ممارسة عمليات إبادة وقتل جماعي متكررة في دورات زمنية تتراوح بين عامين وأربعة أعوام.
هذا الوضع هو ما دفع كثيرين، منهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتيريش، إلى القول إن عملية طوفان الأقصى لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة سياق تاريخي طويل يمتدّ منذ النكبة الفلسطينية، أي أن العملية هي انفجارٌ نتيجة انسداد الأفق والأمل في وجه الفلسطينيين وتحديداً في قطاع غزة. ولم يكن هذا الانفجار هو الأول.
في العام 2008 تدفّقت مجموعات كبيرة من السكّان الغزيين، قُدِّرَت بحوالي مليون ونصف المليون فلسطيني، مخترقين الحدود المصرية بعد أن تم تفجير السياج الذي بُني عام 2003، متجهين إلى رفح المصرية والعريش للتزوّد بالمواد التموينية التي فُقِدَت في القطاع نتيجة الحصار الإسرائيلي والمصري المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية. وفي العام 2018، في ذكرى يوم الأرض في 30 آذار (مارس)، انطلقت «مسيرات العودة وكسر الحصار»، التي قابلها الاحتلال بطريقة عنيفة لا تتناسب مع الطابع السلمي لهذه المظاهرات، إذ راح ضحيتها 215 فلسطينياً إضافة إلى نحو عشرين ألف جريح.
أما عملية طوفان الأقصى، فقد جاءت مُختلفة عن تلك الانفجارات رغم أنها وليدة الأسباب نفسها، ذلك أنه تم التخطيط لها بطريقة عسكرية احترافية، ما يجعلها انفجاراً مخططاً له من قبل جهة مسلّحة بعينها.عن الجهة التي خطّطت للانفجار وارتباطاتها وتَحوّلاتها
كانت حركة حماس هي المُخطِّطَ والمُنفِّذَ لعملية طوفان الأقصى، وعلى ما يبدو بطريقة سرية جداً، إذ لم يكن لفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى علمٌ بالعملية، ولم تبدأ مشاركتهم إلا بعد أن اخترقَ مقاتلو القسّام حدود القطاع؛ الجوية عن طريق الطائرات الشراعية، والبرية بعد أن فجَّروا أجزاء من السور الذي يحاصر القطاع من كل الجهات، ومن هذه الفتحات دخلت لاحقاً باقي الفصائل إضافة إلى أعداد غفيرة من المدنيين سيراً على الأقدام أو بالدرّاجات.
كذلك يبدو أن حلفاء حماس في «محور المقاومة» لم يكن لهم أي علم بالعملية، ورغم تأكيدهم في كل مناسبة مُتاحة على مباركة العملية، كانوا ينفون مراراً أي علم أو صلة لإيران بها، كما أعلنت الإدارة الأميركية أنها لا تملك أي أدلة تشير إلى أن إيران متواطئة في الهجوم. وبحسب رويترز، قام المرشد علي خامنئي بتأنيب إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحماس، لعدم قيام الحركة بوضع إيران في الصورة، وأبلغه أن إيران لن تدخل الحرب نيابة عن حماس. نفت حركة حماس ما نقلته رويترز ، لكن الأجواء كلها كانت ولا تزال تشير إلى أن المحور لم يكن مستعداً للتعامل مع تبعات حدث بهذا الحجم، وتشير في الوقت نفسه إلى أهمية تحالف حماس مع «المحور» بالنسبة للطرفين.
يبرر كثيرون لحماس انخراطها في «محور المقاومة» نتيجة تعرُّضها لحصار ونبذها من مختلف الدول العربية، وتحديداً جلّ دول الخليج إضافة إلى مصر، وهكذا تَظهرُ إيران كداعم وحيد لحماس بالمال والسلاح والخبرات، لكنها تجني في مقابل دعمها أضعافاً مضاعفة، ذلك أن شرعية «المحور» بالكامل تُستمَدُّ من القضية الفلسطينية.
