تتعثر الكلمات في أفواهنا جميعاً حينما نريد أن نصفها، تتكئ الحروف على زوايا أفواهنا شبه المفتوحة، لثوانٍ، ريثما تقوم ذاكرتنا وحواسنا ومبادئنا وجرأتنا وانحيازنا باختيار الكلمة المناسبة للموقف، أو للشخص الذي نوجه إليه الحديث، وتتعدد معها المعاني: «الأزمة»، «الحرب»، «الأحداث»، «الث…و…ر…ة»، هسسسسسس، اخرسي، ريتها لم تكن، وليتهم لم يثوروا ويخربوا الدنيا. ثم تكون لعنات وشتائم عليها، ثم أجدني منخرطة مع حفلة اللعنات والشتائم إذا كان الموقف يستدعي ذلك، وأحياناً إذا كان لا يستدعيه حتى. الخوف هنا هو سيد الموقف، ليس الخوف… النفاق سيد الموقف، ولا النفاق… بل التأقلم سيد الموقف، بل لعلّه الرضى، لعلّه التماهي، لعلّه القبول والتسليم، لعلّه الاقتناع بأنها أزمة، أو بأنها أحداث، يمكن حرب، لكنها أبداً، أبداً ليست ث…و…ر…ة
قلنا هسسسسس، اخرسي.
أنا الآن مُكممة الفم، يداي مقيدتان خلف ظهري، جالسة على كرسي، وعقلي وحواسي وصوتي في عينيّ فقط، ولولا الشاشة التي أمامي لكنتُ جُننت، أو ربما أنني فعلاً جُننت. على الشاشة الآن رسالة تقول: اكتبي لنا، اكتبي ما ترينه، اكتبي ما تشاهدينه، أنت الآن في منطقة تحت سيطرة النظام، منطقة مغلقة أمام كل صوت مختلف، والصورة تبدو غائمة، اكتبي وأرسلي لنا، لعلنا نستطيع أن نفهم. أحاولُ أن أحرّك يديَّ لكنني أشعرُ أنهما مقيدتان، وأحاولُ أن أفتح فمي لكنني أشعرُ أنه مكمم. تحمرُّ عيناي من الغضب، وأصابُ بألم الخوف في أحشائي، لأنني أخاف، أ…خ…ا…ف، أخاف أن أكتب ما أحسّه وما أشاهده، وذلك لأنهم في كل مكان، عيونهم تلاحق المرء أينما ذهب.
تخطر في بالي جملة أورويل في روايته 1984، «الأخ الكبير يراقبك». أينما أتلفت هناك لافتة تقول «الأخ الكبير يراقبك»، لتصبح «الأب الكبير يراقبك»، أو «الابن الكبير يراقبك»، إنهم في الشارع، في السرفيس، في البقالية، في المقهى، في محلّ تصليح الأحذية، في محلات الثياب في الطابق الأعلى، وفي الحديقة يأكلون غزل البنات ويتغزلون بالفتاة الجميلة التي مرّت بدلال منذ قليل أمامهم.
– لن يلتفتوا إليكِ، لقد ملّوا…اكتبي لنا؟
– عن ماذا؟
– عن دمارها، عن…، أهلها، عن أحيائها، عن التعايش بين سكانها، اكتبي ما ترينه.
أنا الآن في البيت، أسمع أصواتا ذكورية عالية، يأخذني الفضول للخروج إلى الشرفة، هناك شبانٌ كُثُر، شبانٌ مراهقون لم يتجاوزوا السبعة عشر عاماً، يمشون في الشارع معاً مُشكلين تجمعاُ كبيراُ، هم الآن يصرخون، يغنون، ويصفقون، ويهتفون، يهتفون! وكأني أسمع النغمة نفسها، وكأني أسمع الهتاف نفسه، يخفق قلبي من دون توقف، يقولون: «عالجنة رايحين…»، يأتي صوت يوقظني مثل صفعة: «غبية، بل يقولون: عالملعب رايحين…، فاليوم مباراة هامة لفريق الكرامة!».
– تحدثي لنا عن شيء آخر.
أنا الآن في حفلة، الحفلة في بيت كبير عامر، وكل الحاضرات نساء، يتحدثن عن جمال البلد، وكيف أن الحياة عادت إلى بعض أحيائها، وعن الأمان الذي يمكن للمرء الشعور به. وأنه رغم وجود الوجوه الغريبة بطبيعة الحال، ورغم الدمار في كثير من الأحياء، لكن كل شيء يتجه لأن نصبح مثلما كنا قبل الح… الأ… ال… الأزمة، والعساكر لا يتدخلون بأحد، ولقد تعودنا عليهم.
