الأشدّ قبحاً وبشاعة وانحطاطاً في الغالبية العظمى من هذه الهجمات أنها، على صعيد النظام، تسعى إلى شحن ما تبقى من قوّات تابعة لجيشه ببعض أسباب الوجود كوحدات عسكرية، فضلاً عن شحن النفوس التائهة المريضة بمزيد من الأحقاد الانتقامية والمناطقية التي لا يغيب عنها عنصر الشحن الطائفي. على الصعيد الروسي، ثمة استمرار لنهج وضع الأسلحة الروسية الفتاكة في حال من التجريب الميداني المفتوح، خاصة تلك الأصناف التي تستحدثها مصانع الجيش الروسي ولا تجد الساحات الملائمة لاختبارها، سواء في ميادين التدريب الروسية أو في جبهات أوكرانيا المختلفة. ولم يكن استثناء أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالب جنوده، خلال اجتماع مع القيادات العسكرية الروسية، بأن يطبقوا في أوكرانيا ما تعلموه في سوريا. إيران والميليشيات تستأنف الخيارات ذاتها التي اعتمدتها منذ دخولها طرفاً مباشراً في القتال إلى جانب النظام السوري، وإلى جانب التوسع وإنشاء القواعد العسكرية الميدانية، لا يوفّر أتباع طهران جهداً في تفكيك ما تبقى من تماسك مجتمعي في قرى سوريا وأريافها بصفة خاصة، والسعي إلى التبشير والتشييع والتطويع.
طراز آخر من الهجمات وعمليات القصف تعرضت وتتعرّض له مناطق مختلفة في سوريا، تمثله هذه المرّة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على أهداف إيرانية مباشرة أو تابعة لميليشيات موالية لطهران؛ وبات من المعتاد أن تُنفّذ ضمن سياقَين من الصمت المشترك، سواء من جانب الرادارات الروسية، حتى حين تقترب الضربات من الساحل السوري والقواعد الروسية في مطار حميميم وميناء طرطوس؛ أو من جانب الصواريخ والمسيرات الإيرانية، المنتشرة داخل سوريا أو في عهدة «حزب الله». في أواخر كانون الثاني (يناير) أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على محيط العاصمة دمشق، وفي مطلع شباط (فبراير) أغار على مواقع في محيط دمشق وضرب بصواريخ أرض – أرض أهدافاً في الجزء السوري من الجولان المحتل، وبعد أيام قليلة خلال الشهر ذاته قصفت دولة الاحتلال نقاطاً في تخوم مدينة القنيطرة، وفي مطلع آذار (مارس) استهدفت محيط مدينة دمشق مجدداً، وفي 14 و27 نيسان (أبريل) تكررت الضربات قرب العاصمة وفي عمق الجولان.
وفي أواسط أيار (مايو) وأواخره كان القصف نصيب القنيطرة ومحيط مصياف في محافظة حماه، وفي 10 حزيران (يونيو) خرج مطار دمشق عن الخدمة نتيجة القصف الإسرائيلي للمهابط والصالة الثانية، وفي أواسط آب (أغسطس) وأواخره استهدفت الصواريخ الإسرائيلية ريف دمشق ونقاطاً في ريف محافظتَيْ حماه طرطوس، وفي مطلع أيلول (سبتمبر) وأواسطه التحق مطار حلب بمطار دمشق فخرج من الخدمة بعد القصف الإسرائيلي لمهابطه، وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) قُتل 21 عنصراً من الفرقة الرابعة في قصف استهدف حافلة في منطقة الصبورة قرب دمشق، وبتاريخ 25 من الشهر ذاته نقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» عن مصادر عسكرية إسرائيلية أنّ دولة الاحتلال دمرت 90% من البنية العسكرية الإيرانية في سوريا. وهذه ليست حصيلة إحصائية تامة، بل هي غيض من فيض ما وقع على الأراضي السورية من اعتداءات إسرائيلية، لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه فيها أنها غالباً لم تستهدف جيش النظام مباشرة، أو الوحدات العسكرية المقرّبة من روسيا على شاكلة كتائب سهيل الحسن (النمر) مثلاً، بل اقتصرت على أهداف تابعة لإيران وميليشياتها.