لكنه من الواجب القول إن هذه العلاقة لم تُحوِّل حماس إلى أحد الأذرع الإيرانية كما هو حال حزب الله وجماعة الحوثي مثلاً، وهو ما بدا واضحاً بعد الثورة السورية عام 2011 وانحياز حماس لها ومشاركتها الفاعلة فيها، ما أدّى إلى خروج خالد مشعل رئيس الحركة حينها من سوريا في 2012. وقد شارك فلسطينيون سوريون كثيرون بقوة في أنشطة الثورة السورية السلمية والسياسية والإغاثية والمسلّحة، بما فيها مشاركة عسكرية إلى جانب فصائل الجيش الحر، كانت حماس من أبرز الفاعلين فيها كما تقول شهادات ومصادر كثيرة لا مجال لاستعراضها هنا.
يبدو قولُ هذا ضرورياً اليوم لأن كثيرين باتوا يتجاهلون الدور الفلسطيني المنخرط في الثورة السورية، ويُسلّطون الضوء أكثر على «شبيحة» النظام من الفلسطينيين، ولأن كثيرين يتحدثون عن حماس كما لو أنها فصيلٌ إيراني.
كانت التشكيلات المُؤسَّسة من قبل حماس أو المدعومة منها ضمن الثورة السورية، ومن أبرزها «كتائب أكناف بيت المقدس» التي أسّسها مسؤول الحركة في سوريا يحيى الحوراني، تنتهج نهجاً إسلامياً يمكن تصنيفه ضمن الوضع السوري بالمعتدل، وهذا ما جعلها في حالة صِدام ليس مع النظام فحسب وإنما مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة أيضاً، ولم يُعرَف عن هذه التشكيلات أي ممارسات منهجية من القتل العشوائي والسرقة والبلطجة.
كما أن انخراط حماس ضمن الثورة السورية جعلها في حالة صِدام مباشر مع المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، فدخلت العلاقة بينها وبين إيران في حالة برود لم تَعُد إلى سابق عهدها حتى تسلَّمَ يحيى السنوار رئاسة الحركة في قطاع غزة عام 2017، وهو الذي لعب مع القيادي صالح العاروري دوراً رئيسياً في مسار إعادة إحياء هذه العلاقة، الذي تم تتويجه بإعادة العلاقات مع النظام السوري في 2022.
بعودة علاقتها مع النظام السوري، قدمت حماس تنازلاً لم تجنِ منه شيئاً، بينما استمرّت شيطنتها من قبل النظام السوري وتحديداً بشار الأسد رأس النظام، كما أنها خسرت كثيراً من شرعيتها الشعبية فلسطينياً وعربياً، وتسبَّبَ ذلك في خلافات حادة داخل صفوف الحركة، سواء من القواعد أو القيادات التي انتقد بعضها علناً تَوجُّه الحركة الجديد .
لقد خرجت الحركة من دمشق في 2012 في موقف جريء، رفعَ أسهمها لدى الشعب السوري خاصة والشعوب العربية عامة، لتعود بعد عشرة أعوام بموقف هزيل خسرت بسببه كل المكاسب الأخلاقية والجماهرية المتراكمة خلال هذه الأعوام. إن دخول حركة حماس في المناورات البراغماتية عادةً ما يترتب عليه نتائج عكسية، لكن ليست تحالفات الحركة مع «محور المقاومة» و مناوراتها السياسية هي ما يمكن نقد حماس عليه فقط، بل الإيديولوجيا التي تحملها أيضاً.
طالبَ ميثاق حماس لعام 1988 ببناء «دولة فلسطينية إسلامية»، لا بل طالبَ منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلي عن علمانيتها وتبني الإسلام منهجاً: «يومَ تتبنى منظمة التحرير الإسلام منهجَ حياة، فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء». إن محاولة أسلمة مؤسسات الثورة، ولاحقاً الدولة، أمورٌ ستؤدي بالضرورة إلى تهميش أجزاء واسعة من الشعب الفلسطيني، وإلى خسارة حلفاء عالميين لا يرون في القضية صراعاً دينياً بل قضية شعب يرزح تحت احتلال استيطاني استبدالي، وقضية إنسانية عالمية وجزءاً من الصراع مع القوى الإمبريالية. والأهمّ أن بناء الدول على أساس ديني يخلق بالضرورة سلطات وأنظمة دكتاتورية، تُميّّزُ بين مواطنيها وتُمّيزُ ضد النساء على وجه الخصوص، ولا يمكن لها أن تُنتِجَ دولة لكل المواطنين، خلافاً لمشروع دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة، الذي يشكل تناقضاً جوهرياً مع المشروع الصهيوني.
