وقِصصُ مقتل طرفة بن العبد وفرار خاله المتلمِّس واعتذاريَّات النَّابغة الذُّبيانيِّ ومدائح المتنبِّي وهجائيَّاته في شخص واحد مثل كافور الإخشيديِّ خير دليل على تقلُّب مواقف الشُّعراء ونظرة أفلاطون الثَّاقبة فيهم. وقد كان أصحاب الفضيلة من الشُّعراء استثناء في القرآن الكريم؛ لأنَّ كثيرًا منهم يهيم في أودية النِّفاق وتزيين الشَّهوات، وقد وصفهم القرآن الكريم في سورة الشُّعراء: (والشُّعراء يتَّبِعُهم الغاوون، ألم ترَ أنَّهم في كلِّ وادٍ يهيمون، وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون، إلَّا الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظُلِموا وسيعلم الَّذين ظَلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون) (سورة الشُّعراء: الآيات 224-227]. كتابه (كليلة ودِمنة) معبِّرًا عن إيمانه بمقولة: (رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي)؛ ولو كلَّفته الصَّراحة أمرًا عظيمًا. وقد تردَّتْ أحوال العرب كثيرًأ حين انتقلوا من النَّقد والوعظ إلى التَّطبيل وتمسيح الجوخ بعد مُدَّة وجيزة من تَرجمة (عبد الله بن المقفَّع/رَوذَبة بن داذويه) كتاب كليلة ودِمنة، وتروي الأخبار أنَّ الخليفة العبَّاسيِّ المتوكِّل خَرَج للصَّيد ذات يوم، وكان معه وزيره؛ فرمى الخليفة العصفورَ سهمًا؛ فأخطأه؛ فقال الوزير: أحسنت يا مولاي! فقال الخليفة: كيف أحسنتُ، وقد أخطأته؟! فقال الوزير: أحسنتَ للعصفور؛ ومنحتَه الحياة يا مولاي! ومنذ ذلك الحين ابتدأت مسيرة طويلة من التَّطبيل وتمسيح الجوخ، ما زلنا نعاني من أصحابها حتَّى وقتنا الرَّاهن في كلِّ مكان.
وبعيدًا عن هؤلاء المرتزقة فقد استمعتُ قبل أيَّام قليلة إلى بودكاستٍ لطالب علم وباحث سوريٍّ متميِّز صان نفسه عن السُّقوط في متاهات التَّطبيل وتمسيح الجوخ، وحفظ وقته لطلب العلم والبحث المفيد بعيدًا عن مَنْفَخات الظُّهور الإعلاميِّ، وتحدَّث عن فكرة جوهريَّة، وقال: إنَّ أحد أساتذته يقرأ الكتاب الطَّويل في جلسة أو جلستين، ولا يُغفل الأستاذ قراءة معلومات الكتاب بدءًا من اسم المؤلِّف واسم المحقِّق ودار النَّشر وتاريخ الطَّبع ومكانه، والحقُّ أنَّ معرفة هذه المعلومات عن الكتاب الَّذي تقرأه أو المنبر الَّذي تظهر فيه شيءٌ مهمٌّ للغاية قبل الشُّروع بقراءة أيِّ كتاب، أو الظُّهور على أيِّ منبر، وقد تكون المعلومات عن صاحب المنبر أهمَّ من المنبر والظُّهور ذاته، وقد تكون المعلومات عن مؤلِّف الكتاب أو مموِّل نشره وغاياته من نشرِ الكتاب أهمَّ من الكتاب ذاته؛ فتخيَّل أن تقرأ كتابًا لا تعرف اسم مؤلِّفه وغرضَه من تأليفه وسنة التَّأليف وسنة النَّشر ومكانه بالإضافة إلى الأيديولوجيا الَّتي يحملها المؤلِّف ومموِّلوه والأفكار الَّتي يحاولون نشرها! تخيَّل أن تقرأ كتابًا لتيودور هرتزل مؤسِّس الحركة الصُّهيونيَّة-على سبيل المثال-دون أن تعرف دوره في التَّنكيل بالشَّعب الفلسطينيِّ الأعزل! تخيَّل أن تقرأ لمؤلِّف صهيونيٍّ آخر من خُلفاء هرتزل أو أعضاء الكينسيت