من جانب آخر، اجتماعي – اقتصادي هذه المرّة، إذا كان ارتهان النظام إلى إيران وروسيا قد أعاد بعض المناطق إلى سيطرته، حتى بالمعنى الإسمي؛ فإنّ ذلك الارتهان عجز، ويواصل العجز، عن انتشال النظام من مشكلات اقتصادية بنيوية، ومن مشاقّ هائلة غير مسبوقة يعاني منها المواطن السوري على صعيد غلاء الأسعار، وندرة الموادّ الأساسية أو رفع الدعم عنها، وانحطاط الخدمات العامة على أصعدة الصحة والماء والكهرباء… ولعلّ المؤشر الأوضح جاء في ختام السنة 2022 حين هبط سعر صرف العملة الوطنية إلى 7000 مقابل الدولار الواحد، وذلك للمرّة الأولى في تاريخ الانهيارات المتعاقبة التي شهدتها الليرة السورية في أسواق العملات. مؤشر آخر هو أنّ معدلات توفير الكهرباء بلغت في بعض المناطق درجة ربع ساعة يتيمة مقابل 10 ساعات انقطاع، هذا عدا حقائق انعدام أصناف الوقود اللازمة لتشغيل المولدات؛ وباعتراف رئيس وزراء النظام، فإنّ سوريا بحاجة إلى 200 ألف برميل من النفط يومياً، بينما إنتاجها لا يتجاوز 20 ألف برميل. وكان النظام يعتمد على توريدات نفطية تؤمنها صهاريج «الحشد الشعبي» تهريباً من العراق، لكنّ عجز النظام عن سداد قيمة المهربات بالعملة الصعبة جعل الميليشيات الحليفة تتوقف عن التوريد، وكانت حال مشابهة قد اكتنفت صادرات إيران من مشتقات النفط إلى النظام.
وفي غمرة مشاقّ طاحنة تخنق حياة السوريين اليومية، وإمعان النظام أكثر فأكثر في الارتهان إلى رعاته الإيرانيين والروس، وعربدة الطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء سوريا طولاً وعرضاً؛ أفلح رأس النظام بشار الأسد في «إنجاز» خطوتَين خارج عنق الزجاجة، تولت أجهزته الإعلامية التهليل لها، متعامية تماماً عما اكتنف الخطوتين من ملابسات فاضحة تضيف الإهانة إلى جراح السوريين. ففي مطلع أيار (مايو) قام الأسد بزيارة خاطفة إلى طهران التقى خلالها المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، وكانت الثانية بعد زيارة أولى في خريف 2019 (أسفرت، يومذاك، عن استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بسبب عدم علمه بالزيارة)؛ من دون الإعلان مسبقاً، ومن دون رفع علم النظام لدى استقبال الأسد، وغمز خامنئي من قناة «بعض قادة الدول المجاورة لإيران وسوريا» الذين «يجلسون مع قادة إسرائيل». وليس أدلّ على هزال هذه الزيارة من حقيقة أنّ خامنئي كان يقصد دولة الإمارات التي طبّعت مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكن تلك التي كانت «إنجاز» الأسد الثاني؛ لأنّ محمد بن زايد استقبل الأخير في أبو ظبي، لأغراض شتى قد يكون تعكير ارتهان الأسد لإيران في طليعتها!
وبين رحيل قَتَلة أمثال علي حيدر (قائد الوحدات الخاصة الأسبق)، وذو الهمة شاليش (المرافق الشخصي للأسدَين الأب والابن وأحد ضباع الفساد)، ومهازل عودة مجرم الحرب الأشنع رفعت الأسد إلى «حضن الوطن»، ومساخر فيديوهات تمساح الفساد رامي مخلوف؛ حملت سنة 2022 الكثير من العلامات الفارقة على اختتام آل الأسد 52 سنة من الاستبداد والفساد والإجرام والتبعية.
القدس العربي