وقد تبدّلَ موقف الحركة النظري في وثيقتها لعام 2017 : «منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية تضمن مشاركة جميع مكونات الشعب الفلسطيني وقواه، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية». شكَّلت تلك الوثيقة من هذه الناحية تحولاً إيجابياً، لكنها حملت كثيراً من المناورات السياسية التي ترفض اتفاق أوسلو لفظاً بينما تُبدي وراء السطور مرونة تجاهه.
قد تنسى الحركة أنه ليس نهجها الإسلامي، ولا مناوراتها البراغماتية التي قادتها إلى حكم جزء من الشعب الفلسطيني، هي الأمور التي ساهمت في صعود نجمها، بل موقفها الجذري الثابت من حقوق الشعب الفلسطيني بالتزامُن مع تراجع منظمة التحرير الفلسطينية عن دورها التحرّري بعد اتفاقية أوسلو، التي شكلت مَخرجاً مُربِحاً للاحتلال من الانتفاضة الأولى دون أن يُقدِّمَ أي تنازلات جدية، بل خلقت السلطة الفلسطينية التي تحكمت بالمنظمة وأضعفت دورها بشدة، والتي تحولت إلى أحد أجهزة الاحتلال الأمنية في قمع الشعب الفلسطيني، بينما راحت إسرائيل تُعزّز من سياسة مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والحصار والخنق والقتل.
يهدف العرض أعلاه إلى التذكير بظروف وتاريخ الجهة التي خططت للانفجار، وإلى القول إنها ابنة مسار معقّد فيه الكثير مما يمكن انتقادها عليه بما في ذلك ممارساتها السلطوية، دون أن يكون ممكناً اختزالها في أنها «مجرّد ميليشيا تُشكّل جزءاً من محور المقاومة»، ودون أن يكون ممكناً تجاهل المسار الذي قاد إلى لحظة سبعة أكتوبر كما لو أنها لحظةٌ جاءت من الفراغ.هل كان يمكن التخطيط لانفجار «محسوب»؟
راكمت حركة حماس خلال الأعوام الماضية انتكاسات متتالية، جعلتها تخسر الكثير من شرعيتها وحاضنتها الشعبية، إلى أن نفّذت عملية السابع من أكتوبر، التي أعادت لها كثيراً من الجماهيرية المفقودة خاصة بعده صمودها المفاجئ في غزة خلال الأشهر الثمانية الماضية.
ويتم نعتُ العملية بأنها «مغامرة غير محسوبة» نتيجة حرب الإبادة الجماعية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، إلا أن مثل هكذا نعت قد يتم استخدامه، ولو من غير قصدِ أصحابه، لإعفاء الاحتلال وحلفائه من المسؤولية عن هذه الإبادة، بينما هم وحدهم المسؤولون عنها وعن معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ أكثر من مئة عام. ثم كيف يمكن أن تكون أفعال المقاومة «محسوبة» وهي ستجرّ رداً من الاحتلال حتماً؟ هل يعني ذلك أن المقاومة نفسها يجب أن تتوقف عند اختلال موازين القوى مع المُستعمِر؟
هل ينطبق وصف «المغامرة غير المحسوبة» مثلاً على حرب التحرير الجزائرية بين عامي 1954 و1962، حين قتلت فرنسا بدعم من الناتو وإسرائيل مليوناً ونصف المليون جزائري في حرب إبادة أجهزت على ما يقارب سُدس الشعب الجزائري. أدّت هذه التضحيات الجَمّة في نهاية المطاف إلى إعلان استقلال الجزائر في الخامس من تموز (يوليو) 1962، كما تحولت الثورة الجزائرية إلى رمز عالمي للتحرَّر من الاستعمار، اقتدت بها العديد من حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها حركة التحرّر في جنوب أفريقيا.