الصُّهيونيٍّ؛ ممَّن يجاهرون بحبَّ الفلسطينيِّين واللُّبنانيِّين والسُّوريِّين في العلن، ويدعمون في السِّرِ قتَلَتَهم كلَّهم من نتنياهو رئيس وزراء الصَّهاينة إلى المجرم بشَّار الأسد وغيره، بل تخيَّل أن تكون مدقِّقًا لغويًّا أو مقدِّم برامج الفكِر أو الجَعْجَعة أو تهريجات البودكاست أو كاتب مقالات مُسْتكتَب عند هذا النَّوع من أصحاب الإعلام الصُّهيونيِّ المعرَّب أو النَّاطق بالعربيَّة! فإن كنتَ تعمل مثل هذا العمل مع درايتك بمخاطرِ فعلتك وإدراكك تأثيرها فهذه مصيبة، وإن كنتَ تعملُ، ولا تدري مخاطر ما تعمله فالمصيبة أكبر! وصدق القائل:
إن كنتَ تدري فهي مصيبة وإن كنتَ لا تدري فالمصيبة أعظم
المناظرة فنٌّ يقوم على الحوار الفكريِّ الهادئ والهادف بين ضيفين أو أكثر؛ لهما آراء متناقضة أو مختلفة حول موضوع محدَّد، يدير هذا الحوار بين الضَّيفين محاور ذو خبرة، يستطيع ضبط الحوار وتقسيم الزَّمن بين الضَّيفين بطريقة عادلة، ويطرح عليهما أسئلة متشابهة ومتمايزة حول الموضوع ذاته، ويقسم أسئلته بين أسئلة مفتوحة، يحقُّ لكلٍّ من الضِّيفين تقديم وجهة نظره ضمن زمن محدَّد، ثمَّ ينتقل إلى أسئلة مغلقة تكون الإجابة عنها بنعم أو لا، وبعد نهاية المناظرة سيخلص المتلقِّي برأي شخصيٍّ حول كلِّ ضيف من ضيوف الحلقة، وإن كنَّا لا نعوِّل-في غالب الأحيان-على المناظرات في تغيير آراء المتلقِّين أو التَّأثير في أيديولوجيَّاتهم فإنَّنا نعوِّل عليها من ناحية الإعجاب ببعض الشَّخصيَّات المتَّزنة القادرة على النِّقاش والحِجاج والتَّأثير والتَّفنيد حتَّى وإن اختلفنا معها في بعض المواقف؛ لأنَّ بيئتنا العربيَّة ما زالت تفتقر إلى هذا النَّوع من المناظرات، ولو طلب منِّي المتلقِّي أمثلة عن المناظرات في تاريخنا العربيِّ فلن أستطيع تزويده إلَّا ببضعة أمثلة؛ كالمناظرة الَّتي ترويها الأخبار بين الإمام أحمد بن حنبل والشِّيعة عندما دخل إليهم للمناظرة متأبِّطًا حذاءه؛ فسألوه عن سبب ذلك؛ فقال لهم: خشيتُ أن تسرقوها كما كنتم تفعلون في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقالوا له: لم يكن هناك شيعة في زمن الرَّسول الكريم؛ فقال لهم: انتهت المناظرة! بالإضافة إلى مناظرة المرحوم الطَّيِّب تيزينيِّ مع محمَّد سعيد رمضان البوطيِّ الَّتي انحاز فيه كثير من الشَّعب السُّوريِّ للبوطيِّ رغبة منهم بأن يقودهم البوطيُّ إلى الجنَّة لا أن يتَّهمهم بأنَّ جباههم لا تعرف السُّجود عندما ثاروا ضدَّ المجرم بشَّار الأسد! وبالأمس كانت هناك مناظرة شهيرة بين جو بايدن رئيس أمريكا الحاليِّ ومنافسه على مقعد الرِّئاسة والرَّئيس السَّابق دونالد ترامب، وقد مال الشَّعب الأمريكيُّ إلى تفوُّق ترامب على بايدن، وينتظر العالم جولة المناظرة القادمة بين المرشَّحين في العاشر من أيلول/سبتمبر القادم 2024، إن لم يحدث ما يُلغي هذه المناظرة كمزيد من الاختلال في اتِّزان بايدن وأجوبته أو القبض على دونالد ترامب والزَّجِّ به في السِّجن بعد إدانته بقضايا متعدِّدة لدى القضاء الأمريكيِّ.
