تماما كما حدث مع مصطفى سعيد بطل رواية " موسم الهجرة الى الشمال " الذي عبر دروب الشك والقلق والنجاح والقتل ، وصارع شبق اللحم ، والدم وتجليات الروح ، والعقل قبل أن يعود لتتوحد في داخله الاصوات ٫ فاللغات الاجنبية التي لا يعرفها اهل قريته الوادعة في ريف السودان هي أصوات أهله لكنه ما كان يميزها ٫ وهو بينهم قبل ان يصل الى حقيقة " الناس هنا كما الناس هناك " ولم يكن الطيب صالح انيق اللغة فحسب بل انيق الروح والوجدان وهؤلاء قلة بين البشر لكنهم كانوا في دائرة الطيب كثرا في لندن التي جمعتنا زوارا ، ومقيمين ، وبينهم غازي القصيبي ومحمد بن عيسى ويوسف الشيراوي ٫ وعثمان العمير كلهم يجمعهم الولع بأبي الطيب المتنبي ، ولطالما سمعت جاري الطيب يصرح بأن الذين يدرسون تأثير الشرق والغرب في أدبه قلما ينتبهون لتأثير المتبي الذي صاغ مع المعري - كما أظن - تلك الروح الانيقة ٫ الرهيفة ٫ المتسامحة٫ الشجاعة٫ التي تقدم الكبرياء الانساني على كل ما سواه من القيم المعروفة ، والمتفق على أهميتها في التاريخ والمجتمع،وان نسينا وان نسينا كل ما كتب الطيب صالح فهل ننسى مقاله الذائع " من أين جاء هؤلاء " الذي خصصه لفضح عصابات مسلحة تزيت بثياب عسكر
وفي مايلي مقالة الطيب صالح " من أين جاء هؤلاء " وكأنه كان يقرأ ما يحدث اليوم قبل حدوثه بسنوات طوال
------------
من اين جاء هؤلاء
بقلم الطيب صالح
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين يريدون الهروب إلى أي مكان؟ فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم. كأني بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلمهم. لا أحد يهمه أمرهم. هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟
جامعة الخرطوم مغلقة، وكل الجامعات والمدارس في كافة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينيمونها عُنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم. (السادة) الجدد لا يسمعون ولا يفهمون، يظنون أنهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول، موقنون من كل شيء. يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة. يقولون كلاما ميتا في بلد حي في حقيقته ولكنهم يريدون قتله حتى يستتب لهم الأمن.
وفي مايلي مقالة الطيب صالح " من أين جاء هؤلاء " وكأنه كان يقرأ ما يحدث اليوم قبل حدوثه بسنوات طوال
------------
من اين جاء هؤلاء
بقلم الطيب صالح
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين يريدون الهروب إلى أي مكان؟ فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم. كأني بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلمهم. لا أحد يهمه أمرهم.
جامعة الخرطوم مغلقة، وكل الجامعات والمدارس في كافة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينيمونها عُنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم. (السادة) الجدد لا يسمعون ولا يفهمون، يظنون أنهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول، موقنون من كل شيء. يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة. يقولون كلاما ميتا في بلد حي في حقيقته ولكنهم يريدون قتله حتى يستتب لهم الأمن.