أيضاً، فقد عُقد هذا الاجتماع في ظل الاضطرابات الاقتصادية التي يشهدها العالم، الناتجة من أزمة الطاقة، والعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، والقيود الغربية التي باتت تتزايد على الاقتصاد الصيني، إضافة إلى إشهار دول “بريكس” التحدي المتعلق بإنشاء نظام دولي متعدد الأطراف، وضمنه التحرر من النظام المصرفي الدولي الذي تتحكم به الولايات المتحدة، مع طموحها المتعلق بإيجاد عملة دولية أخرى تنافس الدولار، أو تحل محله، في التبادلات الدولية لدول مجموعة “بريكس”؛ في سعيها لتوليد عالم متعدد الأقطاب. (لمزيد من الاطلاع مقالتي في “النهار العربي”: “في بحث بوتين عن عالم متعدّد الأقطاب” (4/6/2023).
لكن العامل الأهم الذي يكمن وراء تعذر قدرة المجموعة على تحويل شعاراتها، أو أطروحاتها، إلى واقع يتمثل بالاختلال الكبير في معطيات القوة المختلفة بين الطرفين، لمصلحة الدول الغربية، وبخاصة الدول السبع الصناعية الكبرى.
فبحسب معطيات البنك الدولي، يبلغ الناتج الإجمالي المحلي لدول “بريكس” الخمس، نحو 25 تريليون دولار (زاد 3 تريليونات بعد التوسعة)، ما يشكل ربع الناتج الإجمالي المحلي العالمي (لعام 2022)، إذ إن الناتج لكل دولة منها هو: الصين (18 تريليون دولار)، الهند( 3.18) تريليونات، روسيا (2.2 تريليون)، البرازيل (1.6 تريليون)، جنوب أفريقيا (419 مليار دولار)، أي أن الصين وحدها تشكل 75 في المئة من القوة الاقتصادية للمجموعة.
في المقارنة، فإن الناتج الإجمالي للدول الصناعية السبع الكبرى يبلغ 43.5 تريليون دولار؛ من دون احتساب بيانات الناتج الإجمالي المحلي للدول الغربية الأخرى، أو الحليفة لها، والذي يشمل باقي الدول الأوروبية، والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وأستراليا، التي تشكل معاً ما يقارب 60 في المئة من الناتج الإجمالي في العالم، علماً أن الولايات المتحدة وحدها لديها قوة اقتصادية (25 تريليون دولار) مماثلة لقوة مجموعة “بريكس”، في افتراض أنها تمثل قوة واحدة، فيما مصالح كل دولة من دول “بريكس” تختلف عن الأخرى، بخاصة الصين وروسيا والهند، إلى جانب المشكلات الحدودية التاريخية، بين تلك الدول.
لكن ما يظهر الفجوة بدقة أكبر هو حصة الفرد من الناتج الإجمالي المحلي، إذ يبلغ 15 ألف دولار في روسيا، و12 ألف دولار في الصين، وفي البرازيل 9000، وفي جنوب أفريقيا 7600، وفي الهند 2400، فيما هو في الدول الغربية بين 45 ـ 70 ألف دولار، أي أن الـ25 تريليون دولار، للناتج الإجمالي المحلي لتلك المجموعة لا يغطي على العبء المتمثل بالكتلة الكبيرة التي يضمها هذا التجمع 3.2 مليارات نسمة (عدد السكان في العالم 8 مليارات نسمة).
ولعل ما يسهم في إضعاف المكانة الاقتصادية لدول “بريكس”، إزاء المجموعة الغربية، أيضاً، هو ضعف التبادلات التجارية في ما بينها، التي تتراوح بين 6 ـ 8 في المئة، إذ إن معظم التبادلات التجارية لدولها، لا سيما الصين، هي مع الدول الغربية. يضاف إلى ذلك تدني مكانتها في الصادرات العالمية، والتي تبلغ 5 تريليونات دولار (الصين وحدها 3.6 تريليونات دولار)، ما يمثل خمس المبادلات التجارية العالمية، التي بلغت 25 تريليون دولار، فيما تستحوذ الدول الغربية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا، وأستراليا) على ما قيمته 15 تريليون دولار، أي ضعفَي ما تحققه دول “بريكس”.
من جهة أخرى، وبغض النظر عن الفجوة بين دول “بريكس” ودول G7 الصناعية الكبرى، فثمة أيضاً التفاوت الاقتصادي بين دول مجموعة “بريكس” ذاتها، كما بينّا في المعطيات المذكورة سابقاً، واختلاف أنظمتها السياسية، ففي الصين يحكم الحزب الشيوعي دولة رأسمالية، وفي روسيا يتحكم الرئيس بوتين بمفاصل الدولة، وبالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فيما ثمة أنظمة ديموقراطية، وتعددية وانتخابية، في الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
ولعل هذا الوضع هو الذي جعل من المتعذر على دولة مثل جنوب أفريقيا استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب مذكرة اعتقال صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، التي يفترض بدولة جنوب أفريقيا الالتزام بها بحكم توقيعها على نظام المحكمة، الأمر الذي حدا به إلى عدم المشاركة في اجتماع القمة مباشرة، مكتفياً بالحضور افتراضياً عن بعد، وهذا بحد ذاته تأكيد لهشاشة المجموعة، إضافة إلى الدليل المتمثل بإنكار جنوب أفريقيا وحتى الصين إرسال أي أسلحة إلى روسيا (بل إن إيران تنكر ذلك أيضاً!)، وامتناع كل دول “بريكس” عن التصويت إلى جانب روسيا في الأمم المتحدة، بخصوص أوكرانيا.
أخيراً، ثمة فارقان غاية في الأهمية، الأول، يكمن في الفجوة العلمية والتكنولوجية بين الدول الغربية التي تعتبر المصدر الأول للتطور في تلك المجالات، ودول “بريكس”، وضمنها الصين. أما الثاني، فيتمثل في الفرق في نوعية الحياة، وحقوق المواطنة، وضمنها حرية الرأي، والمشاركة السياسية، وكلها ميزات في مصلحة النظم الغربية، مع الأخذ في الاعتبار الثغرات أو السلبيات التي تعتورها في الدول الغربية، وضمنها تآكل مستوى التقديمات الاجتماعية، وسلامة المسار الديموقراطي.
والحال، من الصعب على دول “بريكس” في الظروف الدولية الراهنة، حتى بعد التوسعة، ترجمة طموحاتها إلى واقع، فلا قوتها الاقتصادية تسمح لها بذلك، ولا مكانتها العلمية والتكنولوجية تؤهلها، أما القوة العسكرية فتبين محدوديتها في الحرب الروسية في أوكرانيا، وخصوصاً أنها تمخضت عن خسائر، وكوارث لجميع الأطراف. لذا يفيد مجموعة “بريكس” أن تغير طريقها، وأن تعيد تأهيل أحوالها الداخلية، بما يسمح لها بالتحول إلى قطب فاعل بالاعتماد على فاعليتها الاقتصادية، وعلى ما تسهم به في تقدم البشرية، بعيداً من توهمات العسكرة والحروب. أي ثمة فرق كبير بين الواقع والطموحات والإمكانات والأمنيات.
-------------
النهار العربي