----------
العربي القديم
فنُّ تمسيح الجوخ
وبالطَّبع ليس للشُّعراء أيُّ مكان بالقرب من طبقة الملوك وخواصِّهم من الفلاسفة على رأس مدينة أفلاطون الفاضلة؛ إلَّا إذا احتاج الملك مَن يُطبِّلَ له، ويَمْسَحْ على جوخه، ويُسلِّيه في ليلة من ليالي أُنسه أو ضَجره؛ لأنَّ الفلاسفة يزدرون هذه الأفعال، ولا يقدرون إلَّا على قول الحِكمة من خلال الوعظ السِّياسيِّ المباشر أو على ألسنة الحيوانات للتَّخفيف من حِدَّة الوعظ كما فعل ديبيا فيلسوف الهند فيانتبه! لِمن تَقرأ؟ وفي أيِّ منبر تظهر؟!
ولأنَّ التَّطبيل وتمسيح الجوخ صار مذهبًا لا يستطيع عَفْلَطُون أن يستقدِم إلى جمهوريَّته أو تلِّه الإعلاميِّ فيلسوفًا كي يحاوره، أو يعظه بحكمة، ويجعل منه مفكِّرًا حقيقيًّا، بل يستقدم مسِّيحة الجوخ من أذناب الشُّعراء والمريدين، أو من مقدِّمي البودكاست الشِّعريِّ من شُرَّاح كلام الشُّعراء أو أذناب أذنابهم، وكلمة أذناب ههنا ليست مكرَّرة؛ لأنَّ الأذناب لها أذناب أيضًا؛ لتشرح كلامها، وتسبِّح بحمدها، وتقول على أقوالها، وتوهم أدعياء الثَّقافة من العامَّة بأنَّها تُقدِّم لها ثقافتها، وتصون لها تراثها، في الوقت الذَّي تمارس فيه التَّضليل والتَّجهيل معًا.وبعيدًا عن هؤلاء المرتزقة فقد استمعتُ قبل أيَّام قليلة إلى بودكاستٍ لطالب علم وباحث سوريٍّ متميِّز صان نفسه عن السُّقوط في متاهات التَّطبيل وتمسيح الجوخ، وحفظ وقته لطلب العلم والبحث المفيد بعيدًا عن مَنْفَخات الظُّهور الإعلاميِّ، وتحدَّث عن فكرة جوهريَّة، وقال: إنَّ أحد أساتذته يقرأ الكتاب الطَّويل في جلسة أو جلستين، ولا يُغفل الأستاذ قراءة معلومات الكتاب بدءًا من اسم المؤلِّف واسم المحقِّق ودار النَّشر وتاريخ الطَّبع ومكانه، والحقُّ أنَّ معرفة هذه المعلومات عن الكتاب الَّذي تقرأه أو المنبر الَّذي تظهر فيه شيءٌ مهمٌّ للغاية قبل الشُّروع بقراءة أيِّ كتاب، أو الظُّهور على أيِّ منبر، وقد تكون المعلومات عن صاحب المنبر أهمَّ من المنبر والظُّهور ذاته، وقد تكون المعلومات عن مؤلِّف الكتاب أو مموِّل نشره وغاياته من نشرِ الكتاب أهمَّ من الكتاب ذاته؛ فتخيَّل أن تقرأ كتابًا لا تعرف اسم مؤلِّفه وغرضَه من تأليفه وسنة التَّأليف وسنة النَّشر ومكانه بالإضافة إلى الأيديولوجيا الَّتي يحملها المؤلِّف ومموِّلوه والأفكار الَّتي يحاولون نشرها! تخيَّل أن تقرأ كتابًا لتيودور هرتزل مؤسِّس الحركة الصُّهيونيَّة-على سبيل المثال-دون أن تعرف دوره في التَّنكيل بالشَّعب الفلسطينيِّ الأعزل! تخيَّل أن تقرأ لمؤلِّف صهيونيٍّ آخر من خُلفاء هرتزل أو أعضاء الكينسيت الصُّهيونيٍّ؛ ممَّن يجاهرون بحبَّ الفلسطينيِّين واللُّبنانيِّين والسُّوريِّين في العلن، ويدعمون في السِّرِ قتَلَتَهم كلَّهم من نتنياهو رئيس وزراء الصَّهاينة إلى المجرم بشَّار الأسد وغيره، بل تخيَّل أن تكون مدقِّقًا لغويًّا أو مقدِّم برامج الفكِر أو الجَعْجَعة أو تهريجات البودكاست أو كاتب مقالات مُسْتكتَب عند هذا النَّوع من أصحاب الإعلام الصُّهيونيِّ المعرَّب أو النَّاطق بالعربيَّة! فإن كنتَ تعمل مثل هذا العمل مع درايتك بمخاطرِ فعلتك وإدراكك تأثيرها فهذه مصيبة، وإن كنتَ تعملُ، ولا تدري مخاطر ما تعمله فالمصيبة أكبر! وصدق القائل:
إن كنتَ تدري فهي مصيبة وإن كنتَ لا تدري فالمصيبة أعظم
إيَّاك أن تخدعَكَ الثَّقافة الزَّائفة!
القراءة-في أبهى صورها-شراكة عقليَّة بين المؤلِّف والقارئ؛ وكذلك متابعة البودكاست في وقتنا الرَّاهن؛ لذلك احرص على متابعة مَن يوقظ تفكيرك! ولا تتابع طَقطَقات المتذبذبين وشروح قصائدهم في بودكاست مسِّيحة الجوخ المنافقين على منابر الصَّهاينة أو المتصهينين! ولو فعلتَ ذلك فقد سلَّمتَ عقلَك لِمَن تقرأ أو مَن تحضرَ مؤتمَرَه، أو تُتابع بودكاسته! ومَن قرأ لكاتب أو فيلسوف عظيم-كذلك-فقد شاركه في عقله، ومَن سلَّم أُذنيه لمفكِّر صهيونيٍّ أو متصهين أو مركز دراسات مموَّلٍ منه فلا شكَّ أنَّه سيبول له فيهما، وقد لا يكتفي بالبول فقط، وإن تقنَّع مقدِّمو برامجه وبودكاستاته والمشرفون على بحوث مؤتمراته بقناع التُّراث وتقديم الجلسات الفكريَّة وشرَحِ الشِّعر العربيِّ؛ ونحن أدرى النَّاس بتقلَّبات الشُّعراء، الَّتي فهمها أفلاطون قبلنا؛ فأبعدهم عن مدينته الفاضلة، ونبَّهَنا القرآن الكريم إلى مخاطرهم ومخاطر الهَيَمان خلفهم؛ بما لديهم ولدى مقدِّمي بودكاستاتهم من قدرات كبيرة على التَّمثيل والتَّضليل، ومن خلال المحاكاة الزَّائفة يستطيع الواحد منهم أن ينتقل من الحديث عن رحلة الظَّعائن عند امرئ القيس-دون رابط بينهما-إلى الحديث عن المكان في المديح النَّبويِّ ثمَّ إلى الحديث عن رحلة الظَّعينة من جرابلس حتَّى إدلب دون الخوف من ليلى والذِّئب أو الوقوف على أيِّ حاجز؛ وقد أدرك عَفْلَطون قدرة هؤلاء الأذيال من أنصاف الشُّيوخ والشُّعراء وشُرَّاح الكلام من مهوسي التَّقديم في برامج البودكاست والفضاء الأزرق؛ فاستقدمهم إلى تلَّته بعد أن خرَّب سوريا مع المجرمين، وناموا جميعًا على ظهرِ تلَّتِها، وصار يسرق آراء المفكِّرين من أصحاب الكتابات الأجنبيَّة، وينشرها بين العرب باللُّغة العربيَّة، وينسُبُها إلى نفسه، ويرتِّب ظهوره الإعلاميَّ بوصفه مفكِّرًا عربيًّا بين الآونة والأخرى، وينتقي أفضل مسِّيحة جوخه لاستقباله في برامجهم ومحاورته في ندواتهم (الفكريَّة) حول مستجدَّات المرحلة و(تقدير الموقف للتَّنبُّؤ) بقضاياها المستقبليَّة الطَّارئة.طبقات مهرِّجي اليوتيوبريَّة أم طبقات فحول الشُّعراء؟
