اشتباكات محدودة تقع يومياً، لكنها بالتأكيد محسوبة ومدروسة. تتحكم بقواعدها إسرائيل، رغم أن حزب الله هو من بدأها بقصفه مواقع في مزارع شبعا. وغالباً هي من تقوم بخرق تلك القواعد عندما تشاء، فيأتي الرد من الطرف اللبناني على التجاوز الإسرائيلي. ردٌ أقل من متناسب، بحيث لا يعطي إسرائيل ذريعة لتوسيع ضرباتها، بدليل ردود الحد الأدنى على اغتيال قادة من حماس في ضاحية بيروت، وأكثر من كادر عسكري لحزب الله في الجنوب.
مطلع عام 2020، جاء في بيانٍ أصدره علي خامنئي في اليوم التالي لمقتل قاسم سليماني "إن الانتقام الشديد سيكون بانتظار الذين تلوثت أيديهم القذرة بدمائه". فكيف انتقمت إيران يومها؟ دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق سوف يجيب على هذا السؤال، بعد حوالي ثلاث سنوات. نهاية عام 2023، أمام أنصاره في مدينة هيوستن بولاية تكساس سيصرّح: "قالوا لنا: لحفظ ماء الوجه، يجب أن نردّ، وليس عليكم أن تقلقوا. سنطلق ثمانية عشر صاروخاً على قاعدتكم العسكرية (عين الأسد)، لكن لن يصل أي منها إلى القاعدة. هذه الصواريخ دقيقة جداً، مضمونة ولا تخطئ أبداً". ويضيف ترامب "خمسة من تلك الصواريخ انفجرت في الفضاء والبقية سقطت خارج منطقة القاعدة".
برعونته ولا مبالاته بالإفصاح عما لم يعتد الرؤساء التصريح به، فضح ترامب الانتقام الإيراني، عندما أفشى سراً مهيناً أنكره الإيرانيون على الفور. شخصياً أميل هنا لتصديق ترامب، حول الفعل الإيراني التمثيلي للرد على مقتل سليماني. ولكن ألا يذكركم هذا القصف الصاروخي الإيراني بالأخبار العاجلة التي ترد أحياناً عن سقوط قذائف حزب الله شمال إسرائيل في "أماكن مفتوحة" أي خالية من أية أهداف!
في التعريف الأكاديمي العسكري لقواعد الاشتباك "Rules of engagement"، نجد أنها مجموعة التوجيهات الداخلية الممنوحة للقوات العسكرية في بلدٍ ما، وهي تحدد الظروف والدرجة والطريقة التي يمكن استخدام القوة فيها. أي أنها توفر تفويضاً محدداً للقوات العسكرية لاستخدام القوة في كل ظرف محتمل. لا تملي قواعد الاشتباك عادة كيفية تحقيق النتيجة، ولكنها تشير أكثر إلى التدابير التي قد تكون غير مقبولة. في كثير من الأحيان يتم إصدار وصف مختصر لقواعد الاشتباك في وثيقة تُدعى "بطاقة قواعد الاشتباك". ما يدعو للدهشة وللابتسام المرير أن لدى الجيش الإسرائيلي مذكرة قواعد اشتباك بعنوان "مدونة أخلاقيات جيش الدفاع الإسرائيلي".
مصطلح "قواعد الاشتباك" يبقى حديث العهد، تم تطوير معاييره التفصيلية لدى الجيوش، بخاصة قوات حلف الناتو، خلال فترة الحرب الباردة، استجابةً للتغيّر التكنولوجي وزيادة فتك الأسلحة
على الرغم من أن المعايير الأساسية لاستعمال القوة العسكرية قد تم استخدامها منذ فترة طويلة، وهي ما كانت تعرف بقوانين الحرب، بحيث تخضع وتراعي المعاهدات الدولية والممارسات العرفية التي تعتمد من قبل الدول (المتحضّرة)، وتتضمن المبادئ الأساسية المتمثلة في الضرورة والتناسب وتجنب الأضرار الجانبية. إلا أن مصطلح "قواعد الاشتباك" يبقى حديث العهد، تم تطوير معاييره التفصيلية لدى الجيوش، بخاصة قوات حلف الناتو، خلال فترة الحرب الباردة، استجابةً للتغيّر التكنولوجي وزيادة فتك الأسلحة.
بالعودة إلى جنوب لبنان، فإن ما يتم تدواله اليوم إعلامياً وعلى ألسنة المحللين حول "قواعد الاشتباك" بين إسرائيل وحزب الله هو استخدام غير موفق، إن لم نقل إنه استخدام خاطئ تماماً للمصطلح الذي لا يستخدم إطلاقاً لتوصيف اشتباكات بين طرفين، إذ من المفترض أن لكل جانب قواعده. وهو كذلك، ليس فقط لأنه يوصّف حالة المواجهة المحدودة بين طرفين، ولا يخص قواعد أعطيت لجيش واحد من قيادته العسكرية والسياسية. بل أكثر من ذلك لأنه لا يخص حالة حرب مألوفة أساساً بين طرفين متناحرين يريد أحدهما هزيمة الآخر، حتى الآن على الأقل.
