السؤال الأول الذي كان دائمًا في ذهني: هل تريد تركيا فرض سلطتها ورفع علمها على الأراضي السورية؟!
في الواقع، نعم ولا. نعم، تريد تركيا فرض سلطتها ورفع علمها على الأراضي السورية بطريقة غير مباشرة. كيف؟ من خلال فرض مندوبين أتراك في المجالس المحلية، حيث يتسابق الجميع في المجلس لتقديم الولاء والطاعة للمندوب لتحقيق مكاسب شخصية. هذا الأمر ينطبق تمامًا على الشرطة والمؤسسات العسكرية. تريد تركيا رفع العلم، ولكن لا تريد هي من ترفعه، بل تود أن يقوم السوريون برفعه، وليس جيشها.
حدث معي في عام 2017 عندما كنت أعد تقريرًا عن إعادة تأهيل المرافق العامة وفتح الطرقات لإحدى مدن ريف حلب الشرقي التي تعرضت للدمار. بعد الانتهاء من التصوير الخارجي، ذهبت للمجلس للحصول على تصريحات رسمية من رئيس المجلس. عندما دخلت مكتب رئيس المجلس، وجدت ساريات كبيرة لأعلام الثورة والعلم التركي والمجلس، وعلى الطاولة سارية صغيرة بها الأعلام الثلاثة. كانت هذه أول مرة أصور في مكان يوجد به العلم التركي على الأراضي السورية. حاولت جاهدًا عدم إظهار العلم التركي لأسباب عديدة، أولها أن وجود العلم التركي على الأراضي السورية دون موافقة الدولة الشرعية يعتبر احتلالًا وفق الأعراف والقوانين الدولية. ومن غير المنطقي إظهار علم دولة مجاورة في تقرير خدمي يتحدث عن تحسين الواقع الخدمي في سوريا. بعد الانتهاء من التصوير، طلب رؤية المقابلة على الكاميرا. وعندما شاهد أن علم الثورة والمجلس ظهر في الكاميرا ولم يظهر العلم التركي، غضب على الفور وتحدثنا مطولًا عن سبب عدم إظهار العلم. كان مصرًا جدًا على حذف التقرير أو إظهار العلم التركي، مما جعلني أوافق على طلبه. جلب سارية العلم التركي الكبيرة ووضعها خلفه مباشرة. هنا أدركت تمامًا أننا مقبلون على كارثة حقيقية. إذا كان رئيس المجلس وهو مهندس يتصرف هكذا، فكيف لو كان مواطنًا بسيطًا أو مقاتلًا بسيطًا؟
وفي موقف آخر، عند وصول مهجري حمص إلى مخيم زوغرة، حصلت مشادة بيني وبين أحد أفراد فصيل لواء الشمال. طلبني وقتها قائد اللواء المدعو النقيب “مصطفى”. بعدما تأكدت من أنه ابن الثورة، ذهبت إلى مقرهم في جرابلس. كان هناك ضباط في المخابرات التركية والجيش التركي. قال لي الضابط التركي: لماذا تسب رئيس الدولة التركية رجب طيب أردوغان؟ ضحكت وقلت لهم: وصلتكم الصورة مختلفة عن الواقع. شرحت للضباط الأتراك الذين يتحدثون العربية ما حدث بالفعل، وكانوا متفهمين تمامًا وبكل ود. بعد انتهاء حديثي، قال الضابط التركي للنقيب مصطفى: الموضوع عندك. هنا بدأ هذا الرجل الذي قالوا لي إنه ابن الثورة يظهر وجهه الحقيقي وقال للعناصر: خذوه للتحقيق كي نعلم من يعلمه أن يتحدث هكذا, هنا تأكدت أنه ليس ابن ثورة كما يعتقد البعض.
في عام 2019، كنا حريصين جدًا في المظاهرات التي كنا ننظمها في مدينة أعزاز على عدم رفع أي راية لفصيل أو علم تركيا. نحن نخرج ضد نظام بشار الأسد ولا حاجة لأن نرفع أي علم أو راية غير علم الثورة السورية. حدثت مشادة بين أحد الناشطين وزميله، وتدخلت الشرطة لتجنب النزاع. ذهبنا وقتها لقسم الشرطة، وبعد حل المشكلة بوجود ما يسمى المنسق التركي، كان السؤال: لماذا في مظاهرة سجو وباقي المناطق يرفع العلم التركي وأنتم ترفضون رفعه في مظاهرتكم؟ فكان الرد من معظم النشطاء وقتها: نحن نرفع علم بلادنا، علم الثورة الذي كفنا به شهداءنا، وهذا العلم الذي يمثلنا. أما علم تركيا فهو يمثل الدولة التركية والمجتمع التركي، ونحن سوريون. بعد ذلك، بدأ الناشطون يتعرضون لمضايقات بطريقة غير مباشرة تعيق عملهم بحجة الإجراءات والقوانين التي تعمل عليها المؤسسات.
بدأ الأمر بشكل تدريجي بالتدخل في عمل المنظمات الإنسانية والطبية من خلال الهلال الأحمر أو iHH، ثم فرضت شروطًا عليهم كاستبدال العملة وإجبار معظم المنظمات المحلية على إدخال أموالهم لسوريا عبر بريد PTT. هذا ما جعل ملايين الدولارات من العملة الصعبة تدخل صندوق تركيا شهريًا. وحتى الآن جميع الإجراءات أو التدخلات التركية في الشمال السوري تكون شفهية، فالحكومة التركية لم تصدر أي ورقة أو تضع قانونًا أو ما شابه بأمر خطي أو تكليف رسمي من الدولة التركية؛ جميع الإجراءات شفهية.
بدأ التدخل في القطاع العسكري، ثم وصل إلى كل مفاصل الحياة: القطاع السياسي، العسكري، الأمني، الخدمي، التعليمي، الطبي، والإنساني. أصبحنا محكومين بقرارات المنسق التركي، المترجم التركي، وموافقة قلم الوالي ونائبه. في كل هذه القطاعات، اتبعت تركيا سياسة التجويع للتركيع. فلا يمكن للمعلم الذي لا يتجاوز راتبه 50$ تحمل عبء الحياة وبناء جيل، ولا يمكن للمقاتل الذي يعادل راتبه 20$ أن يبقى صامدًا على جبهات القتال في وجه الأعداء. ولا يمكن للطبيب السوري المختص الذي لا يتجاوز 200$ أن يشاهد الطبيب التركي المتمرس الذي يفوق راتبه 1200$ شهريًا.
الرواتب التي تقدمها تركيا من عائدات المعابر الحدودية بين سوريا وتركيا لا تكفي للمعيشة لمدة أسبوع كحد أقصى. هذا ما جعل كل فئة تبحث عن بدائل للعيش في ظل الأوضاع الراهنة. كما يقول السوريون في الشمال: “تركيا تفعل مثل سياسة حافظ الأسد، نفكر بلقمة الخبز كيف نؤمن لقمة العيش لكي لا تكون لدينا طموحات أو نفكر في السياسة أبدًا.
هذه السياسة التي تتبعها تركيا هي قنبلة موقوتة لا نعلم متى ستنفجر وتحرق من حولها، بما فيهم السياسة التركية في سوريا. تجربة انقطاع الإنترنت جعلتنا كسوريين نفكر خارج الصندوق.
ماذا لو توقف الدعم عن القطاع العسكري؟ ماذا لو توقف الدعم عن جميع القطاعات الطبية والتعليمية والخدمية؟ لماذا وضعنا كل ثقتنا في تركيا؟ لماذا لا نتعامل معها كحكومة لحكومة؟
ماذا لو قدم أردوغان الشمال السوري للأسد كعربون محبة لإعادة العلاقات؟
أعتقد أن تجربة قطع الإنترنت بشكل متعمد من تركيا يجب أن تدفع جميع أفراد المجتمع المدنيين والعسكريين للتفكير خارج الصندوق ووضع مصلحة الثورة السورية أولاً. هنا نتأكد تمامًا أننا وقعنا في الخطأ وما زلنا مستمرين فيه. ويجب تدارك الأمر من خلال تصدر القامات الوطنية للمشهد السياسي، العسكري والمدني، وجعل علاقات الجوار قائمة على المصالح المشتركة للطرفين، وليس منفعة لطرف ومضرة للطرف الآخر. حتى الآن، يمكن إنقاذ المركب من الغرق قبل أن يأتي يوم نندم فيه أكثر وينفجر الشمال السوري.
لأن التصريحات المستفزة من الرئيس التركي وحكومته قد تشعل الشمال السوري في وجه السياسة التركية. قد تحدث مواجهات مسلحة مثلما حصل بالأمس، ولكن بالأمس كانت المواجهات عشوائية. في حال حصل لقاء بين الأسد وأردوغان في تركيا كما ادعى أردوغان، أعتقد أنه ستكون هناك مواجهات عسكرية منظمة من قبل الشرفاء الذين حملوا السلاح ولا يزالون مؤمنين بمبادئ وقيم الثورة. وستكون الحاضنة الشعبية للثورة في المدن السورية لها دور بارز في مواجهة التصريحات التركية التي لا تمثلهم وتنسف تضحياتهم منذ 13 عامًا، بعدما تعرضوا للخذلان من جميع الكتل السياسية.
لذا، يجب تدارك المرحلة والبحث عن حلفاء نتعامل معهم وفق المصالح المشتركة، حلفاء وليس أوصياء أو أمراء على الشعب السوري.