هناك كثافة غير طبيعيَّة في تقديم البودكاستات العربيَّة وبثِّها وتحميلها على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في (اليوتيوب والفيس بوك والتِّيك توك والانستاغرام ومنصَّة إكس/تويتر وغيرها)، ومعظم الَّذين يبثُّون هذه البودكاستات يؤمنون بامتلاكهم موهبة أو محتوى يمكنه أن يحقِّق جماهيريَّة ما؛ وفي محاولة لترتيب أشهر البودكاستات الَّتي تعترضني في جمهوريَّة عَفْلَطُون (غير الفاضلة) أو على مواقع التَّواصل الاجتماعيّ، والَّتي تحقِّق نسبًا متفاوتة من المتابعة؛ سنبدأ من أتعس هذه البودكاستات ومرتبتها الأخيرة-من وجهة نظري-ألا وهي: بودكاستات تقويل الشِّعر العربيِّ وشرحِه بثِّ بعض مواضيعه وفنونه لدى بعض الهواة أو المختصِّين؛ وههنا أتَّفق مع أفلاطون لا مع عَفْلَطُون في ضرورة إبعاد معظم الشُّعراء وشُرَّاحهم عن الفضاء الأزرق، وآمل بنفي عَفْلَطون ذاته مع شُرَّاح الأشعار في البودكاستات إلى جزيرة سرنديب، حيث لا إنترنيت ولا شابكة؛ لنستريح منهم ومن شرحهم مِن جعجعتهم ومن سماجة أقوالهم وفظاظة ظهورهم وبلادة منشوراتهم المبنيَّة أساسًا على شرح أقوال غيرهم من الشَّعراء، ولاحظتُ في الآونة الأخيرة عزوف المتلقِّي العربيِّ -سبب فظاظتهم وتقلُّب الشُّعراء معًا-عن بودكاستات الشِّعر وشروحه برغم اشتراك بعض من أفراد القاعدة الجماهيريَّة لهذا النَّوع من البودكستات مع بعض مقدِّميها بهوس الثَّقافة الزَّائفة داخل جمهوريَّة عَفْلَطون والتَّطبيل فيها لأولياء ثقافتهم الزَّائفة من خلال مَقْمَقَةِ القول بعيدًا عن تخوم مدينة أفلاطون وأخلاقها الفاضلة.طبخ ونَفخ ولهو
بعد بودكاستات الشُّرَّاح ومَقْمَقةِ الحديث الإنشائيِّ الزَّائف عن جماليَّات الشِّعر والشُّعراء تأتي مجموعة كبيرة من بودكاستات الطَّبخ والنَّفخ والتَّنكيت واللَّهو الممزوج بالبلاهة حينًا وبالمجون حينًا آخر، وبرغم تفاهة هذه البودكاستات يحقِّق بعضها أو كثيرٌ منها متابعات جماهيريَّة متوسطِّة حينًا، أو عالية حينًا آخر، وتُشعل جماهيريَّة هذه البودكاستات غيرة أصحاب الشَّروح الشِّعريَّة في معظم الأحيان، والحقُّ أنَّ المتابعة لا تأتي من جودة المحتوى في معظم الأحيان، وإنَّما تأتي لأنَّها تحاكي غريزة الجوع البدائيَّة لدى الإنسان أو الميل الفطريِّ نحو اللَّهو لدى المتلقِّي بعد ساعات من العمل الشَّاقِّ. وقبل بودكاستات الطَّبخ واللَّهو بمرحلة واحدة تصطفُّ مجموعة من البودكاستات (التِّلفزيون العائليِّ) أو (التِّلفزيون المنزليِّ)؛ لتتنافس معها على التَّرتيب بعد أنْ نذر بعضُ صُنَّاع المحتوى أنفسهم لتصوير حياتهم العائليَّة أو المنزليَّة الخاصَّة وتقديمها للمتابعين-لا سيَّما الأطفال-من أجل تحقيق المتابعة والانتشار. وترتقي فوق هذه الفديوهات المنزليَّة مجموعة من البودكاسات الحواريَّة المتفاوتة في جودة مواضيعها وجودة أسئلة مقدِّميها وطريقتهم في نِقاش ضيوفهم من ذوي الجودة المتفاوتة والخبرات المتمايزة، ويسقط بعض المقدِّمين في فخِّ التَّطبيل لضيوفهم أو تمسيح الجوخ لهم، ويحقِّقُ بعض هذه البودكاستات الحواريَّة (ضربات أو ضجَّات يوتيوبيَّة) بعض الأحيان، عندما تكون تجربة الضِّيف ملهمة وأجوبته ذكيَّة ومباشرة وصادقة وبعيدة عن التَّصنُّع أو استعراض انتفاخ الكولون الثَّقافيِّ.بودكاستات المناظرة
برغم تقدُّم البودكاست في منافسة شرسة مع برامج التِّلفزيون ما زالت قنوات التَّلفزة وبرامجها الحواريَّة أو مناظراتها الأسبوعيَّة تتفوَّق على برامج البودكاست بسبب الخطَّة البرامجيَّة والتَّمويل الثَّابت والتَّقديم الاحترافيِّ في برامج التَّلفزة مقارنة بهواية التَّقديم والرَّغبة في خوضِ تجربة جديدة لدى مقدِّم البودكاست الهاوي أو غير المموَّل؛ الَّذي يعتمد على علاقاته الشَّخصيَّة في استقطاب الضُّيوف المتميِّزين لسدِّ الهوَّة، الَّتي يعاني منها مِن حيث ضعف التَّمويل أو انعدامه بالإضافة إلى ميلِ الضَّيف صاحب القمية (الإعلاميَّة أو الشَّعبيَّة أو الجماهيريَّة) للظُّهور في برامج التَّقلزة الثَّابتة، الَّتي تقدِّمها شخصيَّات إعلاميَّة مشهورة، وتموِّلها شخصيَّات معروفة في مجال الإعلام. وبرغم زحمة البودكاست ما زالت برامج المناظرات في الإعلام العربيِّ قليلة؛ وما زال المتلقِّي يميل إلى برامج المناظرة واستقدام ضيفين جيِّدين أو أكثر من تيَّارات فكريَّة متمايزة أو مشارب ثقافيَّة متنوِّعة؛ ليشاهد المتلقِّي بأمِّ عينه الرَّدَّ على الحجَّة بحجَّة مثلها أو أقوى منها، وضرب الجدل بالجدل، وتفنيد المغالطات المنطقيَّة بالحجج العقليَّة، وبهذا أو بمثله يمكن التَّعويل على البودكاست في صناعة بصمة إعلاميَّة وخَلْقِ وعيٍ عربيٍّ جديدٍ؛ ونظرًا لصعوبة جمعِ المتحاورين من أصحاب المواقف المتباينة في سوريا خلال عشرة الأعوام الأخيرة لجأ بعض صنَّاع المحتوى مثل: ميسون بيرقدار ويمان النَّجَّار ونور الحلبيُّ وغيرهم إلى الاتِّصال-بطريقة أو بأخرى-بالشَّخصيَّات السُّوريَّة صاحبة القيمة الإعلاميَّة (كالممثِّلات المشهورات والفنَّانين وبعض المسؤولين الَّذين ما زالوا تحت سقف الوطن في سوريا)، وراحوا يقومون بدور المقدِّم صاحب الرَّأي الآخر من خلال جهودهم الفرديَّة، وأشبعوا بعضًا من شغفِ المتلقِّي المحبِّ للنَّميمة أو الرَّاغب بالاستماع إلى الآراء المتناقضة والمشتاق إلى إضاءة إعلاميَّة على منطقة مظلمة بعيدًا عن جَعجَعة المتاح في كلِّ زمان ومكان، وحقَّقت محاولات هؤلاء متابعات جيِّدة.