والأدهى مما سبق أن تعليمات الاشتباك وحدود استخدام القوة لا تُعطى لحزب الله من قيادة الدولة التي يحارب على أرضها ويدّعي الانتماء إليها، بل هي قواعد وضعتها وتتحكم بها دولة أخرى هي إيران، كما يعلم الجميع. فقوّات حزب الله ممولة ومسلحة عبر هذا الطرف الخارجي، رغماً عن إرادة الدولة اللبنانية، وبحكم موازين القوى الداخلية والإقليمية التي ترسّخت عبر العقود الأخيرة.
نذكر في الأيام الأولى لقصف غزّة، كيف كان الجميع يعتقد أن حزب الله سيدخل المعركة، فيما لو اقتحمت القوات الإسرائيلية غزّة بريّاً، وهذا ما كانت تشي به تصريحات قادة الحزب. لكن هذا لم يحدث، فالأوامر الإيرانية كانت عكس ذلك. عندما علمت طهران، ومن بعدها دمشق أن الرد سيكون قاسياً فيما لو توسعت الحرب شمالاً تبدّلت حتى لغة قادة حزب الله وهو أمر كان فيه الكثير من الإذلال. الأمر الذي أبقى مناوشات حزب الله في حدود ضيقة، حتى غدا الأمر مدعاة للتندّر، عبر تداول تعابير من مثل حرب العمود والصبر الاستراتيجي.
إن القواعد المتبعة حتى الآن بين الطرفين، والتي تقوم على قصف أحدهما لهدفٍ ما، فيأتي الرد من الجانب الآخر بالطريقة نفسها وفي مناطق مكررة، لا تنضوي تحت تعريف قواعد الاشتباك إلا إذا اعتبرنا الطرفين جهة واحدة تتلقى قواعدها من مصدر واحد، فتغدو تلك القواعد متطابقة. بطبيعة الحال الأمر ليس على هذا النحو. ما يجري في الأشهر الأخيرة على جبهة جنوب لبنان يمكن وصفه بتفاهمات الاشتباك، أو للفكاهة لو شئتم، هو إعادة تعريف إيراني مُستحدَث لمصطلح "قواعد الاشتباك" على طريقة الانتقام لمقتل سليماني.
شخصياً أميل إلى إطلاق المصطلح المعروف "قواعد اللعبة" وهو تعبير سياسي وليس تعبيراً عسكرياً. طبعاً دون أن أذهب كآخرين إلى اعتبار الأمر مجرد تمثيلية، وأن كل ما يجري هو بحسب اتفاقات وتفاهمات سرّية مسبقة، لكن ما هو مؤكد، أن هناك رسائل متبادلة عبر وسطاء لإبقاء الأمر على هذا النحو. طبعاً إضافة إلى أنه عبر العديد من الاختبارات والتجارب التي مر بها الطرفان في المواجهة، ولفترة طويلة زمنياً، استطاع كل طرف فهم ما يريده الآخر وما حاجاته التكتيكية سياسياً، التي يمكن أن تُترجم عسكرياً في بعض المحطات، والأهم بالنسبة للطرفين هو الحاجة الماسة لكليهما في الإبقاء على ما يعرف بحالة اللا سلم واللا حرب.
تلك التكتيكات المدفوعة بأسباب سياسية، ليست اختراعاً إيرانياً صرفاً، فقد سبق للأسد الأب في سوريا أن طبق هذا النوع من التفاهمات، بعد توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل
كل ما سبق يدعو لاعتبار "قواعد الاشتباك" الإيرانية تعبيراً ملتبساً، خصوصاً، إذا ما أضيف لمصطلح "وحدة الساحات" وهو إيراني أيضاً، قبل أن تتنصل منه الأخيرة بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة. فغالباً ما تكون ردود إيران العسكرية (قواعد اشتباكها) المباشرة أو عبر أذرعها وميليشياتها في المنطقة، محكومة بمصالح مشروعها الإقليمي (الإمبريالي) إذا أجزتم لي استخدام هذا التعبير، وأحياناً لأسباب داخلية. والأمر هنا حسب المُقتضى، ولا ينبع من أية حالة مبدئية أو عقائدية.
على أية حال تلك التكتيكات المدفوعة بأسباب سياسية، ليست اختراعاً إيرانياً صرفاً، فقد سبق للأسد الأب في سوريا أن طبق هذا النوع من التفاهمات، بعد توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل في جنيف ربيع عام 1974، بما يحفظ الجبهات ساكنة. لم تتزعزع تلك التفاهمات رغم الخرق الإسرائيلي بالقصف لأكثر من مرة في العمق السوري خلال فترة الأسد الأب، ولمئات المرات خلال فترة الابن. إلا أن تلك الاتفاقية أبقت على حالة اللا حرب واللا سلم سارية المفعول لعقود، ومعها حفظت للأسد، ومن بعده لابنه، البقاء في السلطة.
------------
تلفزيون سوريا