كي تخرج حركة نضالية ضد الاستعمار، أو أي شكل من الطغيان المديد المُنظَّم، من حالة المغامرة غير المحسوبة، فإنه يجب تَوافُرُ مجموعة من الظروف الذاتية والموضوعية التي تضمن تفوّقَ، أو على الأقل تكافؤ القوى، بين المُستعمَر والمستعمِر أو بين قوى الطغيان والقوى التي تقاومها، وهذا يَشترِطُ بدءَ انهيار المُستعمِر أو القوة العدوانية.
في الحالة الفلسطينية، لم تكن تلوح لا في المدى القريب ولا البعيد أي ملامح انهيار للمشروع الصهيوني، ذلك باستثناء التنافر الذي بدأ يظهر بين الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية، والذي راهنَ عليه بعض المفكرين من أمثال إيلان بابيه كبداية انهيار هذا المشروع، بينما قد يقود هذا التنافر فقط إلى شكل من أشكال التحول في النظام القائم، شبيه بالتحول من الاشتراكية إلى الليبرالية الذي حدث في ثمانينيات القرن الماضي، إذعاناً للمساعدات الأميركية التي أنقذت إسرائيل من الانهيار الاقتصادي.مكاسب رغم الخسائر الرهيبة
يبدو من المبكر الحديث عن ما قد يحققه الشعب الفلسطيني من مكاسب رغم خسائره الفادحة، المكاسب التي سيضيع كثيرٌ منها على ما يبدو بسبب عجز القيادات السياسية الفلسطينية عن الالتقاء في جسم سياسي قادر على التعبير عن تطلّعات الشعب الفلسطيني، وعلى استثمار التضحيات العظام التي قَدَّمها ويُقدِّمها بشكل يومي.
إلا أن العملية استطاعت أن تُعيدَ خلط الأوراق في المنطقة، فبعد اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية بين العديد من الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي، تم تعزيز العلاقات في مجالات الاستثمار بين إسرائيل ودول عربية، وخاصة الإمارات العربية المتحدة التي غيّرت قوانينها لتفتح الباب على مصراعيه أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي. كما شرَعت الدول المُطبِّعة بملاحقة الفلسطينيين، وبدت وسائل الإعلام التابعة لها، وتحديداً في الإمارات والبحرين، جزءاً من الهاسبرا الإسرائيلي مع الدور الذي لعبته في تشويه وشيطنة الفلسطينيين. وكانت السعودية قد بدأت تحذو حذو الدول المُطبِّعة الأخرى، ثم جاءت العملية التي أَخَّرت التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى أجل غير معروف، وأدّت إلى إرباك خطط «المسار الإبراهيمي».
ويبدو أن الإيرانيين حلفاء حماس كانوا ممن خُلطت أوراقهم أيضاً، فقبل قرابة الشهرين من العملية بدا أن الجليد في التفاهمات الأميركية الإيرانية قد بدأ بالذوبان، من خلال اتفاقية تحرير السجناء الخمسة مقابل تحرير 6 مليارات دولار لصالح إيران كانت قد جمّدتها كوريا الجنوبية. شكَّلَ ذلك أملاً جديداً للإيرانيين في تفكيك الحصار الاقتصادي المضروب عليهم، خاصة أن صادرات إيران من النفط ارتفعت لتصل إلى أكثر من 1.5 مليون برميل يومياً، رغم أن إيران قدمت مقابل ذلك تنازلات من جيب دولٍ أخرى وتحديداً لبنان، عندما باركَ ودعمَ حزبُ الله ترسيم الحدود البحرية بين الحكومة اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي، باتفاقية لا يمكن أن يُفهَمَ كيف تم التوقيع عليها إلّا ضمن هذا السياق.
وحتى تركيا لم تسلَم من خلط أوراقها، بعد أن أعادت علاقاتها الدبلوماسية وطَوَّرت علاقاتها التجارية مع إسرائيل. لم يظهر من الحكومة التركية في البداية سوى تصريحات بلا أفعال، إلى أن شعر حزب العدالة والتنمية بمعاقبة أنصاره له في الانتخابات البلدية الأخيرة، وهذا ما دفعه لاتخاذ إجراءات تجارية غير مسبوقة وصلت حدّ قطع العلاقات التجارية بالكامل، ومن ثم إعلان تركيا انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية.