المناظرة فنٌّ يقوم على الحوار الفكريِّ الهادئ والهادف بين ضيفين أو أكثر؛ لهما آراء متناقضة أو مختلفة حول موضوع محدَّد، يدير هذا الحوار بين الضَّيفين محاور ذو خبرة، يستطيع ضبط الحوار وتقسيم الزَّمن بين الضَّيفين بطريقة عادلة، ويطرح عليهما أسئلة متشابهة ومتمايزة حول الموضوع ذاته، ويقسم أسئلته بين أسئلة مفتوحة، يحقُّ لكلٍّ من الضِّيفين تقديم وجهة نظره ضمن زمن محدَّد، ثمَّ ينتقل إلى أسئلة مغلقة تكون الإجابة عنها بنعم أو لا، وبعد نهاية المناظرة سيخلص المتلقِّي برأي شخصيٍّ حول كلِّ ضيف من ضيوف الحلقة، وإن كنَّا لا نعوِّل-في غالب الأحيان-على المناظرات في تغيير آراء المتلقِّين أو التَّأثير في أيديولوجيَّاتهم فإنَّنا نعوِّل عليها من ناحية الإعجاب ببعض الشَّخصيَّات المتَّزنة القادرة على النِّقاش والحِجاج والتَّأثير والتَّفنيد حتَّى وإن اختلفنا معها في بعض المواقف؛ لأنَّ بيئتنا العربيَّة ما زالت تفتقر إلى هذا النَّوع من المناظرات، ولو طلب منِّي المتلقِّي أمثلة عن المناظرات في تاريخنا العربيِّ فلن أستطيع تزويده إلَّا ببضعة أمثلة؛ كالمناظرة الَّتي ترويها الأخبار بين الإمام أحمد بن حنبل والشِّيعة عندما دخل إليهم للمناظرة متأبِّطًا حذاءه؛ فسألوه عن سبب ذلك؛ فقال لهم: خشيتُ أن تسرقوها كما كنتم تفعلون في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقالوا له: لم يكن هناك شيعة في زمن الرَّسول الكريم؛ فقال لهم: انتهت المناظرة! بالإضافة إلى مناظرة المرحوم الطَّيِّب تيزينيِّ مع محمَّد سعيد رمضان البوطيِّ الَّتي انحاز فيه كثير من الشَّعب السُّوريِّ للبوطيِّ رغبة منهم بأن يقودهم البوطيُّ إلى الجنَّة لا أن يتَّهمهم بأنَّ جباههم لا تعرف السُّجود عندما ثاروا ضدَّ المجرم بشَّار الأسد! وبالأمس كانت هناك مناظرة شهيرة بين جو بايدن رئيس أمريكا الحاليِّ ومنافسه على مقعد الرِّئاسة والرَّئيس السَّابق دونالد ترامب، وقد مال الشَّعب الأمريكيُّ إلى تفوُّق ترامب على بايدن، وينتظر العالم جولة المناظرة القادمة بين المرشَّحين في العاشر من أيلول/سبتمبر القادم 2024، إن لم يحدث ما يُلغي هذه المناظرة كمزيد من الاختلال في اتِّزان بايدن وأجوبته أو القبض على دونالد ترامب والزَّجِّ به في السِّجن بعد إدانته بقضايا متعدِّدة لدى القضاء الأمريكيِّ.
----------
العربي القديم