تعطي الرؤية الحية للأشياء وملامستها بشكل مباشر صورة صادقة عن الأشياء؛ بحيث لا يمكن للكلام مهما كان واقعياً وحقيقياً أن يعبر عن الحدث. أحياناً يقف الإنسان حائراً أمام الأشياء التي يصادفها في حياته، ليصمت أو يصاب بصدمة عدم القدرة على التعبير؛ فمهما حاول أن يزخرف كلماته ويجنَّحها فستبقى عاجزة وقاصرة عن الوصف!
رغم أنه من الصعب أن تكون كاتباً حراً مستقلاً في بلدنا الفاسد الذي سيطرت عليه مافيا السلطة وعالم المال والمحسوبيات والعلاقات العامة، إلاَّ أن هؤلاء صمدوا وجاعوا ولم يتوسلوا أحداً، محافظين على جزء من كرامتهم وإنسانيتهم…
كانت كتب أدونيس هي أول من بحثت عنها لأضعها في مقدمة القسم الأول، وبعد ذلك طوحت بكتب سليمان العيسى، ونزيه أو عفش، ووليد إخلاصي، وسعيد رجو، ومحمد أبو معتوق، وحسن حَميد، وحسن م. يوسف… ثم وقفت أنظر إليها مستغرباً من العدد الكبير لأولئك الكتاب المؤيدين للطاغية، فقد تكدست أمامي كومة هائلة من الكتب، لكنني احترت ماذا أفعل بها؟!
فكرت قليلاً، لكنني سرعان ما نهضت وخرجت.
يستطيع الإنسان أن يحترق وهو جالس إلى جوارك، دون أن تلحظ…في الشارع أو على المقهى… في بيته بين أعدائه أو أحبته، ولا يترك ذرة رماد على المقعد – حسب تعبير الكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا – لكن أصحاب هذه الكتب قد ارتكبوا آثاماً وذنوباً كثيرة، لذلك تحول كل ما كتبوه إلى غربان والخفافيش؛ ومن ثم إلى غمامة سوداء قبيحة تشبه أرواح مؤليفها السوداء؟
ظللتُ على هذه الحال حتى لاح ضوء الفجر؛ حيث انزاح الحجر الثقيل الذي ضغط على قلبي، ولم يعد الجو كئيباً جنائزياً، بل أصبح خفيفاً حماسياً سائلاً عندما اندمج صهيل حصان بعيد بصوت الريح القادم من حقول القمح القريبة.. اتجهت نحو القسم الآخر من الكتب… وقفت أمامها خاشعاً، ثم جثيت على ركبتيّ ورحت أصلي في محرابها.. ارتميت عليها معانقاً، ومن ثم أغمضت عينيّ.. تحوَّلت نفسي إلى كتاب، سرعان ما انضم إلى الكتاب السوريين الذين رحلوا منذ زمن، لكنهم عُرفوا بمقارعتهم القوية للحكم الاستبدادي في بلدهم: جلال صادق العظم، رياض الصالح الحسين، هاني الراهب، جميل حتمل… وكتاب عرب وعالميين عرفوا بنضالهم من أجل الحرية وكرامة الإنسان، ودافعوا عن المظلومين والمضطهدين والمذلين، أمثال: السياب، دنقل، بوشكين، دوستويفسكي، أخماتوفا، تسفيتايفا، سارتر، لوركا، نيرودا، كونديرا، سارماغوا، بافيسي…
هؤلاء لم يكونوا مع الأنظمة المستبدة لا عقلاً ولا روحاً؛ بل انتموا إلى الأرض، والسماء، والهواء، والغروب، والأزهار، والطيور، والفراشات.. انتموا للإنسان الحقيقي؛ أما أولئك الموالون للديكتاتورية فانتموا لبعضهم بعضاً حسب الطائفة والقبيلة والعشيرة.. انتموا لمصالحهم وامتيازاتهم، وأوجدوا لأنفسهم صنماً قاتلاً يعبدونه…
انفتح سقف الغرفة وابتعدت الجدران؛ ما لبثت أن نبتت أجنحة للكتب وراحت ترفرف محضرة نفسها للتحليق أول مرة في سماء حرة نظيفة… جاء سميح شقير لينضم إلينا، فهو شاعر قبل أن يكون مغنياً وملحناً؛ وراح يغني لنا أغنية الثورة الأولى “يا حيف”؛ ليرتفع في الفضاء ذلك السرب المؤلف من جميع الكتاب الذين أحبوا الحرية والكرامة الإنسانية ودافعوا عنها.
طرنا عند الغروب حتى وصلنا إلى قلعة حلب.. بدت حلب أجمل بكثير مما هي عليه في الواقع عندما تنظر إليها من القلعة!
بتنا هناك. ومن ثم نهضنا عند كلوع الفجر ونزلنا نحو الجامع الكبير (الأموي) القريب.. تجمعنا في ساحته المباركة؛ وحلقنا عالياً في السماء، متوجهين نحو الله!
----------
العربي القديم