كذلك فإنه حتى إذا كانت العملية مغامرة غير محسوبة، فإن ردّ الاحتلال الإسرائيلي الإبادي يبدو رداً غير محسوب بدوره أيضاً. لقد تم إحياء القضية الفلسطينية بعد أن كانت تُدفَعُ دفعاً إلى التصفية والنسيان والتجاهُل، وباتت الآن تتصدّرُ المشهد العالمي بشكل غير مسبوق لم تشهده في تاريخها منذ النكبة، ومن سوء التقدير عدم الاهتمام بالحراك العالمي وعدم التعويل عليه، وتناسي الدور الذي يلعبه التضامن العالمي في انتصار حركات التحرر، ولنا في التضامن مع جنوب أفريقيا ونتائجه خير مثال على ذلك.
لا يمكن لحركات التحرر الانتصار دون دعم وتضامن عالمي، ولا ينشأ التضامن العالمي تلقائياً نتيجة وجود الضحية، وإنما يستلزم الأمر بالضرورة أن تناضل الضحية.
اليوم، تحظى القضية الفلسطينية بتأييد شعبي عالمي ساهمَ حتى في إحياء اليسار في العالم وإعادته إلى الواجهة من جديد. خرجت المظاهرات بالملايين في مختلف دول العالم، وعاد للطلاب إلى دورهم الفاعل بعد أن همّشه النظام النيوليبرالي الجديد، ليمتد الحراك الطلابي من جامعات الولايات المتحدة إلى كثير من الجامعات الأخرى في مختلف دول العالم. قوبلَ الحراك الشعبي والطلابي بقمع غير مسبوق، يضع أنظمة دول ترفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان مثل الولايات المتحدة وألمانيا أمام امتحان تاريخي. كما أن مشاركة كثير من اليهود في العالم، ومنهم ناجون من الهولوكوست، في المظاهرات الداعمة لفلسطين، باتَ يُفرِغُ تهمة معاداة السامية من معناها، خصوصاً عند قيام قوات الأمن بضرب وسحل واعتقال العشرات منهم وعلى مرأى ومسمع من الجميع. يدلّ هذا العنف على سقوط هيمنة السردية الصهيونية في دول المركز العالمي، التي لم تضطر سابقاً لاستخدام العنف ضد مُعارضي هذه السردية.
كذلك انتعشت حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل اقتصادياً وثقافياً وأكاديمياً، ثم جاء إعلان كلٍّ من إسبانيا وايرلندا والنروِج الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الأمر الذي يشكل أهمية رمزية بالغة ستدفع بالضرورة دولاً أخرى إلى المسار نفسه.
كذلك، دفعَ الردُّ الإسرائيلي غير المحسوب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، ورغم أن ثمة شكوكاً بشأن انحيازه لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، إلى طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، وذلك رغم فضائح التهديدات التي تلقاها ومعه محققو المحكمة من إسرائيل والدول الداعمة لها، التي ستجد نفسها في مأزق قانوني ودبلوماسي في حال صدور مذكرات الاعتقال.
أما الدعوى المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، التي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإنها في حال انتهت إلى حكم من محكمة العدل الدولية بإدانة الاحتلال بهذه الجريمة، ستكون مؤشراً على بداية هزيمة الاحتلال. تاريخياً، لم يُحاكَم أي منتصر وإن كان احتلالاً، وإنما المحاكمات تكون دائماً للمهزومين.
قد يكون مبكراً الحديث عن أننا ذاهبون فعلاً في هذا المسار، لكن علاماته تلوح في الأُفُق.
----------
الجمهورية
-
عيون المقالات
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق
12/11/2024
- عبد الناصر حوشان
هل تتهدد الحرب الأهلية لبنان؟
10/11/2024
- حازم صاغية
رئاسيات أمريكا والصوت اليهودي: أبعد من أطرش في الزفة
09/11/2024
- صبحي حديدي
|
ردّاً على الإبادة وليس سبباً لها
|
|
|