تتحدث النساء أيضاً عن طريقة تعامل الموظفين المحترمة معهنَّ في مبنى الهجرة والجوازات، لا سيما أنهنَّ جميعاً من المغتربات، وقد أتينَ في زيارة صغيرة لتجديد جوازاتهنّ وإصدار جوازات جديدة لأسرهن. أن تدفع الواحدة منهنّ مبلغ 25 ألف ليرة سورية لتجديد الجواز داخل البلاد، أوفر بكثير من أن تدفع 300 دولار لتجديده في القنصليات خارجه. قالت إحداهنّ إن أحد الموظفين ساعدها بشأن هويتها الضائعة، وقالت إنها لم تتعذب أبداً، وإن الموظف كان يبتسم لها وهو يعطيها ورقة الإيصال، ثم سكتت المرأة قليلاً وكأنها تنبهت لشيء غير مهم إطلاقاً، وقالت إنه يبدو أن الفساد قد زاد، لأن الموظف طلب منها مالاً في كل خطوة ليُسيّر لها أمورها، وبأن طلب المال/ الرشوة أصبح بلا حياء وعلى المكشوف، بل إن أحدهم قال لها إنه يمكنها بواسطة المال أن تسافر خارج القطر من دون جواز سفر، لكنها عقّبت بأن ذلك لا يهم طالما أن أمورنا ماشية.
بدا ما قالته المرأة بديهياً على مرارته وقتامته، فهذه التسهيلات في النهاية كانت وستبقى من امتيازات من يملك وفرة من المال، لكن ذلك لا يهمهنّ في شيء، أولئك المغتربات، الهاربات مع أُسَرهن من وطأة ال… الأ… الح… الأزمة، واللواتي لم ينسين قبل مغادرتهنّ أن يقمن بطقوس الشتائم واللعنات على كل من كان سبب اغترابهنّ وابتعادهنّ عن سوريا، التي يحبونها كثيراً، دون تحديد المُسبب.
– والآن ماذا ترين؟
أنا الآن أمام الشاشة، أحاول أن أكتب، لا شيء يكمّم فمي، ولا شيء يقيد يدي، لكن عينيَّ فيهما غَبَاشةُ صورةِ ما حدث. أفكّرُ في كل ما حصل خلال السنوات الماضية، وفي كل ما يحصل، وفي كل ما قد يحصل. أنا الآن أمام المرآة، أفكرُ فيما كُنته، وفيما أنا عليه الآن، وفيما سأكونه لاحقاً، لأنه إذا كان التغيير المنشود لم يتمّ في الخارج حيث الوطن، فإن هذا لا يعني أنه لم يتمّ في الداخل، حيث القلب.
أنا الآن أُحصي تغيّراتي الذاتية، التي تصبح موضوعية حين تكون في سياقها الأعم، أستعينُ بالفلسفة، أستعينُ بالمجاز، أستعينُ بالاستعارات، أستعينُ بالقصص والشعر والنثر، لأحكي عن تداعيات ما حدث خلال ال… خلال ال… ال… الثورة.
– هسسسسس اخرسي.
– لن أخرس.
--------
الجمهورية
قلنا هسسسسس، اخرسي.
أنا الآن مُكممة الفم، يداي مقيدتان خلف ظهري، جالسة على كرسي، وعقلي وحواسي وصوتي في عينيّ فقط، ولولا الشاشة التي أمامي لكنتُ جُننت، أو ربما أنني فعلاً جُننت. على الشاشة الآن رسالة تقول: اكتبي لنا، اكتبي ما ترينه، اكتبي ما تشاهدينه، أنت الآن في منطقة تحت سيطرة النظام، منطقة مغلقة أمام كل صوت مختلف، والصورة تبدو غائمة، اكتبي وأرسلي لنا، لعلنا نستطيع أن نفهم. أحاولُ أن أحرّك يديَّ لكنني أشعرُ أنهما مقيدتان، وأحاولُ أن أفتح فمي لكنني أشعرُ أنه مكمم. تحمرُّ عيناي من الغضب، وأصابُ بألم الخوف في أحشائي، لأنني أخاف، أ…خ…ا…ف، أخاف أن أكتب ما أحسّه وما أشاهده، وذلك لأنهم في كل مكان، عيونهم تلاحق المرء أينما ذهب.
تخطر في بالي جملة أورويل في روايته 1984، «الأخ الكبير يراقبك». أينما أتلفت هناك لافتة تقول «الأخ الكبير يراقبك»، لتصبح «الأب الكبير يراقبك»، أو «الابن الكبير يراقبك»، إنهم في الشارع، في السرفيس، في البقالية، في المقهى، في محلّ تصليح الأحذية، في محلات الثياب في الطابق الأعلى، وفي الحديقة يأكلون غزل البنات ويتغزلون بالفتاة الجميلة التي مرّت بدلال منذ قليل أمامهم.
– لن يلتفتوا إليكِ، لقد ملّوا…اكتبي لنا؟
– عن ماذا؟
– عن دمارها، عن…، أهلها، عن أحيائها، عن التعايش بين سكانها، اكتبي ما ترينه.
أنا الآن في البيت، أسمع أصواتا ذكورية عالية، يأخذني الفضول للخروج إلى الشرفة، هناك شبانٌ كُثُر، شبانٌ مراهقون لم يتجاوزوا السبعة عشر عاماً، يمشون في الشارع معاً مُشكلين تجمعاُ كبيراُ، هم الآن يصرخون، يغنون، ويصفقون، ويهتفون، يهتفون! وكأني أسمع النغمة نفسها، وكأني أسمع الهتاف نفسه، يخفق قلبي من دون توقف، يقولون: «عالجنة رايحين…»، يأتي صوت يوقظني مثل صفعة: «غبية، بل يقولون: عالملعب رايحين…، فاليوم مباراة هامة لفريق الكرامة!».
– تحدثي لنا عن شيء آخر.
أنا الآن في حفلة، الحفلة في بيت كبير عامر، وكل الحاضرات نساء، يتحدثن عن جمال البلد، وكيف أن الحياة عادت إلى بعض أحيائها، وعن الأمان الذي يمكن للمرء الشعور به. وأنه رغم وجود الوجوه الغريبة بطبيعة الحال، ورغم الدمار في كثير من الأحياء، لكن كل شيء يتجه لأن نصبح مثلما كنا قبل الح… الأ… ال… الأزمة، والعساكر لا يتدخلون بأحد، ولقد تعودنا عليهم.
تتحدث النساء أيضاً عن طريقة تعامل الموظفين المحترمة معهنَّ في مبنى الهجرة والجوازات، لا سيما أنهنَّ جميعاً من المغتربات، وقد أتينَ في زيارة صغيرة لتجديد جوازاتهنّ وإصدار جوازات جديدة لأسرهن. أن تدفع الواحدة منهنّ مبلغ 25 ألف ليرة سورية لتجديد الجواز داخل البلاد، أوفر بكثير من أن تدفع 300 دولار لتجديده في القنصليات خارجه. قالت إحداهنّ إن أحد الموظفين ساعدها بشأن هويتها الضائعة، وقالت إنها لم تتعذب أبداً، وإن الموظف كان يبتسم لها وهو يعطيها ورقة الإيصال، ثم سكتت المرأة قليلاً وكأنها تنبهت لشيء غير مهم إطلاقاً، وقالت إنه يبدو أن الفساد قد زاد، لأن الموظف طلب منها مالاً في كل خطوة ليُسيّر لها أمورها، وبأن طلب المال/ الرشوة أصبح بلا حياء وعلى المكشوف، بل إن أحدهم قال لها إنه يمكنها بواسطة المال أن تسافر خارج القطر من دون جواز سفر، لكنها عقّبت بأن ذلك لا يهم طالما أن أمورنا ماشية.
بدا ما قالته المرأة بديهياً على مرارته وقتامته، فهذه التسهيلات في النهاية كانت وستبقى من امتيازات من يملك وفرة من المال، لكن ذلك لا يهمهنّ في شيء، أولئك المغتربات، الهاربات مع أُسَرهن من وطأة ال… الأ… الح… الأزمة، واللواتي لم ينسين قبل مغادرتهنّ أن يقمن بطقوس الشتائم واللعنات على كل من كان سبب اغترابهنّ وابتعادهنّ عن سوريا، التي يحبونها كثيراً، دون تحديد المُسبب.
– والآن ماذا ترين؟
أنا الآن أمام الشاشة، أحاول أن أكتب، لا شيء يكمّم فمي، ولا شيء يقيد يدي، لكن عينيَّ فيهما غَبَاشةُ صورةِ ما حدث. أفكّرُ في كل ما حصل خلال السنوات الماضية، وفي كل ما يحصل، وفي كل ما قد يحصل. أنا الآن أمام المرآة، أفكرُ فيما كُنته، وفيما أنا عليه الآن، وفيما سأكونه لاحقاً، لأنه إذا كان التغيير المنشود لم يتمّ في الخارج حيث الوطن، فإن هذا لا يعني أنه لم يتمّ في الداخل، حيث القلب.
أنا الآن أُحصي تغيّراتي الذاتية، التي تصبح موضوعية حين تكون في سياقها الأعم، أستعينُ بالفلسفة، أستعينُ بالمجاز، أستعينُ بالاستعارات، أستعينُ بالقصص والشعر والنثر، لأحكي عن تداعيات ما حدث خلال ال… خلال ال… ال… الثورة.
– هسسسسس اخرسي.
– لن أخرس.
--------
الجمهورية